سعيد بنسعيد العلوي - الحوار والفهم لا القطيعة والجهل

هل يملك المرء مبرراً معقولاً للحديث عن الإسلام والمشروع الحضاري العربي، أو أن يتحدث، بالأحرى، عن مشروع حضاري عربي قوامه الإسلام ووجهته المستقبل؛ مع ما يحدث الآن، في بعض البلاد العربية، من أشكال العنف والتعصب؛ ومع ما يجابه به المخالفون في الرأي والاعتقاد من فنون التعذيب والاغتيال؛ ومع ما يلحق الأبرياء من بشاعة الإرهاب والتقتيل؟ ثم أليس في وسع خصوم الإسلام، وكذا مختلف أصناف التطرف الأخرى، أن يجدوا في عمل بعض "الحركات الإسلامية" ما يبرر دعاواهم ضد الإسلام ومواقف رفضهم وكراهيتهم للمنتسبين للإسلام عقيدة وثقافة؟
من الطبيعي أن ما يصطلح، في أدبيات علم الاجتماع السياسي وفي الأحاديث الصحافية المتداولة، على نعته إجمالاً بـ "الاسلام السياسي" يجد أسباباً موضوعية تفسر ظهوره وتشرح مغزاه ودلالاته المختلفة. ومن الأكيد أن لهذه "الظاهرة" قوانينها الذاتية التي تقبل الخضوع لعمليات التحليل العلمي (الملاحظة، الرصد الكمي، استقصاء العوامل الفاعلة، والأخرى المساعدة سياسياً واقتصادياً واجتماعيا) أننا لا نريد أن نخوض في المضامين الإيديولوجية لفكر مختلف الحركات التي ترتبط بهذه الظاهرة أو تدخل في عدادها. ولكننا نريد الوقوف، وقفة فحص وتأمل، عند أسلوب العمل، عند "الحركات الإسلامية" وقد كان إرهاباً وعنفاً دموياً.
لعل أول ما يلزم البدء به، بل وأخص ما ينبغي التنبيه إليه، هو أن "الحركات الإسلامية"، أياً كانت مضامينها الفكرية ومهما يكن من التقارب أو التباعد في الشعارات التي تلوح بها، تؤول في نهاية التحليل إلى الحركة "السياسية" قد يقال إن في هذا القول تقريراً لحقيقة بديهية أولية أو تحصيلاً لحاصل كما يقول المناطقة، ما دام الوصول إلى الحكم طموحاً مشروعاً في الحياة السياسية السلمية، وما دام المبدأ ذاته مما لا يتعارض مع قواعد اللعبة الديمقراطية؛ ولا يتنافى مع وجود المجالس التمثيلية ومع قيام الأحزاب والتنظيمات السياسية التي ترعاها قوانين الدولة ومبادئها في الحياة الإنسانية المعاصرة.
لا شك أن الاعتراض على تنبيهنا، متى نظرنا إليه في ذاته وبكيفية مطلقة، يكون اعتراضاً صحيحاً ومقبولاً، ولكنه يصبح أقل صحة وابتعاداً عن القبول، بل مدعاة لتشكك كثير عندما ننبه على جملة من الحقائق الأولية والبسيطة التي ترقى بدورها إلى مرتبة القول البديهي وتحصيل الحاصل. والحقيقة الأولى أن الحق في امتلاك السلطة وقبول مبدأ دورانها وانتقالها من جهة أولى مُمارسةٍ لها جهة ثانية مراقبةٍ لها ومعترضة عليها، يقتضي احترام "قواعد اللعبة" الديمقراطية وقبولها. والحقيقة الثانية أن الممارسة الديمقراطية لا تُعقل ولا تُمكن إلا مع الخضوع للقوانين السياسية للدولة واحترام وجودها والمحافظة على كيانها. والحقيقة الثالثة أن هذا كله لا يكون ولا يستقيم إلا مع مراعاة المبادىء الإنسانية العليا السامية، أي حقوق الإنسان وما يحفظ كرامته. والحقيقة الرابعة، وهذا شرط وجود وصحة بالنسبة للبلدان الإسلامية، هي وجوب الانصياع التام والكامل لأحكام الشريعة الإسلامية مع إدراك مقاصدها الحق.
الحق أن الانصياع الكامل لأحكام الشريعة الإسلامية لا يتحقق، في صورته الحق، إلا متى تحقق شرط إدراك مقاصد الشريعة ومراميها البعيدة. ومقاصد الشريعة وإن كانت، من جهة المبدأ والصورة، معلومة وواضحة (والفقهاء يجملونها في الكليات الخمس أو الست: حفظ الدين، حفظ العقل، حفظ المال، حفظ النفس...)، إلا أنها تدقُّ أحياناً عن فهوم العامة، ولا يتأتى فهمها إلا لمن أمكنه أن يبلغ في الدين فهماً بعيداً دقيقاً، أما غيره فلا يقدر على الاجتهاد في الدين، وبالتالي على القول فيه عن بينة وعلم حسب الشروط العلمية الدقيقة التي يعرفها علماء أصول الفقه ويحققونها. ولو أخذنا أياً من الكليات الخمس لوجدنا أن القول فيها يستوجب علماً كثيراً من جهة أولى، ويتطلب قدرة هائلة على ممارسة الاجتهاد الفقهي من جهة ثانية، وفي الاجتهاد تحتمل الإصابة كما يحتمل الخطأ، مع ثبوت الأجر. وهذا يعني، في أخص ما يعنيه، أن الاجتهاد الحق في فهم مقصد الشرع يتعارض مع ادعاء الاعتقاد في القول بالأحقية المطلقة في إصدار الفتاوى والأحكام، أو ما يمكن أن ننعته، في اللغة المتداولة، بسلطة احتكار التأويل. فالقول، على سبيل المثال، بأن حفظ الدين يقتضي "تطبيق الشريعة الإسلامية" يكون سليماً من جهة المبدأ، ولكن العمل به يستوجب الاجتهاد وإعمال العقل الفقهي في ضوء المبادىء الشرعية الأخرى (حفظ العقل، حفظ النفس حفظ المال...)؛ مع الانتباه إلى الأخذ بالقواعد الأصولية المعلومة (أخف الضررين، سد الذرائع، تقديم درء المفاسد على جلب المصالح...). ولم لم يكن المجتهدون، على الحقيقة، قد عملوا، على سبيل المثال لا الحصر، على الأخذ بالقاعدة الأصولية "الأخذ بما يقتضيه حكم الوقت"، لكانت الشريعة قد تعطلت ومصالح العباد قد فسدت ودرَسَت.
والحق أيضاً أن الانصياع الكامل لأحكام الشريعة مع إدراك مقاصدها الجلية والخفية، يسلمنا إلى القول، وجوباً، بأن الدين فقه واجتهاد فلا يُعبد الله مع الجهل. ومثلما كان رفض الرأي الآخر المخالف رفضاً للحوار وإعلاناً للقطيعة والفُرقة في بلاد الإسلام، فهو كذلك جهل وادعاء وتطاول على الدين. وحين يكون الفقه والاجتهاد الحق في الدين، يكون الحوار وطلب الفهم والارتكان إلى "الحسنى". وحيث تجتمع هذه الأسباب كلها، يصبح احترام "قواعد اللعبة الديمقراطية" أمراً ممكناً، فيستقيم سبيل الوجود السياسي السليم، وتكون مراعاة المبادىء الإنسانية العليا حقيقة ممكنة فتتحقق الحقوق، حقوق الله وحقوق الإنسان، وتصان الواجبات. وفي كلمة واحدة: تُدرك مقاصد الشريعة ومكارمها. أما أعمال الاغتيال والعنف والإرهاب الكامل ففيها تَنَكُّب عن هذا كله، وإخلال بقواعد العمل الفقهي جميعها، ونفي للشروط الدنيا للوجود السياسي السليم وإنكار له.


______________
المصدر: الاسلام واسئلة الحاضر



سعيد بنسعيد العلوي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى