مصطفى عبدالله - فاتحة لصاحب المقام

معرفتي بالكاتب أحمد رجب شلتوت ابن مركز "أبو النمرس" تعود إلى نحو ثلاثين عامًا أو يزيد، وقد أتاحت لي هذه المعرفة فرصة التعرف على قدراته النقدية وطاقاته الإبداعية التي فتحت أمامه فرص نشر إبداعه في دور نشر مغاربية كدار " التي نشرت روايته القصيرة "حالة شجن" مع مطلع هذا العام في مدينة صفاقس المعروفة بأنها مدينة الشغيلة أو البشر الذين لا يعرفون إلا العمل في كامل التراب التونسي، ولذلك فإنه بإمكانك أن تطلب قرضًا من الشركة التونسية للبنك، أو من البنك العربي لتونس وأنت لا تمتلك دينارًا واحدًا طالما كنت قد أثبتت للبنك أن شريكك في مشروعك الصناعي أو التجاري صفاقسي أو - كما يقولون في تونس - أصيل صفاقس.
أقول إنني أتابع مشوار أحمد رجب شلتوت الإبداعي منذ كتب أول قصة، وحتى نشر له الكاتب والناقد الكبير سيد الوكيل هذه المجموعة الأحدث "فاتحة لصاحب المقام" في سلسلة "إبداعات قصصية" التي يرأس تحريرها في الهيئة العامة للكتاب.
وفي الحقيقة هذه هي عادة سيد الوكيل أن ينتبه إلى الموهبة ويتعهدها بالرعاية مختارًا دون انتظار جزاء من أحد، وهو ما كان يفعله دائمًا طوال فترة تزاملنا في عضوية لجنة الكتاب الأول بالمجلس الأعلى للثقافة التي كان هذفها الأول النبش في الساحة عمن يستحقون نشر أعمالهم الأولى.
و"فاتحة لصاحب المقام" هي مجموعته الخامسة، فقد سبقها في الصدور: "السعار والشذى"، و"العائد إلى فرحانة"، و"دم العصفور"، و"ساعة قبل النوم"، بالإضافة إلى مجموعة قصصية للأطفال عنوانها "العش للعصافير"، ورواية "حالة شجن" الصادرة في تونس، وعدد من الكتب النقدية التي أذكر منها: "رشفات من النهر"، و"الرواية فن البحث عن الإنسان" و"ربيع البنفسج"، ولعل هذا ما أهله للفوز بالمركز الأول في مسابقة نادي القصة عام 1997 في مجال القصة القصيرة، في حين فازت روايته القصيرة "حالة شجن" بجائزة إحسان عبدالقدوس في دورة 2002، كما أن له مسرحيته عنوانها "أرض النادي" فازت في مسابقة قصور الثقافة عام 1997. وكذلك فاز شلتوت في مسابقة ساقية الصاوي في القصة القصيرة جدًا لعام 2002.
وهذه المجموعة القصصية الخامسة له تضم عددًا كبيرًا من القصص القصار، موزعة على قسمين؛ يشكل كل منهما مجموعًة مستقلًة، حيث تتميز كل مجموعة منهما عن الأخرى من حيث الطول والبناء الفني، والصياغة وما تحمله القصص من مضامين ورؤى.
ويضم القسم الأول وعنوانه "مُفترق طرق" عشرين قصة قصيرة، تبين فيها قدرة القاص على التقاط التفاصيل الصغيرة، وصوغ نصوصه اعتمادًا عليها، سعيًا إلى تثبيت اللحظة في محاولة لاستخلاص الدلالة المخفية بين طيَّات الواقع اليومي بزخمه وهمومه، وهو ما يبدو في قصص مثل: "مفترق طرق"، و"تحقيق الحلم"، و"المبخرة والمجمرة".
وتنطلق القصص من مواقف واقعية لكنها لا تنقل الواقع حرفيًا، بل تطرح هموم هذا الواقع، بالتوازي مع التخييل وجمال اللغة وانتقاء المشاهد الصادمة المدهشة التي تعطي الحدث بعديه الدلالي والفني.
ويلاحظ القارئ أن الشخصيات في قسمي المجموعة، مفعمة بالأشواق يطحنها الأسى، ولكنها تتمسك بالحياة، ويلاحظ القارئ أن قصص القسم الأول تميل نسبيًا إلى الطول، وترصد حركة الشخصيات في المكان، ومعاناتها من واقعها شديد القسوة في الغالب، والعجائبي في بعض الأحيان.
فيجنح الكاتب نحو الفانتازيا كما في قصص: "مطاردة"، و"تكوين"، و"بيت البحارة"، و"خبيئة"، و"غواية".
ومن خلال الواقعي والفانتازي معًا يصنع القاص هامشًا كبيرًا للمفارقة والسخرية واضعًا القارئ أمام وقائع عبثية، وأمام حالات سريالية تحياها شخصيات قصص المجموعة التي تجد نفسها في أتون تجربة الواقع. وهو يطلعنا على ما يثير هموم وشجون شخصياته، عبر سرده لقصص تتميز بالمأساوية والعمق معًا.
أما القسم الثاني وعنوانه "رؤى" فيضم ثلاثين نصًا من القص القصير جدًا، بعضها لا يتجاوز الصفحة الواحدة، فتميل إلى التكثيف، وهو من أهمّ الخصائص في القصة القصيرة جدًا، حيث يُقدم الكاتب لقطات بلغة شاعرية يكاد يثبت فيها المكان، ويصبح السرد زمانيًا، ويمضي في إيقاع سريع مشكلًا عوالم تتمحور غالبًا حول مواقف صعبة، وليست الذات في أقاصيص هذا القسم هي الشخصية المتأزمة فحسب، بل هي الكائن المغمور والمذعور والتائه، وهي الكينونة التي تعاني التهميش، وتواجه الشخصية نفسها في الكثير من الأقاصيص فتكتشف أن الآخر هو الأنا كما في قصة "الآخر"، وقصة "سؤال" التي تنعكس الذات في المرآة وتواجه نفسها بالسؤال وبالحقائق اليوميّة الصغيرة التي تكوّن في المحصلة "أنا" الكاتب أو القارئ أو أية "أنا" توضع أمام مرآتها.
وهذه النصوص تعمل على سبر أعماق الإنسان، وتحرض النصوص القصيرة جدًا على مثل تلك المواجهة كنوع من الصدمة اللازمة لتحدي الرتابة والوحدة، ويقوم الكاتب من خلالها بحفر عميق في الذات البشرية، بلغة صافية زاخرة بالصور والتفاصيل، رغم قصرها الشديد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى