عبدالرحيم التدلاوي - السخرية والعجائبية في مجموعة "الرجل ذو القبعة الزرقاء والنور البحري" لمحمد أبو ناصر

الكتاب هو مجموعة قصصية للمبدع محمد أبو ناصر. تحمل عنوان «الرجل ذو القبعة الزرقاء والنورس البحري». تضم 12 قصة قصيرة. إصدار 2018. صدرت عن مقاربات للنشر والصناعة الثقافية.
تظهر مهارة القاص في صناعة شخصياته، ومنحها عادات وطباعًا وملامح، وفي قدرته على استيلاد مفارقة ما، أو خلق معنى شعري.
مجموعته "الرجل ذو القبعة الزرقاء والنورس البحري" تحمل بصمته الخاصة، وطابعه المتفرد. فهو لا يكرر ولا يعيد بل يبتكر ويصنع الدهشة والمتعة.
قصص المجموعة خفيفة في القراءة ثقيلة في التأويل، فخلف ظلال اليسر تكمن طبقات من المعنى ينبغي الانتباه لها وإلا انفرطت من بين الأيدي حبات الكرز اللذيذة التي تحمل للذات فوائد جمة تمنحه الصحة والعافية.
لا تغرنك سهولة القصص وبساطتها، فهي فخاخ ماكرة تورطك من حيث لا تدري، وتجد نفسك منجرا لمتابعتها وبالتالي للوقوف عند دلالاتها وما تحمله من أبعاد.
وكما قال عبد الرزاق المصباحي في مقتطفه الموجود بظهر الغلاف، فالقاص يصنع عوالمه الخاصة النادرة، مستلهما موادها من واقعنا، ومن حياته القرائية الثرة، ومن فن تطويع الحديد الذي علمه أن يحفر في هذه المواد مجتمعة، ليمنحنا، ويمنحها، روحا وحياة جديدة تمتعنا.
فلا قيمة لأي مبدع إن لم تكن له بصمته الخاصة، ولا قيمة لأي كتابة إن لم تحمل معها نسائم التجديد والابتكار وتحقق الدهشة والمتعة والفائدة في آن.
يعتمد القاص في بنائه لقصصه على الغريب والسخرية لمواجهة قبح الواقع وما يعج به من تناقضات، يتصيد المفارقات ليضعنا في مواجهتها حتى نتخذ موقفا منها.
فمفتتح المجموعة "فوضى" وهي قصة غرائبية الطرح والمعنى، عجائبية الدلالة، ساخرة بمرارة من الواقع، صانعة للدهشة. والأمر نفسه بالنسبة لقصة "تحولات" التي تستضمر نقدا لاذعا للظلم متعدد الألوان والأطراف؛ فحيثما وليت وجهك تجده فاغرا فمه ينتظر لحظة الافتراس. في البر والبحر والسماء "فشر البلية إلا أنا..الإنسان... ص74. قياسا على شر البلية ما يضحك. وهنا، ما يبكي، فالإنسان عدو أخيه.
وفي "كومبارس" نجد النقد ينصب على فئة من مستغلي ظروف الناس ليقتطعوا من أجورهم ما يشاؤون مستغلين ظروفهم المادية المزرية، يرون الناس مجرد دمى تستغل بحسب الظروف واختلاف السياقات؛ فتلك الدمى يمكنها أن تكون كومبارسا في فيلم أجبني، أو شاهد زور. سماسرة يتوسطون للحازقين من أبناء المدينة في بعض الأعمال الطارئة، أشغال عمومية، وقفات احتجاجية، شهود تحت الطلب، كومبارس...ص21.
ويمثل نص "إرث كلب" قمة السخرية، حيث يصير الابن الذي يكره كلبة أبيه خادما لها بفعل الوصية التي تفرض على هذا الابن المفجوع خدمة الكلبة إلى آخر عمرها، مع الحرص على ألا تموت إلا موتة طبيعية وإلا فقد حق استرجاع الميراث. وقد وظف القاص جنس الرسالة في صوغ نصه لما في الرسالة من وقع يوهم بواقعية أحداثها؛ والبحث تحت أرض القصة يقودنا إلى ما تختزنه تربتها من آلام، تفضح تدني مرتبة بعض الناس حيث صار الحيوان يفضله منزلة ومكانة.
ما الذي فجر غضب الأب، وجعل ابنه خادما خنوعا للكلبة؟ ما تناقلته ألسنة السوء من كلام ينسب للابن يطعن في شرف أبيه، ويلوثه: علاقة غير طبيعية تجمع بينهما.
وتزداد حدة السخرية في قصة "الهندي الأحمر". ففي قرية نائية ومسالمة ووديعة ومنعزلة، عاش ناسها حياة السكون والدعة والتكرار والروتين والملل، لم يكسرها سوى دخول الهندي الأحمر الذي زلزلها وأحدث بها رجة؛ فالأب ظن ابنته قد تجرأت فلونت شفتيها متواعدة مع شاب ما، والنسيبة ظنت أن ابنتها تذبح أمام عينيها فقامت القيامة، ولم تهدأ إلا حين علم السر. حدث بسيط قلب موازين قرية بأكملها هي التي تعودت منذ الأزل على الرتابة والهدوء المتكرر.
فاللامتعود عليه قد يحدث رجة، ويقود إلى سفك الدماء، اللامتعود عليه يدخل ضمن اللامتوقع، يرج ويزلزل، وأن للإنسان إلا ما تعود.
في قصة "الرجل ذو القبعة الزرقاء والنورس البحري" وهي اطول قصة في المجموعة وتحمل نفسا روائيا، نجد السخرية والعجائبية في ضمة واحدة. فهذه القصة التي منحت اسمها للمجموعة ككل، تحمل قصتين اثنتين، واحدة عن ضجر السارد، فبعد أن وجد نفسه وحيدا، بدأ يبحث عن متعة لحظة سقوط المطر يحلي بها سهره، وما أعقبها من أحداث، وقصته وزوجته مع الشرطي الذي لم يفهم قصده من كلامه، ويمكن إضافة قصة السارد مع النورس المتكلم، وهي القصة العجائبية التي تذكرنا بقصص الحيوانات الناطقة كما في "كليلة ودمنة".
أما قصة "مدينة الأشباح" فتحمل كما من النقد بسبب ما تعرفه من أوساخ وروائح كريهة بفعل سوء تدبير شؤونها.
لقد صارت منزلة الكلب اسمى من منزلة الإنسان؛ فقد تكلب الابن، وتأنسن الكلب.
تطرح قصص مجموعات محمد أبو نصر جميعها العديد من القضايا، وتعالج الكثير من الموضوعات ،موظفة السخرية من الواقع والشخصيات، معتمدة كتابة عبثية بلغة فصيحة مرة، ووسطى ثانية، ومستضيفة الفرنسية في لحظات، لتثير دهشة المتلقي.
تستنفر المجموعة كل تلك المكونات لخدمة الغرض الأكبر والمتمثل في إعادة علاقة الإنسان بالطبيعة ومكوناتها المختلفة، معيدة الاعتبار للإنسان كقيمة كبرى. كل ذلك بلغة شفافة، تجمع، كما قال القاص حسن الرموتي، بين جمال العبارة، وعمق الفكرة. مع توظيف ذكي للسخرية والعجائبية.


1607088246889.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى