عبدالرحيم التدلاوي - تيمات مجموعة "هروب" لأنس اليوسفي، وتقنياتها.

[SIZE=22px]ضمن منشورات جمعية مسار للتربية والثقافة – فرع الفقيه بن صالح بالمغرب، وبدعم من مؤسسة مقاربات للنشر والصناعات الثقافية صدرت المجموعة القصصية الفائزة بجائزة محمد غرناط، التي اختار لها القاص الواعد أنس اليوسفي عنوان “هروب”.[/SIZE]
تتضمن المجموعة 41 قصة قصيرا جدا، ممتدة على مدى واحد وثلاثين صفحة من القطع المتوسط، وتزين غلافها لوحة تشكيلية للفنان المغربي محمد العلاوي الصحراوي.
عن العنوان:
يمكن عد العنوان مدونة تنفتح على قراءات متعددة لأطر هدفها البحث والاكتشاف، وفي الآن نفسه وضع درجة التلقي النصي موضوع إعادة تشكيل النص الأصل. إن قراءة العنوان تحرك لدى المتلقي مدونات مشتركة وتهيئه نفسيا ومعرفيا لقراءة النص وتشغيل ما تراكم لديه من معارف وتجارب، ولما يكون العنوان دليلا مزدوجا، فهو يتطلب من القارئ إعادة تنشيط وتحيين ما تختزنه ذاكرته من معلومات مستقاة من النص المرجعي.
هكذا، نجد أن عنوان المجموعة جاء «نكرة» مكونا جملة اسمية منزوعة المبتدأ، وإذا كانت الجملة الاسمية في عمومها تدل على الاستقرار والثبات، فإنها، هنا، تحمل بعد الحركة، إذ الهروب فعل حركي غير جامد، ومعناه لغة « الفرار والابتعاد». لكنه أفرار من أم إلى؟ وما شكل هذا الهروب الذي يقترحه القاص عنوانا مركزيا؟ هل هو تملص وانسحاب وانهزام في مقابل المواجهة؟ أم هو فرار من واقع جارح لا يتحمل التمعن في وجهه لكثرة ندوبه وبشاعته وتناقضاته، ومن ثمة مواجهته وتعريته بالكتابة؟ أم هو هروب نحو جهة ما أو قضية ما، قد تكون الكتابة واحدا منها؟
تلك مجموعة أسئلة لا يمكن الإجابة عنها إلا بعد الدخول إلى المجموعة، وقراءة نصوصها، لأنه لا يمكن فصل النصوص القصصية عن العنوان المركزي لأنه رأس حربتها ورأسها المدبر. وعليه، يكون الخيط الناظم لهذه القصص القصيرة، هو الابتعاد والهروب من كل أشكال المشاهد التي ما فتئت تتكرر، لدرجة أنها أمست خردة من فرط معايشتها والاصطدام معها، ثم العودة إليها من خلال حيلة الكتابة لمكاشفتها والنبش في سيئاتها التي ستحاصر القارئ من كل الجهات." *
تيمات المجموعة
تتناولت المجموعة مواضيع مستقاة من واقع الناس وحياتهم اليومية، النفسية والاجتماعية والسياسية والنقابية والثقافية و ذات البعد الاقتصادي أو التاريخي، مع إفساح مكانة مهمة لعرض الفساد والسقوط القيمي، دون أن يعني ذلك التركيز على ما هو سلبي، إذ تحضر بعض الإشراقات الدالة على مكامن الخير وبقائه ما بقي الإنسان، وهي بمثابة فرجات يأتي منها الضوء، وتسعى النصوص من خلال الانتقاد إلى توسيعها. وقد ابتعدت المجموعة عن النقل الفوتوغرافي المباشر والبارد، مفسحة المجال لحضور التخييل، واستثمار جمالية اللغة وطرافة الحدث المستفز أحيانا.
وفي هذا الجانب يمكن القول إن المجموعة تجربة قصصية قد عالجت موضوعات شتى بين التهميش، والحرمان، والدعارة، وفساد الإيمان، والنفاق، والحب، والوفاء، والتسلط، والخداع، والأبوة، وقضية الإبداع، وشرط الكتابة، وغيرها من الموضوعات التي يحياها الإنسان.
التيمة السياسية:
ونجدها حاضرة في جملة من القصص، منها: "إجماع" ص31 و"مؤازرة" ص27 و"عصيان" ص20 و "بشارة" ص19 و"شارة النصر" ص11.
ففي نص "إجماع" لم يكن رد كبير علماء الفتوى إلا تعبيرا عن خوفه من سطوة السلطان، لذا سارع إلى تعويم الفتوى، رغم علمه أنه ينحرف عن القرآن والسنة والإجماع. لم يكن سؤال الراعي بغاية معرفة الجواب، بل كان تهديدا مبطنا أدركه كبير المفتين والتقط فحواه؛ فحقق للسلطان مبتغاه، وأسكت بذلك احتجاجات البؤساء.
تيمة النضال:
وتستحضر في نص "استجابة" حيث الانحراف عن المبادئ والسير ضد إرادة المظلومين.
التيمة الاجتماعية:
كما في نص "حماة" المعتمد كما غيره من النصوص على المفارقة الصارخة. فالحماة تقف إلى جانب ابنتها المتحكمة في زوجها وتنتقد ابنها الذي تتحكم فيه زوجته. مما يعبر عن تناقض في موقف الحماة ويدل على أنانيتها، فما تريده لابنتها ترفضه لابنها.
التيمة الثقافية:
كما في نص "استشراف" حيث يجعل جنس القصة القصيرة جدا ألصق بالعرب فهم أصحاب الاختزال والتكثيف والسخرية والاستهزاء، فكل هذه العناصر من مقومات هذا الجنس الزئبقي.
تيمة الفساد:
وتظهر في جملة نصوص، منها: قصة "عقد عمل"، فالمدير لم ينظر إلى شواهد المترشحة بل إلى جسدها حيث كان التوقيع بنطفته. وسارت على هذا النهج القصص التالية: "خلاصة" و"الاختبار" و"الناقد" و"مساعدة" و"أهلية"، وهذا النص الأخير يقدم لنا شاهدا على العفة والثبات على الموقف إذ رفضت الطالبة الاستجابة لرغبة الأستاذ الذي رسبها.
عن التقنيات:
1_ توظيف الشخصيات التاريخية والدينية والأدبية:
بخصوص التقنيات السردية في المجموعة، يلاحظ استحضار القاص لشخصيات تنتمي إلى العصور القديمة والحديثة «يوسف، أيوب، كافكا»، نقرأ في قصة «تحول»: «كبلته القيود.. كلما فكر في شهواته، يحاور الضمير بقانون العفة، كلما شاهد فتاة تذكر «يوسف».. أحس بالوهن يتسرب إليه، نفذ رصيد «أيوب».. من خلال نافذة خياله، ضاجع كل النساء، قذف سائله في بركة صغيرة، تكفلت حشرة بأبنائه تذكر «كافكا».
إن استدعاء هذه الشخصيات لم يكن استدعاء حرفيا ونصيا، بل استدعاء ساهم في تخصيب النص وتهجينه، وكذا في تشييد النص وبعده المعرفي والدلالي، الذي يحيل على شعرية عجائبية وكفكاوية هي صورة لواقع ممسوخ.
2_ التناص:
لكن الأمر لا يقف عند الانفتاح على التراث الإنساني، بل نجد في القصة الموسومة بـ«وفاء» تناصا مع القرآن الكريم، نقرأ فيها: «مر عقد على زواجهما.. وما زال يتمنى أن ينادى بكلمة «أبي».. كلما تذكر تحسر.. بكى.. ثم يصلي حمدا لله .. طلبت منه زوجته أن يبحث عن أم لأطفاله.. دعته أن يحب امرأة أخرى، رد قائلا: «ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه». يكشف هذا الاستحضار للشخصيات التراثية والتناص مع القرآن عن ثقافة القاص وانفتاحه على مرجعيات متنوعة، وكذا عن قدرته على استثمارها في نصوصه القصصية للتعبير، وهذا ما نقف عليه في القصة أعلاه حيث استثمار القاص للآية الرابعة من سورة الأحزاب» «ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه»، كي يضرب مثلاً حِسِّيٌّا للقارئ، ويقطع باستحالة وجود قلبين في صدر أي رجل! ولعل القاص أنس اليوسفي استطاع الاستفادة من النص المرجعي وإيجاد نوع من الموافقة أو المفارقة بين نصه الجديد. *
المفارقة:
وتقدم لنا الصفحتان 22 و23 جملة من الأمثلة التي تبرز فيها هذه التقنية بشكل لافت، فجميعها تعتمد على جملتين، أو موقفين، يناقض ثانيهما أولهما، من ذلك مثلا، نص "متمرد"، هذا الشخص الذي ستنكتشف عورته حين تسلمه المنصب الرفيع، وبذلك يتخلى عن تمرده؛ ففي الوقت الذي كان يدعو فيه إلى رفض الركوع، سارع إلى القيام به لحظة تسلمه منصبه. لقد كان تمرده بغاية تحقيق مصلحته الخاصة.
وسارت على هذا النهج بقية نصوص الصفحتين، وغيرها من النصوص.
السخرية:
إلى جانب المفارقة التي تحفل بها المجموعة، نجد السخرية، وغني عن البيان، كما يقول الباحث حسن اليملاحي، أن هذه الآلية يلجأ إليها بعض الكتاب لتحقيق الجمال، وطابع التنويع الأسلوبي والشكلي على المتن السردي.
وهذه السمة تحضر في نصوص كثيرة، وعلى سبيل المثال، نص "مربي" الذي يتكون من سطر ونصف، ويقول فيه:
كان شديد القسوة مع الطلبة الممتحنين... ضعيفا كان أمام جمال الأنثى.
فالسارد لا يصور مشهدا بحياد، بل يقيم تعارضا بين موقفين لشخصيته الأساس، حتى يخلق دهشة لدى المتلقي، ومن ثم سخريته من هذا الانفصام. لقد كان السارد ماكرا وهو يوهمنا بأنه محايد، لكن آليات كتابة نصه تبرز أنه كان مخادعا، تقصد وضع شخصيته موضوع النقص لا موضع الكمال، فتلك القسوة التي يبديها لم تكن سوى قناع أسقطه ضعفه أمام الأنثى.
الحذف:
من بين رهانات القص الوجيز إقامة علاقة تواصلية بينها وبين المتلقي، عبر وسائط لغوية وصورية وأفكار ومواقف..مع التركيز على الحذف كسمة أسلوبية ضرورية، ذات وظيفة جمالية وبلاغية، فالحذف كما التضمين والإيجاز آليات تروم إتاحة الفرصة للقارئ للاستفهام والتساؤل لملء الفجوات، وقراءة ما وراء البياضات، والسعي إلى بناء معنى النصوص ومنحها أبعادا دلالية جمة. وقد أشار المبدع إلى هذه الخصائص في نصه "استشراف" ص 23، ووظفها فيه.

**

*_ اللجوء إلى السرد الوامض في «هروب» المغربي أنس اليوسفي، جريدة القدس العربي، لعبد الله المتقي.


1607003062012.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى