مراد الخطيبي - مفهوم التراث لدى عبد الكبير الخطيبي

شكل موضوع التراث أحد الانشغالات الفكرية للعديد من المفكرين والباحثين العرب أهمهم ،الطيب تيزيني ، عبد الله العروي ،محمد عابد الجابري،عبد الكبير الخطيبي وآخرين. كل واحد من هؤلاء المفكرين والباحثين انطلق من مرجعيات فكرية مختلفة واستعمل مناهج خاصة من أجل تناول موضوع التراث. .وبالتالي، فهذا الاختلاف أدى بطبيعة الحال إلى اختلاف نظرياتهم وتوجهاتهم ورؤاهم حول التراث.
تركز هذه المقالة على تصور عبد الكبير الخطيبي للتراث.يأتي هذا الاختيار من منطلق أن رؤية هذا المفكر لهذا الموضوع تندرج ضمن مشروعه الفكري الذي تأسس منذ إسهاماته الأولى في مجال العلوم الاجتماعية وسعيه نحو تخليصها من النزعة الاستعمارية وكذا ضمن ما يسميه:»النقد المزدوج Double Criticism»1»الذي ينصب علينا كما ينصب على الغرب»كما يقول الخطيبي.
وبالتالي، فمشروعه الفكري يتأسس وفق تصور براغماتي هدفه نقد بناء للغرب يمكن من خلاله الاستفادة من إيجابياته ودون الإغراق في عبودية ماضينا وأنانا التي تحتاج إلى نقد بناء وتصحيح عقلاني وموضوعي ومكاشفة واضحة.
فالنقد المزدوج إذن هو نقد لذاتنا الأمازيغية ،العربية والإسلامية بكل تمثلاتها والتي تشكل هويتها وأيضا هو نقد للآخر الذي يمثله الغرب بفكره وحضارته وأيديولوجياته المتعددة.
التطرق لهذا الموضوع الذي هو تصور الخطيبي للتراث، يقتضي في نظري وكخطوة أولى ذكر بعض المعطيات تندرج ضمن ما يسمى»بالمنهج البيوغرافي Biographical approach»وذلك من أجل تسليط الضوء عليها باعتبارها ربما تكون قد شكلت وعيا مبكرا لدى الخطيبي وجعلته يعكف على التواصل فيما بعد معها بآليات البحث العلمي وبمختلف المناهج الرصينة التي وظفها بطريقة متميزة.
كثيرا ما يتم الحديث عن حياة عبد الكبير الخطيبي بشكل مختزل جدا و يتم التركيز فقط على كونه ازداد بمدينة الجديدة وتابع دراساته العليا بفرنسا ويكتب باللغة الفرنسية. إلا أن جوانب مهمة مرتبطة بنشأته الأولى غالبا ما يتم تجاهلها وهي في الحقيقة قد تكون ساهمت بشكل أو بآخر في تنوع ثقافته وتعدد مصادر تكوينه واهتماماته الفكرية التي سيشتغل عليها فيما بعد اكتسابه لآليات منهجية علمية عن طريق الدراسة الأكاديمية والبحث العلمي الرصين. وبالتالي فمن الضروري التطرق لمثل هذه المصادر التي ساهمت في بلورة المشروع الفكري المتميز لعبد الكبير الخطيبي.
لابد من الإشارة في البداية إلى أن عبد الكبير الخطيبي الذي ازداد بتاريخ 12 فبراير 1938 إبان الحرب العالمية الثانية بمدينة الجديدة بالمغرب قد نشأ في أسرة يعتبر العلم زادها الأول كما ذكر الكاتب ذلك في روايته : « La Mémoire Tatouée » (الذاكرة الموشومة)2الصادرة سنة 1971 وهي عبارة عن سيرة ذاتية.
كان أبوه احمد الفاسي رجل دين وعلم والذي بعد عودته من مدينة فاس بعد تخرجه من مدرسة القرويين العريقة، فضل الاشتغال في التجارة عوض العمل في سلك القضاء لتجنب أي باب من أبواب الشبهات. ونظرا لتكوينه العالي في مجال علوم الشريعة والفقه فقد كان دأب على إعطاء دروس بصفة منتظمة بأحد المساجد بحي الصفاء بمدينة الجديدة تحديدا. أمه اسمها عائشة بوخريص من منطقة بني هلال بإقليم الجديدة. وتعود أصول سكان هذه المنطقة من الحجاز. تحكي أمه أنه ابنها عبد الكبير كان يلازمها ويجلس أمامها لساعات طوال وهي تحيك الزرابي برفقة خالته مينة.
درس عبد الكبير الخطيبي في المرحلة الابتدائية بمدينة الجديدة وانتقل بعد ذلك إلى مدينة مراكش ليكمل فيها دراسته الثانوية وهناك بدأ ارتباطه بمرجعيات فكرية وفلسفية مختلفة عن طريق القراءة وبواسطة أساتذة فتحوا عينيه أمام كتابات جبران، نيتشه، هايدغر وآخرين . سفره إلى فرنسا من أجل استكمال دراسته العليا سيجعله يحتك مباشرة بمفكرين وأدباء عالميين كان إلى حد قريب يقرأ لهم فقط أمثال سارتر ورولان بارت الذي قال عنه:» أهتم، أنا والخطيبي، بأشياء واحدة: بالصور والدلالات والآثار والحروف والعلامات. وفي الوقت نفسه، يعلمني الخطيبي شيئا جديدا، ويخلخل معرفتي، لأنه يغير مكان هذه الأشكال في بصري، ولأنه يحملني بعيدا عن ذاتي، في بلده الأصلي، وكأنني في أقصى نفسي."3
مفهوم التراث لدى عبد الكبير الخطيبي
يرتبط مصطلح تراث Heritage بمفهوم الهوية Identity وكذا في العلاقة بين البشر الذين يعيشون حاليا والبشر، الجماعات، الأفكار، الأشياء المادية، الطقوس ، الاحداث والأمكنة التي تنتمي إلى الماضي.
لهذا فالتراث يمكن تحديده في مجموعة من العادات والتقاليد التي ورثها الأبناء عن الآباء .التراث هو أيضا ما تم تمريره من طرف الأسرة، الجماعة والمكان الذي نشأ فيه الإنسان. ويقصد بالتراث الثقافي Cultural heritageكل الاشياء والتعبيرات التي تؤرخ للإبداع الإنساني على سبيل المثال البنايات، المآثر، الرسوم، المغارات، النحت وغيرها من الآثار التي تبقى شاهدة على حقبة تاريخية معينة بقيمتها الفنية أو العلمية.
يقول الخطيبي في تعريفه للتراث:
«صحيح إن التراث ،هو بالنسبة إلى الفكر، راحة الموت ،أرضيين وعليين، ويتبع هذه الراحة من الأرض، من ماضي الأرض، في قلب الذاكرة. تؤسس هذه الدعوة في ذاتها ملجأ التراث. فالتراث (الذاكرة، الأرض، اللغة) لا يضيء الإنسان إلا بمقدار ما يستحق موته، بين الموتى «.4 وهو في هذا يتجاوز التعريف السائد للتراث:
« لهذا ننفصل رأسا عن معنى «التراث» الشائع. صحيح أن التراث هو عودة المنسي، ولا بد لهذه العودة من أن نستوقفها ونطرح عليها الأسئلة كي تدلنا على طريق الموتى الذين يتكلمون، الذين يتحدثون معنا «5.
ولكن بماذا ينطق هذا التراث؟،يجيبنا الخطيبي بهذه المقولة:
«بماذا ينطق التراث ،كل تراث؟ إنه ينطق بإقامة الإلهي في قلوب البشر وعقولهم. وقد احتضنت الميتافيريقا هذه الإقامة منذ نشأة الفكر. فالميتافيزيقا هي، بمعنى ما سماء التراث الروحية «6.
الاختلاف الوحشي
« أطلق فانون قبيل موته هذا النداء :»هيا أيها الرفاق الرفقاء لقد انتهت اللعبة الأوروبية، لا بد من البحث عن شيء آخر»6.
ينتقد الخطيبي بشدة هذه الرؤية التي تفتقد في نظره إلى الحكمة والتعقل والمنطق أيضا.في نظر الخطيبي،التخلى عن أوروبا هو وهم بل وضرب من الخيال لأن أوروبا تقيم فينا.
لهذا، فالخطيبي يؤكد على أن هذا الغرب الذي يسكن فينا لا ينبغي التعامل معه كشيء مطلق ولكن كفكر مختلف أو كفكر للاختلاف Pensée de différence ،يجب مواجهته باختلاف يقظ،يقول الخطيبي:
«إذا كان الغرب فينا ،لا كشيء مطلق ،بل كاختلاف نقارنه بدقة مع اختلاف آخر يدعونا هو نفسه إلى التفكير فيه كما هو رهان الفروقات (فروقات الوجود)،إذا لم يعد الغرب إذا وهم تبلبلنا الخاص، فإن كل شيء يبقى آنذاك للتأمل حتى الموت.» 7.
لهذا فالاختلاف الذي ينتقده الخطيبي هو ذلك «الاختلاف الوحشي أو الساذج» أو ذلك التخلي الزائف عن الغرب انطلاقا من التستر وراء إيديولوجيا و»هويات مجنونة» كما يسميها الخطيبي قد تكون ثقافوية،تاريخية،قومية،تزمنية،وطنية،عرقية وغيرها 8.
والسؤال المركزي الذي يطرحه الخطيبي انطلاقا من هذا الانتقاد الذي يصيغه ضد ثقافة الرفض للآخر من نحن؟ وما هذا الغرب الذي نرفضه فينا ؟
يرتبط هذا السؤال إذن بمسألة الهوية هذا «النحن» هو سؤال يأتي أيضا في سياق انتقاد ما يسميه الخطيبي بالهوية العمياء « L'Identité aveugle » التي هي تقيد تاريخي وغير نقدي لعلامتنا وارتباطنا بالتراث كفكر وكهوية.
في نظر الخطيبي لا بد من خلخلة هذا التراث وممارسة نوع من «التحليل القلق» وبالتالي نتجاوز عبره نظرة التمجيد والولاء هذه لمسألة التراث والتي ليست مبررة على الإطلاق خاصة مع سقوط الحضارة الإسلامية بدءا من القرن السابع عشر.
وبالتالي ،فالخطيبي انطلاقا من هذه الحقيقة، يؤكد على ضرورة طرح سؤال حقيقي حول سر تراجع هذه الحضارة أولا وكذا علاقتنا بالغرب.يقول الخطيبي أن الغرب يتجه منذ عصور نحو الهيمنة الشاملة.9
بخصوص المغرب الذي هو جزء من التراث العربي كفكر وكهوية ،فإنه يتحدد بالنسبة للخطيبي انطلاقا من ثلاثة اتجاهات أساسية:
التراثوية: الميتافيزيقا أصبحت لاهوتا تراثويا أو بمعنى آخر فكرة الواحد الأحد.
السلفية: الميتافيزيقا أصبحت مذهبا سلفيا
العقلانية: (السياسة،التاريخانية،الاجتماعية....)الميتافيزيقا في تحولها إلى تقنية أي تنظيم العالم بطريقة علمية.
في هذا السياق ،ينتقد الخطيبي عبد الله العروي خصوصا في تمييزه بين الشيخ والليبرالي والتقني. ويؤكد أنه رغم أهمية طرحه إلا أنه يبقى ضعيفا في ملامسة العمق وملامسة قضية العالم العربي ،ينتقده أيضا في تناوله للإيديولوجية العربية ووصفها بالمعاصرة.الخطيبي يشير في هذا الإطار إلى أنها هي المصير التاريخي للعرب وتراجعهم وانحدارهم نحو الغرب. وهذا التراجع موجود منذ فجر الإسلام.10
ينتقد الخطيبي عبد الله العروي أيضا في تناوله للتاريخ كشمولية ميتافيزيقية: «نسيجها الاستمرارية والعقلانية والميل إلى النظام والإرادة كما لو أن «عامل التاريخ «عقل مطلق ،قادر أن يسيطر على المصير» 11.
في نظر الخطيبي، العروي بقي وفيا لمأزق نظري مأسور في الميتافيزيقا. وبالتالي فالضرورة تحتم علينا ،في نظر الخطيبي أن نرقى بفكرنا نحو إلغاء الصورة النمطية التي نحتفظ بها عن أنفسنا وعن الآخرين وأن نخترق المعرفة بمجالاتها المختلفة.كما يجب إعادة النظر في الكتابة التاريخية وتحريرها من كل ما هو مطلق يقوم بتسييجها (اللاهوت،المركزية،اللاهوتية )12.
وبالتالي فالخطيبي يدعو إلى خلخلة نظام المعرفة السائد عبر تلمس الطريق التي أتى و تدرج فيها وإدخاله في منظومة الصراع الاجتماعي والسياسي.
ينتقد العروي أيضا أو بالأحرى ينتقد تاريخانيته في ولائها «للهوية الوحشية أي لمسألة من مسائل الوجود» 13.
حيث أن العروي لا يفرق بين «الآخر» و «الغير» والآخرين ،بين الأنتروبولوجية الثقافية وفكر الاختلاف. يقول الخطيبي:
«إيديولوجية العروي منهارة في أساسها»14.
هكذا يدعو الخطيبي إلى «مغرب جذري تخلص من القانون اللاهوتي ومن سلطة العلموية»15.
فهو إذن يرفض الولاء المغشوش أو الساذج للماضي ويلغي قدسيته كما يمكن تصورها بصيغها المختلفة وفي أزمنتها المتعددة.
خاتمة
يتبين من خلال ما سبق أن الخطيبي يحاول تشكيل التراث من خلال ممارسة نقد مزدوج عليه، نقد يقوم على هدم التصور الإيديولوجي السائد والقائم على أساس الولاء الساذج أو المغشوش للماضي الذي يتم تصويره بشكل واعي أو غير واعي كأنه الملاذ الأبدي الجامع لكل ما هو إيجابي .الخطيبي يقوم بخلخلته ومسائلته وانتقاده وفي نفس الوقت فهو لا يدعو إلى الارتماء في أحضان حضارة الآخر بل يجب في نظره ممارسة نوع من التفكيك بلغة دريدا على هذا الآخر واستجلاء ما هو إيجابي لديه وعدم الاكتراث للسلبيات .وبلغة بسيطة انتقاء ما هو صالح ليس إلا.
وبالتالي فالخطيبي لا يدعو إلى رفض الغرب بشكل كلي لأن هذا «الغرب» هو فينا كما يؤكد الخطيبي مختلفا بشكل جدري مع فرانتز فانون كما أسلفنا الذكر.
هوامش ومراجع
Abdelkébir Khatibi, " Double Criticism: The Decolonization of Arab Sociology ",in Halim Brakat,ed.,Contemporary North Africa: Issues of Development and Integration (Washington,D.C.:Center for Contemporary Arab Studies, Georgetown University,1958),pp.9-19.
Khatibi, Abdelkébir. (l971/21979). La mémoire tatouée : autobiographie d›un décolonisé. Paris : Denoël.
الخطيبي، عبد الكبير: الإسم العربي الجريح.ترجمة محمد بنيس،منشورات الجمل،بيروت،ط1،2009،ص15.
الخطيبي، عبد الكبير: النقد المزدوج.ترجمةجماعية،منشورات الجمل،بيروت،ط1،2009،ص9.
المرجع نفسه،ص9.
المرجع نفسه،ص10.
المرجع نفسه،ص10.
المرجع نفسه،ص10.
المرجع نفسه،ص11.
المرجع نفسه،ص15.
المرجع نفسه،ص17.
المرجع نفسه،ص18.
المرجع نفسه،ص18.
المرجع نفسه،ص18.
المرجع نفسه،ص19.



مراد الخطيبي
  • Like
التفاعلات: عبدالباقي قربوعة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى