د. عبد الهادي الفرطوسي - الساعة.. قصة قصيرة

توضيح لابد منه

تتناص هذه القصة مع رواية الشهيد غسان كنفاني (ما تبقى لكم). حيث أن شخصياتها مريم وحامد وزكريا والساعة ، هي ذات شخصيات الرواية المذكورة . لكن أحداث القصة الجديدة تبدأ من حيث انتهت أحداث الرواية القديمة.

وجرياً على ما سار عليه كتاب تيار الوعي عربياً وعالمياً من الاعتماد على تغيير الأحرف الطباعية فقد خصصنا السرد الاعتيادي بالحروف العادية . أما الحروف البارزة فقد خصصت للإسترجاع . بينما خصص خط مختلف لكتابة المقاطع المأخوذة من رواية ((ما تبقى لكم )) ، محققين بذلك جسوراً مناصصة بين العملين .

الساعة / النعش ما زالت تدق ، تدق ، تدق ... منذ ثلاثة وخمسين عاماً وهي تدق . في البدء كنت أعد بدقاتها خطوات حامد ، وهو يهبط السلم متجها إلى المجهول . هاربا مني . أنا أخته مريم ، الملوثة بماء زكريا النتن ... غادرَنا بصمت تاركا رقعة صغيرة كتب عليها : ((قررت الرحيل إلى أمي في الضفة وسأكتب لكِ من هناك ...حامد.)) زكريا النتن قال ليلتها . ((الصحراء تبتلع عشرة من أمثاله في ليله واحدة . عليه أولاً ان يجتاز حدودناً . ثم حدودهم . ثم حدودهم . ثم حدود الأردن . وبين هذه الميتات الأربع توجد مئات الميتات الأخرى في الصحراء)). لكن الصحراء لم تبتلع حامدا . منحته جسدها بسخاء عاشقة . كانت خطواته تقطع المسافة بثبات . وأنا أعد الخطوات بدقائق الساعة / النعش . هو قال في مذكراته : (( القصة قصة مسافة ليس غير . وربما زمنا أيضا )) . لكنه تخلص من الزمن . أحس به قشرة دملة يابسة فسلخها من جلده . مذ رمى بساعته اليدوية على أعتاب الصحراء ؛ فحملته الصحراء على صدرها وأوصلته الى أمه سالما ... أما أنا فبقيت سجينة داخل دقات الساعة / النعش . وكانت الساعة سجينة داخلي . وكلانا سجينان داخل هذا السجن الشاحب منذ أثنين وثلاثين عاما .

وفجأة انقطعت الدقات الرتيبة . بدت الساعة وقورة تعتزم إعلان خبر رهيب .... ودوى صوتها باثنتي عشرة دقه صاخبة ... تردد الصدى في ردهة السجن، معلنا انطفاء يوم آخر مما تبقى من العمر اجتاحني رعب مباغت، هل ألقى شرطة الحدود القبض عليه ؟ شرطة حدودنا أم حدودهم ؟ هل أطلقوا عليه النار؟ لكن الصغير حامدا كان أكبر مما نتصور. استطاع أن يعبر الصحراء ويصل إلى هناك . ويكتب لي كما وعدني ... وصلتني رسالته الأولى بعد عشرة أيام من مغادرته : "سامحك الله يا مريم". أمك لم تحتمل الصدمة . شهقت شهقة واحدة وودعتنا بسلام . صورتك وصورة زكريا النتن تحتل الصفحات الأولى من الجراند ... امرأة تقتل زوجها صبيحة دخلتها . المرأة حامل بشهرها الرابع ليلة الدخلة ... المدعوة مريم تطعن زوجها بسكين وترديه قتيلا بعد ثماني ساعات من زواجهما .... الزوج المخدوع زكريا يلاقي حتفه لأنه رفض التستر على جريمة مريم ... مريم الزانية.. مريم القاتلة .. فخذاها ملوثتان بماء زكريا النتن .. وكفاها ملطختان بدمه زكريا النتن صار الضحية المسكين . وابنه مازال يضرب بأحشائي . هم يضربونني على قفاي وهو يضرب من الداخل . اعترفي . قري . لماذا قتلت زكريا ؟ ما هي الدوافع ؟ نريد الحقيقة كاملة ... وهو يضرب بعنف منذرا بقدومه. نعم أنا ابن زكريا النتن .. أحمل كل جيناته الوراثية . ستعرفونني جيدا بعد أن أغادر رحم مريم.

انقلبت السجينة الراقدة بجواري على جنبها . صدرت منها همهمة مكتومة . أنها لا تكف عن الهمهمات والهذيانات أثناء النوم منذ أن حلت هنا، ربما لأنها حديثة عهد بحياة السجون . التوى نصفها الأسفل . فبدا حوضها أكثر أتساعا . وخصرها أشد ضمورا ،كانت تهمس بأنين خافت . ترى.. بماذا تحلم ؟ ..أنا أيضا كنت أحلم كثيرا . كان يحلو لي أن أقف أمام المرآة طويلا . وأخلع ملابسي ببطء . أتأمل جسدي النافر . واحلم .. واحلم .. بالفارس المجهول الذي سيحملني بين ذراعيه . ونتسلق معا الشجرة الحمراء . وأخيرا تسلقت الشجرة .. ولكن مع زكريا النتن ، وا خيبتاه . السجينة تنقلب على ظهرها . أنينها يشتد . عضلات وجهها تتقلص . يا ويلتي .. إنها تتوجع . دنوت منها هززت كتفها :

•- عايدة .. استيقظي .. يا عايدة .

هي تقعد بخفة تأخذ نفسا عميقا .

•- ما بك ؟

•- آه .. يا جدتي .. إنه كابوس . كابوس مرعب .

•- خذي .. أشربي .

ناولتها كوبا من الماء أردفتْ بعد أن شربتْ :

•- هذا الكابوس اللعين لا يفارقني منذ أن ألقوا القبض علي . كيف أتخلص منه يا جدتي ؟

•- أهدني ونامي .لا تفكري بشيء . هذا قدرنا المحتوم يا ابنتي .

هي مثلي محكومة بالسجن مدى الحياة . وهي مثلي عُذِّبَت بضراوة قبل أن تستقر في هذا السجن . وهي مثلي تصدرت صورتها صفحات الجراند ... الكتابة موسومة بالعبرية تحت صورتها : إلقاء القبض على إرهابية خطيرة . الأجهزة المختصة تقبض على الإرهابية عايدة . البعض يقول إنها المسؤولة عن عمليات التفجير الأخيرة ...وبعد أيام تتسلل إلى ردهة السجن منشورات سرية . كانت السجينات يقرأنها بهمس : الحرية للمناضلة عايدة . أيتها المنظمات الإنسانية . أنقذي حياة عايدة . إنهم يعذبونها ببشاعة . يسقط السوط على ظهري. فأمسك ببطني بشدة.. وأخيرا رمى الشرطي سوطه وجلس مستريحا على كرسي . أنا ما زلت أواصل الصراخ . ألم بطني يشتد . زحفت على ركبتي أمسكت بمسندي كرسي آخر . الصراخ ما زال يخرج من حنجرتي حادا مشروخا . الشرطي يقول مغالبا قهقه ساخرة :

•- لقد كففت عن ضربك فما بالك تصرخين !

•- الصراخ يتصاعد من فمي . كفّاي تتشبثان بمسندي الكرسي.. الشرطي بلكنة عبرية :

•- لا تدّعي الجنون لن يجدي ذلك نفعا .

فجأة أنقطع الصراخ من فمي . وأنطلق من مكان آخر.. الصراخ الآن يأتي من تحت . من بين ركبتي ..آه يا زكريا النتن .. هذه قطعة الصراخ الجهنمية التي تجعلني زجاجة حليب بشرية ليس أكثر .. الشرطي يقفز من مكانه :

•- ما هذا . إنه طفل.

الأخبار الشفهية تنتشر بين السجينات : عايدة تقاوم التعذيب بالصمت . عايدة ترفض الإدلاء بأي اعتراف . عايدة تـُنقل إلي المستشفى نتيجة التعذيب الهمجي ... عايدة تعود من المستشفى.. عايدة ما زالت صامتة ... إنهم يقفون ذاهلين أمام صمتها . إلى أي جهة تنتمي ؟من شركاؤها ؟ أين تسكن ؟ ما اسم أبيها ؟؟؟ .. . عايدة محاطة بالأسرار .. عايدة ثانية تنقل إلى المستشفى ..... في اليوم الثاني لدخولي إلى المستشفى سألتني الممرضة :

•- ماذا ستسمين الطفل ؟

•- أسميه حامدا .

وما أسم أبيه ؟

•- زكريا .

سألت بابتسامة خبيثة :

•- أمتأكدة إنه أبن زكريا ؟

•- نعم .

دونت الاسم في أوراقها . ومضت . لكن أحدا لم ينادهِ بهذا الاسم ، لقد غلب عليه لقب ابن الحرام . الشرطة والسجينات والسجانات ينادونه بهذا اللقب . ((أبن الحرام )) رافقه ست سنوات في السجن يوم كان برفقتي . وعشر سنوات في الملجأ . .. كانت مديرة الملجأ تصطحبه لزيارتي في فترات متباعدة .. كنت أرى فيه ملامح أبيه. . نظراته الخبيثة ودناءته وجبنه ... وبعد أن تجاوز سن الطفولة انقطع عن زيارتي ، كنت أتسمّع أخباره من بعيد ، مرة قالت لي أحد السجينات بغضب عارم :

•- ابن الحرام يتعاون مع العدو ضد أهله .

•- وما الذي بيدي أفعله ؟

•- مع الأسف هكذا يكون ابن أخت المناضل حامد .

أجبت بانكسار .

•- انه ابن زكريا النتن .

المرة التي زارني فيها جاء ليطلب توكيلا يمنح حق التصرف في الدار . قال ، وهو يبسط أمامي ورقة التوكيل :

•- الدار اليوم في موقع تجاري مهم . أنها ستدر ذهبا لو أحسنا استثمارها . وسينالك من ذلك نصيب .

قلت :

•- لكن لي من الدار الثلث . ولخالك حامد الثلثان . فابحث عنه وخذ التوكيل منه . اعترته ارتعاشه مباغته وهو يسمع اسم حامد ، طوى الورقة بسرعة ، وقال :

•- لا داعي لذلك ... لنؤجل المشروع آلي وقت آخر .

كانت سلطة الاحتلال وقتها منحت جائزة ثمينة لكل من يدلي بمعلومات تفيدها في العثور على حامد . لم يعد حامد الصبي الغرّ الذي يعبر الصحراء لأول مرة . إنه الرأس المدبر للكثير من العمليات الفدائية .

الهمهمات المكتومة تعاود عايدة أحسها تستغيث ، حملت كوب الماء ، وهززت كتفها :

•- عايدة انهضي . هل عاودك الكابوس ؟

تنهض عايدة . وتتناول الكوب :

- شكرا.. أتعبتك كثيرا يا جدتي .

هي لا تكف عن مخاطبتي بعبارة (( جدتي )) منذ إن شاركتنا ردهة السجن هذه . حين دخلت علينا لأول مرة استقبلتها السجينات بالترحاب الشديد . كل واحدة كانت تعد لها مكانا إلى جوارها . هي أجالت نظرها في أنحاء الردهة . تأملت الوجوه جيدا ثم استقرت نظراتها علي . حدقت إلي طويلا . ثم قالت :

•- أفضل الإقامة إلى جانب الجدة مريم . ألست الجدة مريم ؟

ورسمت ابتسامه لذيذة . قلت :

•- أهلا وسهلا يا ابنتي .

ترى كيف عرفت اسمي ؟ وكيف شخصتني ؟ ربما لأني العجوز الوحيدة في هذا السجن . زميلاتي الأُوَل قضين مدة محكومياتهن وغادرن الى بيوتهن . إلا أنا . محكومة بالسجن مدى الحياة . حضرت وجوه وغابت وجوه . وأنا هنا أحصي دقائق هذه الساعة الرتيبة . ترى لماذا أذكر حامدا كلما أصخت السمع الى دقاتها ؟ ربما لأن تلك الساعة النعش كلما تبقى لي من حامد ... تحيلني دقاتها الى خطواته وهو يغادر الدار متوجها الى أمه في الضفة . (( سامحك الله يا مريم )) . وترتسم أمامي نظرات التأنيب تفيض من عيني حامد . مرة تنبهت عايدة للدموع تترقرق في عيني . وأنا أتأمل الساعة . قالت :

•- لعلك تذكرت الشهيد حامد يا جدتي .

•- ومن أين تعرفين حامدا ؟

•- عجبا . كيف لا أعرفه ؟ أنه الرجل الذي أقضّ مضاجع المحتلين لسنين طويلة .

•- ولكنه قتل قبل أن تولدي ؟

•- رغم ذلك أنه رمز من رموزنا الخالدين .

عايدة ، برغم هدوئها ووداعتها ، ما زالت محاطة بالأسرار . حتى اسمها هو ليس اسمها الحقيقي . تقول بعض السجينات : (( عايدة )) واحد من الأسماء الحركية الكثيرة التي كانت تحملها هذه الفتاة . بعضهن حاولن إن يعرفن شيئا عن حياتها الماضية . وفشلن . كانت تصدهن بنظرة صارمة . بكلمات قليلة توقفين عند حدودهن . ... في الأيام الأولى التي أعقبت وصولها إلى هذا السجن أمرتها رئيسه السجانات إن تنظف الجناح الإداري . كانت امرأة طويلة ضخمة ذات كفين عريضين . لم تسلم منهما واحدة من السجينات . لكن عايدة تجاهلت الأمر . كررت رئيسة السجانات أمرها وأضافت جملة بذينة ، حدجتها عايدة بنظرة تحدٍّ، وأشاحت بوجهها إلى الجانب الآخر، استشاطت رئيسة السجانات غضبا . توجهت الى عايدة ورفعت يدها لتصفعها . لكن الفتاة الوديعة أمسكت بالقبضة العريضة وبخفه بالغة وجهت رفسة عنيفة الى أسفل بطنها. ثم توالت الضربات إلى الجسد العملاق. كانت عايدة تطبق صنوف القتال الأعزل بمنتهى الرشاقة ... وحين وصل حرس السجن الى الردهة كان جسد رئيسة السجانات يتلوى على الأرض مستغيثا .

بعد ثلاثة أسابيع رجعت عايدة من السجن الإنفرادي . ومنذ ذلك التاريخ لم تفكر أي من السجانات ان توجه لها أمرا . ولم تجرؤ أي من السجينات ان تسألها عن حياتها الماضية .

اعتدلت عايدة في جلستها . وسألتني:

- أراك لم تنمي هذه الليلة يا جدتي ؟

•- كم الساعة الآن ؟

نظرت إلى أعلى الجدار حيث علقت الساعة/ النعش :

•- إنها الثالثة الأ ربعا .

•- لا أستطيع .. لا أستطيع .. خطواته تملا رأسي وتدق .

•- خطوات من ؟

•- خطواته ، حامد ، لقد نسيتـَه .

•- مجنونة تستمعين إلى خطواته ؟

•- خطواته .. مع كل دقه من دقات الساعة يخطو خطوة واحدة . ألم يخطر على بالك انه ...

وأضافت عايدة :

- أوشك أن يطلع الفجر . ما بك ؟

•- هذه الساعة اللعينة تسلب النوم من عيني .

- أعلم ذلك إنها تذكرك بالشهيد حامد .

- قال لي مرة : اسمعي يا مريم . إذا كانت تلك الساعة اللعينة تسبب لك الأرق . فلديّ الحل . أتعرقين يا مريم إذا أملناها قليلا إلى الجانب توقف الرقاص . أنا أعرف هذا اللون اللعين من الساعات ، لا يتحرك رقاصها إلا إذا كانت معلقة بصورة مستقيمة .

سألت عايدة باستغراب :

•- من الذي قال لك ذلك ؟

•- زكريا النتن . قال ذلك ليلة عرسي .

•- هذا الصنف من المخلوقات دائما يسعى إلى أن يوقف عقارب الساعة . يا لغبائهم إنهم لا يعلمون إن عقارب الساعة لا تتوقف ولا تعود إلى الوراء ... ابنه ابن الحرام مثله . ما زال إلى اليوم يسعى إلى إمالة رقاص الساعة .

•- واحسرتاه .. حامد يموت ويبقى ابن زكريا النتن .

بعد استشهاد حامد مباشرة ، زارني ابن زكربا النتن إلى السجن . كنت أظنه جاء ليعزيني بمصاب حامد . فسألته :

•- هل حضرت مراسيم دفن جنازة خالك ؟ يقولون إن التشيع كان فخما ؟

•- كنت مشغولا بولادة . لقد ولدت لي ابنة تشبهك كثيرا . كل من رآها قال انها تشبه جدتها مريم .. وقد أسميتها يافا . أليس أسما جميلا يا أماه ؟

•- فعلا هو أسم جميل . يافا هي مدينتي الأولى .

بعد تجاذب أطراف الحديث عرفت أنه جاء ليعيد العرض القديم . قلت :

•- أنت تعلم أن لخالك الثلثين من الدار وقد آلت هذه الملكية إلى أبنه من بعده .

رد بلباقة :

•- أعلم ذلك يا أمي . جئت لآخذ موافقتك على التصرف بحصتك من الدار . أما خالد ، أبن خالي فسيكون شريكي في المشروع . هذا المشروع يدر ذهبا . والنفع سيعم الجميع . يا أماه .

كان ناعما في حديثه معي غاية النعومة . وبذلك فقد أنتزع موافقتي بسهولة .

بعد عدة شهور زارني خالد ، أبن أخي . وشكا لي مما يفعل ا ابن زكريا . قال:

ابنك يلطخ شرفنا بالوحل يا عمتي .

سألته باستغراب :

•- ألم يدخلك شريكا في مشروعه ؟

احمر وجهه وبغضب عارم رد :

•- ماذا أنا ابن الشهيد حامد اشترك بمشروع كهذا !!؟

وقتها عرفت ان ابن الحرام قد غرر بي كما فعل ابوه . وأن المشروع الذي تحدث عنه ليس مشروعا سياحيا بريئا . قلت :

•- عفوا يا ولدي . كل ما أعرف أنه أراد فتح مشروع سياحي . وقال انك ستكون شريكة فيه .

•- ليس كذلك انه جعل دار الشهيد حامد ما خورا لجنود الإحتلال .

•- ولكن ما الذي استطيع أن افعله لابن زكريا النتن ، وأنا في هذا السجن ؟!

•- كل ما في الأمر أردت اطلاعك على ما يجري ، حتى لا تلومينني . وأنا قادر على أن أوقفه عند حده.

ردت عايدة :

- ولكنه سينال مصيره المحتوم .

- يقال أن حامد بن خالد مصمم على أن يثار لأبيه

- ليست المسألة مسألة ثار يا جدتي . أنها قصة أمة بأسرها .

- صدقت يا ابنتي .

وبعد لحظة صمت سألتني :

هل تعرفين حامد ابن خالد جيدا ؟

- أنا لم أره . لكن الذين يعرفونه يقولون أنه يحمل صفات جده حامد .

كانت الاستعدادات تجري داخل ردهة السجن اللاحتفال بمرور سنه على استشهاد حامد . السجينات يتهيأن لأداء الأناشيد الحماسية . بعضهن أعددن برقيات لبعثها إلى المنظمات العالمية .. في ذلك اليوم جاء النبأ العظيم . لقد قتل خالد . وجد طعينا بخنجر في أحد أزقة المدينة . الأخبار الرسمية تشير إلى أن القاتل مجهول . الحادث وقع ليلا في زقاق مظلم . والقاتل لم يترك أثرا يستدل به .


لكن عيون السجينات تنطق بغير ذلك . أنهن يتهامسن وينظرن إلي نظرات اتهام . أخيرا تحول الهمس إلى تصريح . بدأت أصوات السجينات تصرح باسم القاتل . وقفت إحداهن أمامي . وهتفت في وجهي :



•- نغلك هو القاتل .

أضافت أخرى :

- خالد كان يقف في طريقه .

وثالثه :

•- خالد طالبه بإغلاق الماخور . وهدده بالقتل أن لم يغلقه .

•- سيكتشف القاتل وسينال جزائه .

•- كيف ينال جزاءه وهو يقدم للمحتلين أشهى الأفخاذ !!

•- ينال جزاءه على يد أبناننا .

توقفت الساعة عن مواصلة دقاتها . كمن يسترد أنفاسه ثم أطلقت ثلاثة دقات صاخبة . رمت عايدة الغطاء ونهضت من فراشها . قالت :

•- أوشك الفجر على الانبلاج .

كانت تقف وسط الردهة وقد أمالت رأسها ، كمن يصيخ السمع لنداء مبهم . بينما تسمرت عيناها على الساعة الجداريه . وبعد لحظات طرق سمعي دوي خافت . قادم من بعيد .سألت عايدة :

•- هل سمعت الذي سمعته يا جدتي ؟

•- نعم .

•- ما هو ؟

•- أظنه صوت انفجار .

•- ولكن بعيد عنا .. أين تتوقعينه ؟

•- أظنه في المنطقة السياحية .

•- أظن ذلك .

ثم أضافت مخاطبة نفسها :

•- رحلة آلف الميل تبدأ بخطوة واحدة .

جلست على فراشها وسألت :

•- أخبريني يا جدتي .. هل تحبين ابنك ؟

•- إنه أبن زكريا النتن .

•- أعلم ذلك . ولكن ألم تحبيه يوما ؟

•- منذ أن بدأ يتحرك في رحمي كنت أحسه قذارة بصقها فيّ زكريا النتن . وما زال ذلك الإحساس يتملكني إلى اليوم .

وجاء صوته من وراء ظهري : ... أتعتقدين أنه سيستحق الحياة ذلك الطفل الذي سينشأ في ظل رجل مثل زكريا ؟ وتردد لحظة ثم قالها كما اعتاد وكما توقعتُ ((النتن)) .... أن الطريقة الوحيدة كي لا تخسريه هي التخلص منه .

ضربتُ كفا بكف وهتفتُ :

•- لو إني سمعت كلام حامد .

قالت عايدة

•- إلى هذا الحد تكرهينه ؟

•- حتى ابنته هربت منه ولم يعرف مصيرها إلى اليوم .

لاذت عايدة بالصمت وعادت إلى الإصغاء لدقات الساعة . كانت تدق خطواتها الباردة كصوت عكاز مفرد بلا توقف . تدق ،تدق ، تدق ،منذ أن جاء بها حامد وعلقها فوق السرير. وأنا أسند له الكرسي ثم نزل وأبتعد وأخذ بنظر إليها برضا ألا أنها لم تتحرك . فكر قليلاً فقلت له (( ربما تحتاج إلى تعبئة )) فرفع رأسه نافيا . وقال : (( أعتقد أنها ليست مستقيمة أن ساعة الحائط ذات الرقاص لا تشتغل إذا كانت الساعة مائلة . )) وصعد على الكرسي مرة أخرى وأخذ يحركها ببطء . وكأنه يصوبها تصويبا . وفي اللحظة التالية بدأت تدق .

تنبهت إلى وجه عايدة . كان غارقا في تأمل عميق ... تركتها للحظات تأملها . ورفعت عيني إلى فوق . كان أول خيوط الشمس يتسلل عبر الكوة الصغيرة في أعلى الجدار راسما خطا رفيعا على الجدار المواجه . تهادي صوت إحدى السجانات ينادي باسم عايدة . هي هرعت إلى ردهة السجن ثم عادت تحمل صرة . قالت السجانة :

•- أحد معارفك جلب لك هذا الطعام .

أثار ذلك دهشتي . أن هذه هي المرة الأولى التي يأتي طعام لعايدة من خارج السجن . فتحت الصرة ونفضت محتوياتها على الأرض . كان فيها فواكه وخضار وعدة أرغفة ودجاجة محمصة . بدا على ملامح عايدة القلق ... كان واضحا عليها إنها تفتش عن شيء ما ، لم تعثر عليه حتى ألان . أمسكت بالدجاجة المحمصة وشقت بطنها . ونفضت حشوها في صحن أمامها . انتشرت رائحة الحشو . استيقظت غريزة الجوع في نفوس السجينات . فتلمضت الشفاه ، امتدت أصابع عايدة تجوس الحشو المكوم في الصحن . وأخيرا انفرجت أساريرها . وهي تلتقط قطعة من بين الحشو . كانت كيسا من النايلون مطويا على رقعة صغيرة . فتحت الكيس وأخرجت الرقعة . بدأت عيناها تلتهم الحروف . أضاء شعاع الشمس الضيق المتسرب من النافذة خطا رفيعا من الدم كان يزحف برأس مدبب .

تعالت الزغاريد من فم عايدة . بينما كانت أصابعها تخفي الورقة تحت الفراش . نهضت السجينات . وتجمعن حول عايدة . كن يطلقن الزغاريد دون أن يعرفن السبب . انهن متأكدات ان عايدة لا تفرح الا لأمر مهم . بعد ان اطمأنت الى ان كل السجينات قد استيقظن . وتجمعن أمامها . كفـّت عايدة عن الزغردة . حل على الردهة صمت مباغت ، بانتظار ما ستنطق به شفاه عايدة . وانطلق النبأ العظيم :

•- لقد نسف الماخور. استحال الى كومة تراب .

تعالت الزغردات ثانية . هتفتُ :

•- وابن زكريا النتن ما مصيره ؟

•- لقد أخرجوه قطعة لحم من بين الأنقاض . (ردت عايدة )

أحسست بالزغردات تتفجّر من فمي برغم إرادتي ... ودون إرادتي أيضا كانت ذراعاي تحتضنان عايدة بشوق كبير .

بعد ان هدأت ضجة السجينات . وعدن الى مواقعهن . أجلستني عايدة على فراشها . وقالت :

•- آن يا جدتي ان أكتشف لك سرا .

•- قولي يا ابنتي . انك لا تبشرين الا بخير .

•- اسمي ليس عايدة .

•- أعلم ذلك . لكن ما اسمك الحقيقي ؟

•- أنا يافا . حفيدتك .

•- يا ألهي ! يافا ؟! لكن لماذا هربت من دار أبيك ؟

•- أراد ان يجبرني على العمل في الماخور . قال أن لي جسدا يدر ذهبا .

•- النذل .. انه ابن زكريا النتن ... لكن اين ذهبت بعد فرارك منه ؟

•- أقمت في دار خطيبي حامد .

وحين لاحت مني التفاتة نحو الساعة الجدارية . قالت عايدة :

•- جدتي. انظري . الساعة ما زالت تدق .

•- طبعا يا ابنتي لأن رقاصها ما زال مستقيما .

وظلت الساعة تدق ، تدق ، تدق ... في البدء كنت أعد بدقاتها خطوات حامد ، وهو يهبط السلم متجها الى المجهول . هاربا مني ... واليوم أعد بدقاتها خطوات حامد الحفيد وهو يقترب نحو هذا السجن ليهد أسواره .

تمت

د. عبد الهادي الفرطوسي
أعلى