د. جوزاف ياغي الجميل - معلّقة الوفاء… قراءة أولى في مطلع معلقة “جبران خليل جبران” لـ د. جميل ميلاد الدويهي

“أيُّها المبحرونَ، تلكَ بلادي
من عبيرٍ مُسافرٍ في الوهادِ
أقحوانٌ على الذُّرى، أم عَروسٌ
ألقتِ الشالَ بين تـَلٍّ ووادِ؟
أبدعَ الله هَهنا من خَيالٍ
هيكلاً شامخاً، طويلَ العِمادِ
وأساطيرَ من جمالٍ عميقٍ
في كتاب الزمانِ، لا من مِدادِ”

د. جميل ميلاد الدويهي

***

البحر.. وما أدراك ما البحر؟!

قارب سفر يموج بين الضفتين: الوطن والغربة.

أوتار قيثارة تشد خيوط الَشوق بين أرض وسماء، بل بين الجنة الأولى وأرض الشقاء.

جدول من الفيروز يموج بين الأزلية والأبدية.

أهذا هو البحر أم غول يبتلع حتى الأحلام؟

بين أرض لبنان وبحر الغربة ألف لقاء، وألف رسالة يزهر فيها الحنين.

أيها المبحرون، بل أيها الراقدون تحت التراب، كما تقول قصيدة الشاعر أحمد رامي، بل تحت الموج.

أيها الموغلون عميقا في بحار بلا قرار، قراركم فراركم. الموت خلفكم والموج أمامكم. فإلى أين المفر؟

لستم سندباديين وإن راق لأحلامكم فعل المغامرات.

لستم أوليسيين وإن ذاق سمعُكم طعمَ غناء الحوريات.

مكره أخوك لا بطلا.

وأبحرتم…إلى اللاقرار، إلى عمق تجاوز زمن العودة.

وطالت أيام غربتكم والبعاد.

أيها المبحرون بعيدا حتى جُنّتِ الأبعاد، وأُهرقت دماء الإبعاد، هذه بلادي، بلادكم، لا تزال تنتظركم، حسناء لم يكتوِ حسنها برياح تشرين الجلاّد.

بين سفر البحر، والبر، لقاء عاشقين. ولا تزال العروس، في فستانها الأبيض يؤرقها حلم انتظار. أقحوان الذُّرى يعانق عروس التلال والآمال.

أيها الموغلون عميقا في محيطات الحنين، أرضكم أرض الغلال. والكوكب الدُّريّ يغفو على التلال، وفي أعراس السنين.

بلادكم أرض الله. وأرض الله يحرسها الياسمين.

وفي هيكل النجوى قصيدة صاغها الله عنوان رجاء.

في هيكل الله، منابت آس العصور. خيال فنان قال للكون كن فكان.

قصيدة الله، بلا حبر أو مداد. سحرها عرس القدر. حلمها موج العبير، وآيات الجمال.

لبنان أرقى قصيدة خطّها الله، في كتاب.

قصيدة إيمان هي، ضاقت بها الأساطير.

حلم إله أيقظ الوجدَ، فكاد أن يطير.

وطاب الملتقى. طال الزمان.

وأقلق الزمانَ شاعرُ،

غردت في قلبه الوثاب مشاعرُ

لم يمْحُها ظلم حرب، ظلّ بحر، ظلال شهداء.

بين جبران وجميل، لحن حب جميل.

وأشرقت، بين المهاجرين، سنفونيّة الرحيل، سفينة بقاء مستحيل.

جبران خليل جبران، إيليا أبو ماضي، ميخائيل نعيمة، أمين الريحاني، نعمة الله الحاج، رشيد أيوب، جميل ميلاد الدويهي، رنده رفعت شرارة، غلاديس القزي، جوزيف أيوب… سلسلتان متصلتان، قديما وحديثا، لتعلنا وجه لبنان الحقيقي الذي شوّهته أنانيات السياسيين والفاسدين والحاكمين سعيدا بغير استحقاق. هؤلاء هم المهاجرون المبحرون الذين يناديهم صاحب المعلقة الجديدة جِدّة فكره الموسوعي الغنيّ بما لذّ وطاب من الفنون الأدبية والفلسفية …

بين البحر وضفتي المهجر والوطن وشائج قربى وآبات خيال وجمال.

بين ضفة الوطن وشاطئ الغربة أحلام عناق لا يعرف عمق محبتها إلا من ذاق لوعة الفراق.

بين بحر جبران وبحر الدويهي مسافة حب لا تتغير، ولا تتبدل. إنها العشق الأبدي لهيكل الوطن. ولعل كلمة الهيكل تعيدنا إلى قول السيد المسيح في بشارته المحيية:

“وَقَالَ لَهُمْ: «مَكْتُوبٌ: بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ.(متى: 21 : 13)

هذا هو هيكل الدويهي، وطنه الجريح، إبداع الله الشامخ.

في مطلع المعلقة الجبرانية نداء، وفعل محبة. ينادي الشاعر أصدقاءه المبحرين، بل ذاته المبحرة نحو أرض جديدة، وسماء جديدة. وكأنه يريد لجذوة الوطن ألا تنطفئ، في القلوب. مع يقينه المطلق أن بلاده الرائعة، أرض الله، أصبحت بجمالاتها، وقدسيتها، و” أساطيرها” شبيهة بالجنة الأولى، عدن السليب، جمهوريةً كم تمنى،عبثًا، أن تبقى الجمهورية الفاضلة. ولكن هل انتهى عهد المعجزات؟

هذه قراءة أولى لمطلع المعلقة الدويهية، معلقة الوفاء: جبران خليل جبران.

كثيرة أوجه الشبه بين جبران وجميل. ولكنّ الشبه الأرقى والأبقى يبقى في المحبة التي ترسخت في القلب والضمير، جذور أرزة حنين لا ينضب زيت سراجه. ولكم تحوّل، على أيديهما الماء إلى زيت، والزيت إلى نور قداسة، والقداسة إلى هيكل بنَته مخيلة الله.

جميل الدويهي، قديما كانت المعلقات تُعلّق على أستار الكعبة، وأنت علقت معلقتك الجبرانية على أستار الإنسانية والوطن، لتؤكد أن لبنان المشعل والرسالة لا يمكن له أن يضعف أو يموت، لأنه عرس القداسة، وعرش الله.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى