عبدالرحيم التدلاوي - مقومات الكتابة في مجموعة "من أين يأتي الضوء؟"

صدرت عن مطبعة سليكي اخوين المجموعة القصصية "من أين يأتي الضوء" للمبدعة فاطمة كطار، في طبعتها الأولى سنة 2020، وتضم بين حناياها كتابين، الأول منح عنوانه للمجموعة كاملة واشتمل على 18 نصا، والثاني جاء بعنوان "عندما رحلت أوتارك"، واشتمل على 15 نصا، ورتبا بحسب أقدميتهما؛ وهو ترتيب يسمح للدارسين بقراءة تجربة المبدعة وما عرفته من تطور؛ والأكيد أنها تجربة لا تفيد القطع والفصل بين مرحلتي الكتابة، بل هي تطور له ثوابته ومتغيراته. ويمكن للقارئ تلمس مدى هذا من خلال عقد مقارنة بين الكتابين، إذ سيلاحظ ضمور الواقعي لحساب الشعري الطافح في الكتاب السردي الثاني.
عتبات المجموعة:
1_ العنوان:
يتكون من شبه جملة، أساسها حرف الجر "من" الذي يفيد الابتداء، و"أين" اسم استفهام يرتبط بالمكان، وتأتي الجملة نواة السؤال، وهي عبارة عن جملة قصيرة التركيب كالضوء المبحوث عن مصدره، من فعل لازم: "يأتي"، وفاعله: الضوء.
والسؤال بحث عن مصدر الضوء، وفي الوقت نفسه تشكيك في وجوده، بمعنى أن الضوء مستحيل القدوم، ويكون بذلك سؤالا ساخرا يحمل كما من المرارة والخيبة. فالسؤال يختزن الشك واليقين، ويترك فسحة التأويل للقارئ، بأن يميل للشك في قدوم الضوء، أو أن يميل ليقين إتيانه لكنه يود معرفة مكان قدومه فقط.
أود الإشارة إلي جانب آخر في العنوان يمنح الأرجحية للدلالة الأولى؛ هذا الجانب الذي يظهر في علامة الاستفهام؛ إذ جاءت كهلال مفتوح على الجانب الأيمن وكأنه يقول لنا إن الضوء يأتي من هناك؛ من كل ما يشبه القمر كالقلب مثلا؛ ويتقوى هذا الجانب بتلك النقطة التي تشبه تلك النجمة التي ترافق القمر.
2_ لوحة الغلاف:
كل قراءة يجب أن تجيب عن سؤالين أساسيين، الأول هو، ماذا تقول الصورة، والثانية كيف تقول ما تريد أن تقوله؟ الصورة هي لامرأة أتت على خلفية خضراء، واللون الأخضر يحمل في طياته أبعادا رمزية مختلفة، قد يأتي رمزا للسلام والنور وللجمال وللخصوبة وللعطاء أيضا. يؤثثها الحزن والانكسار وربما القهر. تبدو ضعيفة وقوية في الآن ذاته. يتجلى الضعف في جسدها المنهك وفي عينيها الحزينتين والمنكسرتين، وانحناءة رأسها. وربما تتجلى القوة في التمرد الظاهر على ملابسها، ولون شعرها الأحمر وتسريحته. كما أن فستانها يحمل بعدي الانكسار والانتصار، فشريط الفستان نازل جهة اليسار وثابت جهة اليمين. الصورة تحمل المعنى وضده، تستضمر ثناية ضدية تستدعي الوقوف عندها وتفكيكها من خلال النصوص المؤثثة للمجموعة.
الواقعي والخيالي في العمل:
في عملها الأول؛ من أين يأتي الضوء؟ يتحقق ذلك اللقاء السعيد بين الواقعي والخيالي؛ فالمبدعة تنطلق من حدث واقعي بسيط وتنفث فيه من روح الخيال ليتشكل نصا قصصيا ممتعا وعميقا؛ يبدو كأنه واقعي؛ لكنه في الحقيقة يعيد بناءه وفق اشتراطات القصة القصيرة فيأتي النص متوهجا واقعا وخيالا. تميل المبدعة إلى البساطة في البناء والتشكيل؛ لكنها بساطة تدخل ضمن السهل الممتنع؛ بساطة لا تفرط في البعدين الفني والجمالي؛ ولا تتسامح مع السطحية؛ فالبساطة تعني، هنا، العمق. وتميل إلى خلق شروط التلقي السليم؛ وبناء جسور التواصل الناجح مع القارئ بحيث لا يشعر بنفور أو هروب.
تستقي المبدعة موضوعاتها من الواقع؛ لكن ليس أي واقع؛ إنه واقع المهمشين والمقصيين؛ تنزل إلى قاع المجتمع لتعري ما يعتمل فيه؛ وتقدم المسكوت عنه في عنفه وطزاجته؛ ويبدو ذلك جليا ابتداء من العناوين؛ حيث نجد "عيشة دميعة" و"ولد مو" و"بوصلعة" و"دمدومة"، كأمثلة على هذا القاع وشخصياته المنبوذة لكنها؛ أي الشخصيات، تمتلك حسا إنسانيا وطيبوبة وتمتلك مشاعر تسمح لها بالحب والعيش في سعادة رغم كم البؤس الغارقة فيه؛ إنها تصنع واقعها الذي يسمح لها بالتمسك بحبل الحياة وتشكله وفق نبضها لتشعر بالسعادة رغم انف السلطة وتهميشها.
من أهم ثيمات المجموعة؛ شقاوة الطفولة:
عالم الطفولة وما يطبعه من عنف وقسوة كما في نص؛ عيشة دميعة؛ فقد اتفق الأطفال الأربعة على إلحاق أكبر أذى بصديقهم ومحاولة تعذيبه نفسيا وجسديا. عالم فظيع وويل للضعاف فيه. فمن لا يمتلك أدوات الدفاع بل الهجوم بتعرض للقسوة والتحقير. تحضر في النص مسالة الأهواء والاستجابة لما تمليه النفس الأمارة بالسوء وعدم انضباطها للموانع الدينية والإنسانية. وهذا النص يستدعي نصا آخر ويتصادى معه، ويتناول الثيمة نفسها، ويعرض العنف نفسه÷ إنه نص "السكاباندو" للمبدع عبد السميع بنصابر. فهل يمكن الحديث عن تناص أم عن تقاطع؟ فبالنظر إلى أسبقية صدور مجموعة "السكاباندو"، يمكن القول إن المبدعة قد اطلعت عليها، وهو أمر وارد لكون النصين معا يرصدان قسوة الأصدقاء وعنفهم الموجه إلى شخصية ضعيفة إما لبنيتها أو لشكلها أو للونها..وانتهاء القصتين إما بموت حقيقي كما في "السكاباندو" أو معنوي كما في "عيشة دميعة"، يقول السارد معبرا عن هذا الموت المعنوي موظفا ألفاظا توحي بالتشييع: ..وقد ختمنا فرحتنا يومها، بإيصاله إلى منزله ونحن نردد خلفه_دائما_ مع تصفيقات منسجمة مع اللحن "عيشة دميعة لبكاي، عيشة دميعة لبكاي". ص23. فمجمل الكلمات تشبه تشييع جنازة بالرغم من ورود كلمتي الفرح والتصفيقات؛ فالإيصال إلى المنزل، وترديد كلمات من الخلف..لها هذا الوقع الحزين.
وإذا كانت قصة؛ ولد مو؛ تدخل في إطار شيطنة الطفولة وشغبها؛ وتتصادى وقصة؛ عيشة دميعة؛ كون شخصيتيها تبالغان في السخرية من شخصية ثالثة موسومة بالجبن؛ إلا أنها لا تشبع رغبتهما في إلحاق الأذى أو أن الإشباع لم يتحقق كليا لأمرين؛ أولهما رفع ولد المو التحدي وخوض غمار السباحة رغم أنه لا يحسنها؛ وثانيا لخوف الشخصيتين من أن يفشي ولد مو الأمر فيعاقبان بحرمانهما من مزاولة متعة السباحة خفية. وبهذا يكونان قد صارا هما الضحيتين فامتلاك ولد مو ورقة الانتقام مكنته من قلب المعادلة فصار قويا بعد ضعف.
تقنيات المجموعة:
1_ ضمير المتكلم المذكر:
من بين التقنيات الموظفة اعتماد ضمير المتكلم المذكر؛ وهو اختيار جمالي وفني يهدف إلى تحقيق هدفين يبدوان متعارضين؛ فمن جهة تحقيق الإيهام بالواقعية؛ ومن جهة أخرى تكسير وفك أي ارتباط أو تماه بين السارد والمؤلفة؛ هذا التكسير الذي يقوي دلالة الميثاق السردي الذي يؤكد على أن الكتابة تخييلية وأنها توهم بالواقع دون أن تكرره؛ إنها كتابة تعيد بناءه وفق إيقاعها الخاص. وعلى القارئ ألا يخلط بين المحفلين؛ وألا يدمج بينهما. إن ضمير المتكلم المذكر محفل تخييلي يقوم بصنع الواقع باعتماد مواد الواقع الحقيقي؛ صنع يحمل بصمته ويكسرها في الآن ذاته. إن المبدعة وهي تختار هذا الضمير كانت واعية بأهمية خلق تباعد بينها وبين السارد وتسعى إلى إقناع القارئ المتعجل أنها مستقلة عنه؛ وأن ما يقرأه ليس سيرة ذاتية حتى يربط بين المحفلين...وأي قراءة تميل إلى ربط ما بين السارد والمبدعة ينبغي أن يتسلح بقواعد المنهج النفسي ليقدم الحجج على التقارب بينهما، وعن سر هذا الاختيار..
والسرد بضمير المتكلم وسيلة من الوسائل المهمة التي تعين الكاتب على نقل مشاعره وإحساساته إلى القارئ ، والسر في هذا أنَّ هذا النوع من السرد يتيح للكاتب أن يتوغل في أعمق أعماق الشخصية صاحبة الضمير ، فيتحدث عن أدقّ مشاعرها وأخفى أفكارها بطريقة مونولوجية استذكارية أو اعترافية أو استشرافية ، فيوصل إلى القارئ ما يريد إيصاله من مشاعر وأفكار دون أن يُشعره بالتعمل أو التكلف.
2_ جدلية الظاهر والمضمر:
كما في قصة "فراق من أول لقاء" حيث تميل الشخصيات إلى الاقتناع بالظاهر والتعلق به لكونه يمنح النفس اطمئنانا بدل المضمر الذي يعبر عن الحقيقة التي تبغي تواريا. وهذه الجدلية ترتبط بثنائية القرب والبعد؛ الصد والقرب. فهذه الثنائية تكشف الواقع المرير وتعري ما يعتمل في النفوس؛ وبالرغم من ذلك تتشبث الشخصيات بالوهم بدل رؤية الحقيقة الصادمة.
وقريبا منها، بل تنويعا لها؛ جدلية الإخفاء والإظهار:
في قصة الاعتراف تحضر جدلية الإخفاء والإظهار؛ جدلية التواري والفضح. فالقصة تمارس لعبة التعرية بفضح شخصية الخطيب الذي يعاني من فوبيا الكلاب ويسعى إلى إخفاء هذا الضعف عن خطيبته وقد كان يميل إلى الاعتراف لكن دفء اللقاء منعه من ذلك بيد أن كلب أخي الخطيبة سيعريه ليحصل ما كان يتجنبه وهو فسخ الخطوبة. ويزاول النص لعبة التخفي والتجلي إذ يحملنا على الاعتقاد بأن القصة برمتها مجرد حلم. لكنه حلم كاشف وفاضح.
3_ تقنية اللقطة من تحت:
وهي تقنية سينمائية تمكن المشاهد من التقاط الخصوصيات. وتعرية المستور كما في قصة "فردة حذاء" وخاصة في تلك اللقطة/المشهد الذي يعرض ألبسة بعض الشخصيات، ويتعزز المشهد ويتعضد بملاحقة التفاصيل الدقيقة المحيطة به:
العمالقة لا ينظرون إلى أسفل، لكنني أراهم جميعا بحجم غير طبيعي. أرى جارتنا "السعدية"، أقصد أرى سروالها المتآكل، به ثقوب تسمح بنفاذ الهواء منها، وكأن هذا هو سبب مصاحبتها له مدة طويلة. وهذا جارنا "علال" الذي رفضني زوجا لابنته، يشد وسطه بحزام السلامة كما يسميه مازحا، حتى لا يسخر منه أصدقاء الحي.. ص15، وهذا الوصف من الأسفل يحقق للسارد السخرية ممن يعتبرون أنفسهم عمالقة، وفي الوقت نفسه إعادة الاعتبار لنفسه المجروحة جراء ما تعرض له من تنقيص واحتقار: وأعرض ما أخفاه، يقصد "علال" حزامه للخطر.
4_ تقنية الحلم:
وهي تقنية تعبر عن أثر الواقع في الذات المنصتة وما يخلفه الكلام من وقع على نفسها؛ بيد أن هذا الحلم يعيد بناء تلك العناصر وإخضاعها لرغبات الذات؛ ويكيفها لتستجيب لرغباتها الداخلية والعميقة. فيصير الحلم بمثابة لا وعي يفضح الرغبات المضمرة للشخصيات...
5_ تقنية المماثلة:
وهي تقنية تجمع بين النقيضين في تركيبة واحدة بالبحث عن العنصر الجامع بينهما. كالجمع بين السامي والمنحط؛ بين المادي والمعنوي؛ كما في نص "أبحث عن قصيدة". فالقصة تمتلك ثلاث شخصيات مهمة فضلا عن المعيق المتمثل في الأب؛ هذه الشخصيات هي: الإخوة والجدة والسارد الشاعر. فأين تحضر المماثلة؟ في الحضور؛ أولا بين السارد الذي يهيمن وجوده على النص؛ ويستفرد بثلثي القصة حيث يخصصها لنفسه؛ وبين الجدة؛ هاته الأخيرة التي تعاني حبسة لم تمكنها من نطق الجملة المقدسة بالشكل الصحيح. والأكيد أنها ستنطقها صحيحة مع المران والتدريب؛ لتعرف ثلاثة مراحل وهي الأمية التي تفيد الفراغ ثم النطق غير السليم ثم النطق الصحيح وهي مراحل الإبداع التي تنطلق من الفراغ فالمخاض فالإنجاز؛ لكن الاختلاف يكمن في كون الجدة لا تبدع بل تعيد إنتاج نص قبلي؛ أما السارد فببدع أي يقدم شيئا جديدا وإضافيا. والمماثلة بين الإخوة والسارد تجمع بين النقيضين السامي والمدنس؛ فإذا كان السارد يبحث عن القصيدة فإن الإخوة يرغبون في التخلص مما في متانتهم. لكن الجامع بين الطرفين يكمن في الحبسة؛ ومردها إلى الأب الذي يشكل عائقا؛ وبغيابه يتحقق التحرر.
6_ جدلية المقدس والمدنس:
ويأتي نص "صريصيرة" ليقوي بعد المدنس والسامي؛ بين السفلي والعلوي؛ فالسارد بعد أكله للوبيا شعر برغبة في التغوط؛ وهو فعل يرتبط بالاحتفاء بالمخرج أو بالسفلي الذي يمتلك سلطته ويفرض حضوره ولا يمكن إلا الاستجابة لرغباته وإلا أوقعك في حرج. ولأن السارد صار عبدا لرغبة جسده المطالب بالإفراغ بعد امتلاء فإن سلطة الخوف أعاقت ذهابه إلى المرحاض بالخارج؛ فما كان منه إلا أن حمل آنية غالية من الفترينة العالية ليمارس فعل التدنيس أي التغوط؛ مما أوقعه في ورطة مع أمه لأن الرائحة فضحته لقد امتلك الجسد قوته وبعث برسائله التي يسعى الجميع إلى إخفائها. وكأن النص يحتفي بالجسد وهو يسرد علينا حكايته ويقدمها على غيرها ساخرا مما هو سام أو في مقامه.
الكتاب الثاني:
جاء الكتاب الثاني رمزيا بامتياز باعتماده الإيحاء بدل الواقعية كما في الكتاب الأول. وكانت الخيبة هي العنوان الأبرز في علاقة المرأة بالرجل.
ترسم قصص الكتاب الثاني علاقة التوتر بين الطرفين؛ برصد متعدد الجوانب والزوايا؛ فمن خلال الماضي والحاضر وبين المأمول والمعطي وبين الحلم والواقع ينبثق سؤال الخيبة وأسباب فشل هذه العلاقة . والبين هيمنة هذه الثنائيات حتى على مستوي الكتابة التي تجمع بين عنصري أساسين وهما السردي والشعري.
وهذا التركيز على علاقة الخيبة بين الرجل والمرأة يجعل صورة الغلاف ألصق بالكتاب الثاني؛ في حين ارتبط العنوان المظلة بالكتاب الأول؛ وكأن هناك رغبة مضمرة في توزيع عادل لمكونات الغلاف الأمامي على الكتابين معا حتى تكون تلك المكونات معبرة عن المجموعة في شموليتها..
ما يشبه الختم:
على سبيل الختم
نستخلص، مما سبق ذكره، أن الكاتبة فاطمة استطاعت من خلال هذا المنجز الإبداعي "من أين يأتي الضوء؟" أن تتفاعل مع موضوعات متباينة، وتتجاوب معها بتقنيات عدة وعدة فنية وجمالية قوية، فراحت تتغلغل في أحشاء الواقع والشخصات وتسبر أغوارهما لتصل إلى ما تحب من جمال وروعة؛ وقد أسعفتها في بلوغ هذا المرام العسير، قدرات إبداعية متميزة وملكات فنية واضحة. ولعل تعدد موضوعات المجموعة القصصية واختلاف طرق التناول، وتباين أشكال البناء، وخاصة بين الكتابين، سيكون فرصة لقراءة تجربة القاصة، وتلمس تطور منجزها القصصي، ويسمح للقارئ بانتظار أعمال جديدة أكثر إدهاشا وجمالا..


1604793464327.png



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى