يوسف ضمرة - يا لتلك الأيام!.. قصة قصيرة

لا جديد في القول إنني أحلم، وربما لست وحدي من ينسى أحلامه بعد الاستيقاظ من النوم. أما أن تحلم وأنت ماش في شارع عام!!
فجأة أخذت أرى بشرا ليسوا موجودين في الشارع. كنت أدرك أن الحواس اختلطت عليّ، ولم أدرك السبب. رأيت نابليون على حصانه؛ رأيت امرأة عرفتها قبل ثلاثين سنة، ولم أعد أعرف شيئا عنها. لكن أطرف ما رأيته كان أبي بقمبازه المخطط. مهلا، فأنا لست هاملت. أنا يوسف الذي تعرفونه باضطرابه وهدوئه وعزلته.
رؤية المرأة، أعادتني ثلاثين سنة؛ يا لتلك الأيام! أيامها كنت أقول لها بإشراقة في وجهي: يا لتلك الأيام! وكنت أعني عشرين سنة قبلها. كانت تضحك مخفية شبح ابتسامة ساخرة، حيث لم تكن تلك الأيام قبل عشرين سنة مثالية للحياة أو سهلة العيش. لكنها كانت تقول إن أباها يقول الشيء ذاته عن تلك الأيام.
حين مر أبي إلى جانبي ابتسم تلك الابتسامة الخجولة؛ كان رجلا حييا على الدوام. لم يكن يصرخ أو يرغي ويزبد مثلما أفعل. أما المرأة فقد مرت ولم تلتفت. كان يحيط بها ثلاثة رجال أشداء، قدرت أنهم أبناؤها. أما لماذا رأيتها فهي أدرى مني بذلك. فأنا لم أكن متزنا تماما لكي أميز الأسباب. يحدث هذا حين يكون المرء يفكر في الموت، وبفاضل بينه وبين البقاء حيا بلا أي مبرر سوى أن الأوكسجين يملأ الرئتين بلا استئذان. والأمر ليس جديدا بالطبع؛ أعني موضوع الأوكسجين. لا بأس، قلت لنفسي وأنا أرى المرأة: لو كنت كيميائيا كبطل"العطر" لسيطرت عليها. لكني سخرت من نفسي لأنني لم أتمكن من السيطرة على نفسي قبل ثلاثين سنة. يا لتلك الأيام!
أخبرتني زوجتي أن المرأة التي رأيتها وكنت حدثتها عنها من قبل، رحلت عن الدنيا هي وأبي. سألتها باهتمام بالغ: ما قصة شبح والد هاملت؟ ولماذا جعل شكسبير الأمر كذلك؟ فقالت وهي تضحك: لكي نظل نفكر فيه مدى الحياة.
وأنا بالطبع أفكر في هاملت وأوفيليا على الدوام، كما أفكر في ماكبث ويوليوس قيصر وعطيل؛ مسكينة ديدمونة. يا إلهي كم من الأشياء مرت في التاريخ البشري تحتاج إلى تعديل. ضحكت من نفسي وأنا أتخيل شخصا متخصصا يجلس أمام شريط الماضي البشري، ويقوم بمونتاج محترف. ما الذي سيحذفه؟ كان أول ما خطر ببالي أنه سيحذفني تماما. يا ألله ما أجمله لو فعلها! أعني لو أنه يمحوني تماما. ولكن الحياة جميلة يا صاحبي، أليس كذلك؟ بلى، وسوف تكون أجمل لو أن هاملت لم يقل جملته الشهيرة" أكون أو لا أكون " التي حيرتنا. فما معناها تماما؟ لا أحد يدرك السر في القول.
لم يمر هاملت أمامي في الشارع في ذاك الحلم، لكني رأيت عطيل وهو يبكي ويتكئ على سيفه على رصيف قذر على سقف السيل. قلت له بغضب: ألم تفكر لحظة بهيامها بك أيها الحيوان؟ قال وهو ينشق: لم يشأ شكسبير أن أفعل ذلك، رغم أنني توسلت إليه أن يتأنى، فقد غضب وقال بكبرياء: كيف ستحدث المأساة إذاً أيها الأحمق.
حسنا، سأوصي زوجتي بإقفال حقيبة يدها جيدا، لئلا يسقط منها شيء ذات يوم. فأنا بالكاد أمنع نفسي من قتل أحد. يا لتلك الأيام! قالت ابنتي الصغرى ضاحكة: بالله عليك أن تخبرني ما الجمال فيها؟ قلت بهدوء: يكفي انها كانت بلا إشارات ضوئية، وبلا أطفال ممزقي الملابس يموتون بحجة بيع"العلكة".. هل يكفي هذا؟ قالت ضاحكة: لا.. فقبل اختراع الطائرة لم يكن ليموت 300 راكب دفعة واحدة. وقبل اختراع البارود، ما كان يمكن حصد الناس بالأسلحة الفتاكة والقنابل الذكية والغبية. قلت بتأمل: صحيح، صحيح.. ولكن، يا لتلك الأيام!! ثم قلت لنفسي: كيف نفسر الشغف؟ تلك هي المسألة. وضحكتُ بصوت عال، فحدقتْ في وجهي وذهبت من أمامي وهي تتلفت خلفها بحيرة صاخبة.
====

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى