عبدالرحيم التدلاوي - تقطير الحكاية وخيبة الشخصيات في رواية "رسائل زمن العاصفة" لعبد النور مزين

إحدى خاصيات رواية "رسائل زمن العاصفة" هو تقطير الحكاية، أي أن الرواية لا تحفل بالتعاقب السردي للأحداث، وسيرها الكرونولوجي من البداية إلى النهاية، بل تقوم بالدوران حول نفسها ولا تخرج من دائرة إلا لتدخل في أخرى بعد توسع صغير في الأولى، دون أن يعني ذلك الانصراف والابتعاد عن الدائرة الأولى، بل هو البقاء فيها مع تطور حاصل. إن الأحداث لا تسلم نفسها بسرعة وسهولة، بل تظل محافظة على غموضها وأسرارها، لا تبوح ببعضها إلا فيما بعد.
إن التقطير مرده إلى عوامل عدة، منها الاستبطان الداخلي الذي يستدعي اللغة الشعرية الحاضرة بقوة في الرواية، فضلا عن تناول الحدث أكثر من مرة مع بعض الإضافات اليسيرة كلما استدعى الأمر ذلك، وعلى سبيل المثال قضية مجرة الجرو التي بقيت مبهمة لم يوضحها الراوي إلا بعد جملة أحداث وفصول، وإذا كان القارئ قد صار على علم بخلفياتها، فإن غادة بقيت جاهلة للمسألة رغم أن الخطاب في بداية العمل كان موجها لها. مجرة الجرو التي بقيت متناولة على مدار الرواية حتى إنها أصبحت اسم مركب لموحا.
قبل الرسائل كانت الرواية بطيئة بفعل ما تقدم، ولم تعرف السرعة وزخم الأحداث إلا بها. كانت الرسائل تفسيرا للكثير مما بقي بياضا عالقا بسؤاله في ذهن القارئ.
عنوان رواية "رسائل زمن العاصفة" هو عنوان ليوميات خاصة بغادة الغرناطي متضمنة لرسائلها الموجهة لحبيبها. لم تعد خاصة بعد أن أخرجتها أختها في كتاب للتداول. الاختلاف يكمن في حرف "من" الموجود في المذكرات والغائب في عنوان الرواية. وتسكن بداخل هذه الرواية رواية أخرى تحمل عنوانا مختلفا عنها.
أما عن الشخصيات، فعالم الرواية يزخر بتعدد وتنوع شخصياته، لكن، هناك بعض الشخصيات التي كانت محور العمل ومرتكزه، ومن أهمها، الراوي الذي لا يحمل اسما شخصيا خاصا به ويدل عليه، بخلاف باقي الشخصيات، رغم أنه يوظف ضمير المتكلم، هذا الضمير الذي يوهم بصدقية الأحداث، ووقوعها، ويهدف إلى توريط القارئ في متنها بجعله طرفا فيها حين يبدأ في قراءتها ليتوهم نفسه ذلك الراوي. ضمير المتكلم المفرد هو خاص وعام، فردي ومشترك، يدل على الشخص المفرد، وعلى الجماعة التي تشاركه همه.
شخصية أبكوز المتسلط خادم السلطة والذي صار بعبعا بفضل تفانيه في الخدمة وقدرته على توريط الشخصيات، والإيقاع بها، وعلمه بكل ما يجري هنا وهناك. كان يمكن أن يكون شخصية متفردة بخلقها على غير نمط، بيد أنها رغم تعملقها بقيت سجينة الصورة النمطية المتكونة في ذهن القارئ، والقريبة من شخصية واقعية كان لها الدور نفسه، هي شخصية الكومسير ثابت، وعلى المستوى التخييلي، فهي تشبه قليلا شخصية الزيني بركات.
الزهرة هي أخت غادة حبيبة الراوي، وعشيقة أبكوز الذي فض بكارتها بشكل مضاعف، إذ بعد حملها منحها رجلا يكون لها زوجا يخفي الفضيحة، وفي الوقت نفسه، أدخلها في خدمته، فلعبت دورا محوريا في العمل الروائي وتطور أحداثه؛ إذ كانت وراء اعتقال الراوي، وسببا في محنته الوجودية. وكانت الراوي الثاني للعمل، ومنافسة له فيه.
موحا، شخصية إشكالية، فلم يظهر على مسرح الأحداث إلا متأخرا، وقد نسجت خرافة حول ولادته؛ فيقال إن أمه كائن بحري، وضعته في البر ليتولى رجل ثري تربيته، وأنها ستعود لأخذه، لذا، نجده عاشقا للبحر، ومحبا له، اشترى مركبة صغيرة خاصة به بعد فترة من العمل. هو أحد أتباع أبكوز، وهو من أدى لفترة قصيرة جدا دور زوج الزهرة. سيقف إلى جانب غادة، وسيكون لها سندا ويحملها للعيش مع أسرته رغم أنه متزوج، وينصاع لرغباتها، ويستجيب لنداءاتها، وستنطفئ غيرة يزة الزوجة حين تعلم الحقيقة. موحا شخصية مهمة بغموضها وغموض أصلها، وغموض أدوارها.
غادة وهي حبيبة الراوي وملهمة العمل، وكاتبة اليوميات التي حملها الراوي معه في حله وترحاله قبل أن تصدر في كتاب للتداول العام. هي محركة الراوي وفاتحة العمل على فضائه الشاسع والمتنوع. هي لب النص ومبتدأه ومنتهاه. وهي موضوع رغبة من طرف أبكوز، راعيها الخفي بعد اعتقال حبيبها؛ إذ كانت، دون علمها وحضورها، الطعم الذي أسقطه في الزنازن. وكانت محنته المستمرة.
سعاد الأنثى الجميلة والباحثة عن أمها وأبيها، وهو بحث عن الأصل. اشتغلت في حانة وكانت موضوع رغبة روادها، لكنها بقيت محافظة على بكارتها إلى أن افتضها الراوي، وتعلقت به رغم علمها بحبه لغادة. كانت واثقة من أنه سيساعدها في العثور على أمها، فهو من أخبرها بعد تردد أنه التقى بها في الرباط. وفعلا، وبعد بحث مضن ستعثر على قبرها. لكنها لن تعثر على أبيها جمال.
شخصيات خائبة ومحطمة ومتشظية تشظي الحكاية. شخصيات تمثل جيلا بأكمله دفع ثمنا غاليا من أجل الوهم الذي اعتنقه فتبدى سرابا.
أغلبية هذه الشخصيات يوحدها البحث عن موضوع ما أو شخصية ما أو قضية ما.
فإذا كانت الحرية هي القاسم المشترك سواء أكان موضوع رغبة أم موضوع حجب، وإبعاد، فإن موضوع البحث عن الشخص، جمع بينها جميعا. فالراوي يبحث عن غادة وهي تبحث عنه. وسعاد تبحث عن أمها وهي تبحث عنها أيضا. وأبكوز في بحث مستمر عن كل شخص يهدد الأمن العام. وموحا يبحث عن غادة ويجدها ويبحث عن استقرار لم يجده.
أما شخصيات الضفة الأخرى فهي تبحث عن دفء الرجل الشرقي ذي الدم الحار، سواء بقيت في فضائها لا تغادره أم تقوم برحلة خارجه لتلتقي بموضوع بحثها، مثل أنثى البلطيق التي سيخيب أملها وقد صارت سفينة يديرها ربان من غير إرادتها.
ولا تسرد الرواية قصة البطلين فحسب، وإنما نجدها تسرد حكايا شخصيات أخرى في الرواية: قصة الأم، وقصة أسرة غادة الغرناط، وقصة سعاد وأمها التي ظلت تنتظرها في محطة الطرق بالرباط وتأبى تركها آملة رؤية ابنتها تنزل من إحدى الحافلات، وقصص هند والريكي وسعيد وثريا وغيرهم من رفاق درب البطل وغادة والزهرة من طلبة جامعة الرباط، كما تحكي الرواية وقائع وأحداث تخص شخصيات أخرى: دونيا مونثيرات وزوجها وابنتها ليندا وحنين الابنة إلى مدينة طفولتها: شفشاون المغربية الجبلية.*
وإذا كانت الرواية قد اعتمدة لعبة تقطير الحكاية والتلاعب بترتيب الأحداث والوقائع، فإني أخال أن اليوميات كانت سبب كتابة الرواية؛ فهي تسبقها وإن تأخرت ترتيبا، فالعمل جاء لتقديم توضيحات، وإلقاء أضواء، وإعادة بناء الذاكرة اعتمادا على التاريخ الذي هو جزء منها. فمفتتح الرواية ذو طابع تسجليلي، إذ أرخ للأحداث بذكر واقعة بصمت ذاكرة المغاربة جميعا، ألا وهو حدث انتفاضة الكوميرة، وما شهدته الدار البيضاء من عنف فاحش الوقع.
وتبقى، كما قال محمد المسعودي في قراءته للرواية، تجربتا الحب والسياسة أهم ما صورتهما الرواية ونوعت في حكيهما وعرضهما ومقاربتهما فنيا. وقد شخصتهما الرواية بلغة أدبية راقية، غنية بالصور المجازية، والاستعارية، وبالتوريات والإشارات، إذ أصبحت هذه الإمكانات البلاغية طاقة سردية خالصة نمت مشاهد الرواية ومنحتها قدرة دلالية وترميزية كبيرة.


- عبد النور مزين، رواية "رسائل زمن العاصفة"، مطبعة سليكي اخوين. الطبعة الثانية سنة 2016.


*_ محمد المسعودي، رسائل زمن العاصفة” للروائي المغربي عبد النور مزين، جريدة بيان اليوم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى