فتحي إمبابي - انظر خلفك بغضب

رواية (ليالي الهدنة) للكاتبة منى العساسي أنشودة للمعاناة والألم، تتوالى فيها معزوفة انهيار الذات الأنثوية وسط انعدام القدرة على التحقق، ما يفجر ينابيع السخط والغضب في خضم عالم اجتماعي فقد المعايير والوسائط المرجعية لقيم الحب والعشق والكره، ولم يعد يوفر للفرد حاجاته للحرية والحياة الإنسانية الكريمة.

إننا إزاء بُنى اجتماعية تهالكت، ومنظومة قيم عُليا تداعت أعمدتها ونخرها السوس، تلك التي كانت تشكل حبل النجاة للأجيال السابقة، هكذا تبددت إمكانات الإمساك باليقين، ليصبح اليقين ذاته محض هراء.


(جبل التيه)

في روايتها (جبل التيه) التي صدرت هذا العام (2020) تنحى الكاتبة منحى يُجلي اختياراتها، حيث تشيد أسطورتها التي تجمع بين الجدة والأصالة، في خضم صراع أسطوري هائل حول الخير والشر، تستقي واقعيته من القدرة على الإمساك بالجذور العميقة الكامنة في الريف المصري وحكاياته الخرافية، وتبني جدته من امتلاك لخيال جامح وقدرة على تشييد بنية لنص أسطوري مأخوذ من روح الميثولوجيا والأساطير الإنسانية والدينية المحلية والعالمية، وليس نقلًا عنهما.

في تلك الرواية تلبي (الكاتبة) حاجة مجتمع (اللحظة الراهنة) لنموذج الأم كما نحبها، أمينة التي لا تعرف (قيراط) سماحية فيما يتعلق بقيمها العليا المرتكزة على الخير والحب، أمينة الأم الصلبة والأرض التي يرتكز عليها الخير في صراعه ضد الشر، الأم التي تعشق أبناءها وتقاتل بضراوة من أجلهم تحت خيمة من الحب الجارف في مواجهة قوى الظلام.

في العقد الثالث من القرن الحالي تبدو شخصية أمينة (الأم) في رواية جبل التيه أسطورة يحتاج إليها هذا الجيل، هذا الوطن.. نمط في تاريخ الرواية المصرية والعربية تقدم من خلاله الحفيدة (الكاتبة) نموذجها المتجدد المنشود، ليقف بجوار أسطورة أمينة الخانعة للزوج المستبد أحمد عبد الجواد (سي السيد) في ثلاثية محفوظ في ثلاثينيات القرن الماضي، وفي منتصف القرن الماضي أيضًا قدم إحسان عبد القدوس في رواية (أنا حرة) الأسطورة الثانية لأمينة؛ تلك الجامعية المتعلمة التي تخرج للعمل، والتي تعلن عن حريتها وتصرخ قائلة: أنا حرة.. أنا حرة.. أنا حرة.

في جبل التيه أيضًا أبناء من تاريخ قديم؛ يحتاج إليهم الحاضر؛ إسماعيل وربيع وخالد ومريم.. مقاتلون، متضامنون.. يصارعون الشر من أجل الخير وبحثًا عنه.

في (جبل التيه) تقدم العساسي نموذجًا ومثالًا لمهمة الأدب الإنساني، ينحاز فيه الكاتب إلى عصره، إلى جيله، إلى زمنه، إلى استعادة القيم العُليا من أجل عالم مشيد على الخير والحب والجمال والنظر نحو المستقبل بثقة وأمان مفتقد.



ليالي الهدنة:

في رواية ميخائيل ليرمونتوف التي صدرت في منتصف القرن التاسع عشر يسأل البطل (بتشورين) نفسه: لماذا يوقع كل هذا الأذى بالفتيات المراهقات؟! في النص الذي اختارت له الكاتبة اسمًا لافتًا، وهو (ليالي الهدنة) تسأل البطلة نفسها:

- لماذا يوقع الرجال كل هذا الأذى بي؟!

(بتشورين) الضابط في الحرس القيصري يعلم أن تدمير الآخر هو غذاء يشبع روحه الجائعة، يشبع النقص الطبقي والهيمنة الذكورية.

بطلة (ليالي الهدنة) لا تعرف الأسباب أو الدوافع، ولا تستطيع أن تقدم لنفسها منطقًا ولا منهجًا للتفسير، ولكونها لا تعرف يحل بها هذا العذاب القدري، ويجتمع في ذاتها المضطربة كل ما يخص العلاقة بين الذات الأنثوية والآخر الرجل، من حب وعشق ووجْد وإشباع وافتقاد ووحشة، أو ذاك الصراع المطمور القابع في اللاوعي بين الأنا الواعي، وبين الأنا الأعلى، بين ملايين الذوات الأنثوية التائهة وبين المجتمع الذكوري الفاشل العاجز عن تقديم ما يعيد تنظيم تلك الفوضى الاجتماعية والثقافية والنفسية لأبنائه وخاصة أجيال الشباب.



ليالي الهدنة وتيار الوعي:

كتب جمس جويس روايته (عوليس) فوضع حدًّا بين الرواية الواقعية التي تتخذ من العالم موضوعها، وبين الرواية التي تحكي فيها الذات البشرية آمالها وأحلامها وبؤسها وسعادتها، من خلال الذات الساردة، وبينما جاءت (المسخ) لكافكا صورة من العذاب المحض.. حملت رواية (الصخب والعنف) لوليم فوكنر ذاك المزيج من الغموض والالتباسات الذاتية والتناقضات التي تحملها شخصيات أسرة في الجنوب الأمريكي، قدم من خلالها فوكنر الاختلال الناجم بين قيم ومُثل واستعلاء عنصري لأرستقراطية تتداعى وبين طبقة رأسمالية جديدة تصعد، وصراع بين النفعية وحرية الذات المُعلقة بين احتياجات الواقع المادية وحاجات الروح و(الليبدو) الحسي.

ليالي الهدنة أنشودة من الألم والفقد والوحدة، تستخدم فيها الكاتبة تكنيك تيار الوعي، عبر لغة آسِرة، شفافة تتوالى مرادفاتها طازجة محببة، أحيانًا تصبح لغة حسية، تحكي خلالها البطلة مأساتها مع الحياة؛ قصة حب شغوف مع رجل خمسيني تقول عنه:

"طيف عجوز منهك.. خيل لي أنه يحاول اللحاق بي.. يحاول الحديث إليّ، لكنه أخرس، لا تسعفه الإشارات، أو الإيماءات.. مَنْ يكون؟ ماذا يريد؟ تذكرته وهو يهمس لها: يداك جميلتان جدا، سأكتب فيهما قصيدة..

هل تعلم أيها الشيخ أن أسوأ ما بالحب الفقد، أسوأ ما بعد الفقد الحنين، قد نملك عقولًا تنسى، لكننا لا نملك قلوبًا تكف عن الشوق ولا أرواحًا يمكنها الانشطار بعد التوحد؟.. راحت تتابع خطاه وهو يبتعد، فجأة شعرت بأنه يشبه أباها، نادته مرارًا وتكرارًا حتى بُحَّ صوتها، وما من مجيب سوى صوت طفلها يحاول إيقاظها من هذا الكابوس المرعب".



تيار الوعي:

في ليالي الهدنة تجتمع تلك الدلالات وهذه التساؤلات وتتزاحم جميعها في عقل البطلة ، لينطلق شلال التساؤل هادرًا، ذاك الزخم الذُهاني الذي يضطرب في الوعي باللا وعي في سيل جارف وزخم لا ينتج عنه سوى الألم، عبر نص اتخذت الكاتبة من التقنية الوحيدة المناسبة سبيلها، وهي تقنيات تيار الوعي.

الأجمل والأكثر براعة توافق حالة البطلة المأزومة مع تقنية كتابة تحتوي داخلها جماليات من لغة عليا، فلا فواصل ولا مقدمات، لا تفسيرات، ولا تحليلات ولا شروح، وإنما فيض من التدخلات بين المشاعر والأحاسيس والأمكنة والشخوص والأعداء والخصوم، حيث لا رفيق ولا صديق، وإنما بحار هائجة وعواصف مدمرة تخوضها البطلة وحيدة، وتعبر عنها في عمليات التداعي الذهني داخل العقل المضطرب، حتى يبلغ الأمر تخومًا هستيرية:

مَنْ أنا.. ولماذا لا أستطيع أن أحب شخصًا يحبني.. لماذا لا أجده؟!



اللغة:

في نص ليالي الهدنة تعود اللغة لتحتل الصدارة، تغادر عالم الواقع، إلى مناجاة النفس، وحساب الذات والآخر، لتتحول إلى تلك الدماء المؤلفة من المشاعر والأحاسيس التي تموج بها الذات الساردة، تسري بها في عروق النص وشرايينه.

تقول البطلة الساردة في "ليلة فقدت ترتيبها":

"لِنمُتْ غرباء.. لنركب في زورق الحياة الذي يسير بالاتجاه المعاكس منذ فقدت الحياة بوصلتها، سأعبرك، سأمشي على جثتك "جثتي" بخُطًى ثابتة، أعجنك بأصبع قدمي الأكبر أسفل ذلك الجمر الأحمر الذي يتفجر في بطنك، فوق جلدك الأخرس، لتلد"آهًا" جديدة "آهًا" ممزوجة بموت وندم.. ألم عقيم لن تحمل بطنه نشوة أبدًا.. تجمّد، تبلّد، تمزّق، تهرّأ.. سأقتلك في وجعي، في أرق الثانية صباحًا، سأطعمك خيبتي فيك، كلّ ليلة صفعة، لن يحبل سريرك بي مجددًا"

"لنقلب الصفحة، أو لنمزقها، أو نلقي بالدفتر كاملًا في سلة القمامة.. لا يهم، فالمدينة الحمراء لم تعد تسعنا معًا، لم تعد تحتمل وجودنا فوق سواد أرصفتها، هذه المرة صفعتُكَ كسرت أنفي وأدمت قلبي".



الزمكان:

على نطاق اللغة تتناول النصوص الروائية موضعي المكان والزمان بصورة منفصلة، فيتجلى المكان بصورة وصفية الزمان عطف على المكان أو العكس، ويستخدم كلاهما كمدخل للأحداث أو الحكاية.

في ليالي الهدنة تتمثل الكاتبة الزمكان كومضات مضمنة داخل صيرورة اللغة ونهر التداعي، وتنتقل أثناء سرد خطابها بين الأمكنة والأزمنة دونما فصل أو انتقال واضح، فالنص يصبح حالة من الذُهان وحينًا من الهستيريا الصاخبة، وغالبا فقاعة هشة يجتمع فيها كل من العشق والوجد والفقد والشعور بالشبع والجوع في آنٍ واحد.

الشخصيات:

البطلة الساردة هي شخصية وحيدة رئيسية، في نص يخلو كلية من الأسماء، ويكتفي بالدلالة على شخصياته بضمير السارد أو المخاطب أو تعبيرات إشارية أو مجازية، مثل الكهل أو الرجل الخمسيني، وحبيب غير مصرح به على القارئ أن يجمع أشلاءه من ذكريات فتاة مراهقة، وعدا مناجاة عابرة إلى الأب من تداعيات الذاكرة.

على امتداد النص تتناثر في غموض شخصيات ثانوية متعددة، لا تستبين بسهولة، وتترى كطبقات تتوارى خلف أخرى، قد تكون ذاك الكهل الخمسيني الذي يرد في غالبية الليالي الأربعة والثلاثين، والذي يتوه أحيانا في شخصيات أخرى، أحيانا يكون حبيب سنوات المراهقة، أحيانا يكون الأب، أو مراهقًا أو أشخاصًا التقتهم صدفة في طريق الحياة.

وهناك زوجة الكهل الخمسيني، أو ابنته التي يأتي ذكرها كمضاف إلى غرفتها، فضلًا عن شخصيات أخرى بلا ملامح، يظهرون كأشباح لا يؤكد وجودهم سوى تلك الأماكن الواقعية، مثل محطة القطار أو المقهى.

تقدم الشخصيات من خلال سرد البطلة لذكرياتها معهم، ويدور حضورهم في المنطقة العاصفة من المشاعر الإنسانية، حين يكون البحث عن الحب مطلبًا وتلبية احتياجات الجسد خليط من العذاب والمتعة والفقد والوحدة والخوف والقلق..

وتتعاقب أقنعة الشخصيات لدى البطلة بين الحضور الحقيقي والحضور الغائب، ففي الليلة الرابعة بعد الهدنة تجلس البطلة في محطة القطار تعاني من هلاوسها، حيث تقول:

"أبحث في الزحام عن وجه اعتدت أن أودعه بقبلتين ومكالمة هاتفية، وشغف كبير لضمة أحملك فيها ببن أضلعي قبل الرحيل.. أسرفت في الخيال حتى خيل لي أنني أراك في كل قادم".

سمات الكتابة

اللغة والخيال سمتان تمنحان الكاتب الجدارة بأن يكون روائيًّا..

تتجذر سمات الكتابة لدى "العساسي" من خلال واقع من بُنى استلابية ومجتمعات مقموعة، يقف فيها الجهل سيدًا بجوار العلوم الحديثة، والخرافة بجوار تكنولوجيا فائقة التطور، والكبح والقمع والجهل النفسي والثقافي وباقة من مواقع إباحية تنتشر بغزارة، وذلك في واقع لا يتوافر فيه رغيف الخبز وفرص العمل والتعلم والجامعات المتطورة والبُنى الثقافية الحرة.

كما تزيح الكاتبة من نصوصها سموم الأيديولوجيا، وخياراتها، وهموم الماضي الاجتماعي لتقدم ذات البطلة المعاصرة وابنة جيلها عارية، جرح يئن وينزف من انعدام التحقق أو الإرضاء الذاتي، على مستويات عديدة، حيث تنصب اهتماماتها على تناول حاضر تعيس ومستقبل مجهول يحمل في جنباته دبيب ثورة اجتماعية هائلة.

للكاتبة سمات تؤهلها لمكانة طليعية بين كُتاب وكاتبات الكتابة الجديدة.


السمة الأولى- اللغة:

تمتلك الكاتبة لغة عذبة المشاعر والأحاسيس، وسلاسة في السرد، تنساب الدلالات فيها بنعومة، ومتواليات من المرادفات التي لا تتوقف عن إنتاج صور جديدة متلاحقة، تُراكم المعنى وتفجر المشاعر وتنقل للمتلقي الرسالة التي يرسلها الكاتب لجمهوره، وهي تفعل ذلك في أحوال تجلياتها بين الرومانسية أو في إطار الواقعية أو عندما تنطلق لتنشئ بُنًى أسطورية.

في روايتها جبل التيه يتشكل النص من شجرة وارفة جذورها واقعية ضاربة في أعماق الريف المصري، ساقها مؤسسة على المخيلة الابتكارية، أغصان النص وأوراقه وأزهاره وثماره عالم حي من الأساطير المتخيلة، لتصبح اللغة تاج النص وصولجانه..

ولكنها في ليالي الهدنة تصنع ذراها الخاصة عندما تتبنى تقنيات (تيار الوعي) الذي يتلاءم بصورة لافتة مع إمكاناتها وقدراتها اللُّغوية.

في ليالي الهدنة لغة تتشكل من آفاق الشعر العليا تحتوي في صيرورتها الزمان والمكان، لكنها لفرط حلاوتها تحمل داخلها كل أنواع العنف الإنساني عندما يصبح الحب والوحدة ملاذًا وانعدام القدرة على الإشباع الروحي والعاطفي والجسدي نمطًا للحياة.



السمة الثانية- تعدد تقنيات الكتابة:

الواقعية والبُنى الأسطورية و تيار الوعي:

في رواية جبل التيه تستند الكاتبة إلى مزيج خَلَّاق من واقعية أخاذة وبنية أسطورية متخيله. في (ليالي الهدنة) يتبنى النص تكنيك تيار الوعي، حيث تنساب اللغة بصورة تُماثل حركة الوعي في الدماغ، تندفع الأحداث والشخصيات والأزمنة والأمكنة وتتدافع بصورة مطابقة لتناول العقل البشري للعالم عندما يتم استدعاؤه في أزمة، فلا أسماء ولا حوارات، ولا شخصيات، إلَّا فيما ندر.

في تكنيك تيار الوعي، تُقدَّم شخوص الرواية ويعرض وجودهم من خلال منظور وحيد فقط، وهو وعي البطلة بالعالم وانعكاس أحداثه عليها، ساهم في ذلك أن البطلة كتلة من الأحاسيس والمشاعر الموجهة إلى عالم عجزت عن التوحد معه.



السمة الثالثة- الزمكان:

ليس الخيال الفني مزحة:

في فيلم (أوديسا الفضاء 2001- إنتاج 1968) تمكن العبقري (ستانلي كوبريك) في تلك اللقطة التي ألقى فيها بنشوة جامع الطعام البدائي قطعة من العظام على شكل عصا قتل بها خصمه وتمكن وعشيرته من احتلال عين الماء إلى الفضاء السحيق لتتحول أثناء دورانها في الفضاء إلى أقمار اصطناعية، وسفن ومحطات فضاء جامعًا في تلك اللقطة السينمائية خمسين ألف عام من تطور البشرية، عابرًا كلا من نظرية النشوء والارتقاء لدارون ودور الأدوات وكف الإنسان في علوم الأنثروبولوجي والسيكولوجي والمادية التاريخية لماركس ووكالة ناسا والعصر الرأسمالي والسوفيتي بأكمله وكل ما تود ذكره..



تموضع الزمكان وجوهر النص المتخيل:

في الرواية المؤسسة على الخيال العلمي أو الأسطورة، يعد الزمكان التحدي الحقيقي للمؤلف والمخرج، ذلك أن عليه كي يقدم عمله أن يكون مقنعًا للمتلقي أو المشاهد، أن يمكنه من الانتقال من العالم الواقعي المعاش إلى عوالم الخيال العلمي أو الأسطوري، كي يكون جزءًا لا يتجزأ مما يعرض عليه من أحداث تتخطى الواقع وتعبر حدودهما معًا.

في روايتها (جبل التيه) ينتقل الأبطال في المكان والزمان بصورة مدهشة، فالآبار وعيون الماء وشجرة الصفصاف والترع والمصارف وفوهات الجحيم، وجلود الحيات، والأرض ذات الطبقات الأربع ومحطات القطارات التي تعد جزءًا عضويًّا في كتابة "العساسي"، ولا بأس من الثقوب السوداء، جميعها منافذ لعبور أبطال تراجيديين في الزمكان، وبقاء الغريق في ذاكرة أهل القرية لعقود لا يعرف مبدأها، وموطن للسحرة والساحرات، تتخفى فيها ليليث وتيامات وسربونة، ويبدو أن الكاتبة لم تترك وراءها شيئا إلا استغلته.

في ليالي الهدنة ينسال الزمكان بنعومة وسلاسة مدمجًا في اللغة، فلا مقدمات ولا بدايات مثقلة بالوصف وتقديم خرائط جغرافية أو طقسية للعالم يساعد المتلقي على استيعاب خريطة المكان أو مسرح الأحداث.

في ليالي الهدنة الحكاية مقدمة من ذات البطلة المضطربة إلى وعيها الضائع في سراديب البحث عن الأسباب، لكنَّ كلا من الزمان والمكان معلوم لدى وعي البطلة الساردة على حين تتصدر المشاعر ويسبق زخم وفيض الأحاسيس تموضع الزمان والمكان..

ولهذا ليس ثمة أسباب كي توضح البطلة أين ومتى؟ إنها تعرفهما جيدًا، ويكتفي العقل بإطلاق المكان والزمان المتعين ضمن ومضات التداعي ككتلة معرفية لا يتوافر في تداعيات النص الوقت الكافي للتعبير عنهما، لتلك الأسباب الفنية والموضوعية تستسلم الكاتبة إلى التركيبة النفسية للبطلة الساردة التي لا تتحمل وجود المتلقي، ولا تترجى أو تتلمس وجود آخر، كي تقدم له حكاية ما خرافية كانت أو مأساوية، فهي مكتفية بذاتها، مكتفية بمخاطب وحيد هو ذات البطلة، الذات الساردة.



السمة الرابعة- المخيلة الابتكارية:

رواية (جبل التيه) أسطورة إنسانية خالصة ابتدعها كاتبها من مخيلته الابتكارية،عصارة البؤس الذي يعيشه الإنسان المصري في زمن الابتلاء المعاصر.

وفي حين تكون اللغة هي تاج النص، والشخصيات تجليات ودلالات تدور حول القيم الكلية الكبرى للخير والشر، جعل الكاتب من تقنيات التحولات بين الزمان والمكان لتلك الأسطورة عصاه السحرية التي ينتقل بها عبر حدود الزمكان، كي يجعل عالمه السحري يقع فيما بعد الواقع، عالمًا ممكنًا لدى القارئ، يتقبله عقله ووعيه تصير فيه الحياة المادية والواقعية للبشر مهادًا لأحلام اليقظة وكوابيس الرعب والرغبة المتخيلة في الصعود إلى السماء والتجول في جنبات الكون.

هنا تكون الأسطورة موضوع النص وتطل من خلال نسيج وارف نُسج من بلاغة الفلاح المصري الفصيح الذي يشكو لله عذابه المقدر عليه منذ آلاف السنين.. ورغم كل هذا البؤس يمتلك مخيلة مكنته من بناء المعابد والأهرامات الخالدة!



خاتمة

انظر خلفك بغضب

في مسرحية هنريك ابسن الشهيرة "بيت الدمية"، تغادر نورا منزلها إلى الأبد بعد أن سئمت من نفاق زوجها، ونظرته المتعالية إليها، وموقفه المتعصب والمنافق من خطأ ارتكبته من أجله، فقرر أن يحتفظ بها رهينة منزله، رغم غفرانه الزائف المنافق. وهي عندما غادرت منزلها فقد شقت طريقها إلى عالم جديد،تحول خروجها الى رمز توجهت من خلاله أوروبا إلى مستقبل متوازن.

هكذا تفعل بطلة رواية ليالي الهدنة، فتقرر بعد خمسة عشر عامًا من حياة زوجية ممزوجة بالسخط واستبداد الزوج والمجتمع الذكوري أن تكسر القيود الاجتماعية المفروضة عليها، التي تشل الروح، وتغادر منزل الزوجية؛ بحثًا عن بداية غير مأمونة العواقب، ومغامرة قد تعيد لها حق الحياة من جديد.

مسرحية "انظر خلفك بغضب" للكاتب البريطاني جون أوزبرون التي صدرت عام 1956 أعلنت عن جيل من كُتاب المسرح البريطاني من الشبان الغاضبين، أعقب ذلك ولادة تيار اجتماعي عريض وجَّه غضبهً ضد المجتمع البريطاني الذي كان لا يزال مجتمعًا مغلقًا شديد التزمت، بات يعيش من دون قضية وبدا خواء بخواء لا آفاق فيه، مجتمع لا يعطي شبابه الفرص التي ينتظرها للانطلاق في حياته.

في (ليلة فقدت ترتيبها) من ليالي الهدنة سيفتح الستار عن خشبة مسرح هائلة، أمام جمهور عريض من الحضور، تطلق عليهم (أقاربه)، تضع الكاتبة البطلة أمام حبيبها الكهل الخمسيني تحاكمه في مشهد مسرحي صاخب، كي تعلن على الملأ قرارها بالهجر والانفصال عنه.

في هذا المشهد الذي يحمل كل صنوف العنف والانتقام، تمثل البطلة الساردة بالحبيب الخمسيني وتنكل به، وتقوم على قتله والولوغ في دمائه والتمثيل بجثته.

تتوالى الإمكانات المحتملة لتفسير المشهد والذي ألقت بنا إليه الكاتبة فجأة كنهاية لهذا الولع بالحياة، والبحث عن الحب، إذ يمكن تناول المشهد الفائت في تفسير بدائي بسيط، وهو أنه يعبر عن مجرد احتفالية فنية لخلاص البطلة من عذاباتها وفصم عرى علاقة أثقلت مشاعرها ووجدانها، كي تتخلص من الهموم التي لا تعرفها ولا تعرف لها سببًا.

من جهة أخري يمكن القول بأن المشهد المسرحي الصاخب هذا يعبر عن قتل الأب البيولوجي، ضمن تفسير فرويدي لعقدة أوديب.

لكن هذا يبدو تبسيطًا مخلًّا، إذ يمكن باستخدام المنهج الرمزي اعتبار أن ذاك المشهد الصاخب الذي قدمته الكاتبة يعبرعن قتل البطلة للأب الاجتماعي الذي تخلى عن أبنائه، وأن المشهد يرقى كي يمثل الصراع الاجتماعي المطمور في باطن مجتمع مأزوم بين أجيال الشباب والآباء الاجتماعيين، وأن النص يحوي في داخله (نبوءة) تقول:

"إن أجيال الشباب سوف تنفجر في وجه من خذلهم.."



مرة أخيرة.. ليالي الهدنة:

الآن بات يمكن التكهن بالمعنى المضمر للعنوان، فعندما غادرت البطلة منزل الزوجية إلى فراغ مبهم، كانت بائسة وحيدة، لكن بطلة ليالي الهدنة تموج أيضًا بالصلابة، بالقوة، بحب الحياة، بالقدرة على الفعل.

ولهذا تعددت الاحتمالات، فقد يكون مآلها نسيجًا من خيبات ومتوالية من انهيارات، ولكن هناك احتمالات أخرى، وهو أن خروج البطلة من منزل الزوجية قد يعني أن زمن الهدنة انتهى، وان العالم يختمر بحرب مستعرة من الأجيال الشابة على كل من أساء استخدام السلطة، وعلى كل مَن فرط في المسؤولية تجاه أبنائه وأحفاده.

فتحي إمبابي




1607001726458.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى