د. عبدالجبار العلمي - قراءة عاشقة لقصيدة "طفولة الماء " للشاعر المغربي محمد الشيخي من ديوان "ذاكرة الجرح الجميل" :

تتألف القصيدة من ثلاثة مقاطع مرقمة من : 1 إلى 3

القراءة :

شجَرٌ يأتي .. !
قد تَرَاهُ يُصَفِّفُ أَوْراقَهُ
في مَمْشَى الْقَصٍيدَةِ.
- أَنْدَلُسٌ .. !
قَدْ تًرَاهَا
تَصْعَدُ مِنْ جُرْحِ ذَاكَ الْمَسَاءِ،
تَسَاقَطٌ مِنْ عُشِّ هََذَا الْفَضَاءِِ الرَّمَادِيِّ،
- هَا غَرْنَاطَةُ هَذًا الْحُلْمِ
تُشَرٍّعُ نًافِذَةَ الشِّعْرِ ،
تَزْرَعُ دَالِيةَ العِشْقِ
فِي حُجْرَةِ الْقَلْبِ ،
فِي مَسْكَنِ الشَّمْسِ
وَالدَّمْعَةِ الْعَاشِقَهْ !

ويمكن أن نعتبر هذا المقطع المحكم البناء الذي تأخذ ألفاظه بعضها برقاب بعض عن طريق التدوير أحيانا ، جملةً شعرية طويلة حسب تصنيف الشاعر الباحث أحمد المعداوي (المجاطي) ، حيث يحددها بأنها هي التي تتجاوز الست عشرة تفعيلة ، " شريطة أن تتكرر عددا من المرات في القصيدة الواحدة. وقد تكررت الجملة الطويلة في ثلاثة مقاطع هي التي تتكون منها القصيدة، وتنتهي الجملة الطويلة في قصيدة شاعرنا محمد الشيخي في المقطع الأول بقافية مقيدة مجردة (ه/ذا الماءْ ) ، وينتهي المقطع الثاني بقافية مطلقة موصولة بهاء السكت ( عاشقهْ ) ؛ كما أن المقطع الثالث ، ينتهي بنفس قافية المقطع الأول قافية مقيدة مجردة (ه/ذا الماءْ) . وإذا كان لفظ الماء يتكرر في قافية المقطعين ، فإنه في الأول يتكرر مع لفظ الطفولة ، بينما يتكرر في المقطع الأخير مع لفظ الشيخوخة ، فالذات الشاعرة مدركة للزمن الهارب المنفلت من بين يديها:

" زمن هارب .. !
ما تبقى من أشواق الظهيرة
لامتصاص مقالة هذا الوقت.
وهل يكفي لاشتعال الفراشة
في هذيان العرس الأخير ؟
وما قد تبقى
من سورة اللون ،
هل يكفي لاشتعال الطفولة ِ
في شيخوخة هذا الماء ؟

ثمة على مستوى المعجم في هذا المقطع الأخير كلمات دالة على الزمن : زمن هارب - الظهيرة - الوقت - العرس الأخير - الطفولة - الشيخوخة ، هذا بالإضافة إلى فعل تبقى المتكرر مرتين المرتبط بالزمن الهارب ، وفعل يكفي المستخدم مرتين في صيغة السؤال عن مدى كفاية الزمن المتبقي لمزيد من الأحلام الوردية والآمال الطفولية البريئة. وهل يتوقف توقُ الإنسان إلى تحقيق آماله العريضة ؟
يبقى أن نقول إن الشاعر كزميله في تحكيك الشعر وتجويده أحمد المجاطي ، ينحو منحاه أيضا في المزج بين البحور الشعرية في قصيدة واحدة . فقد استخدم الشاعر في قصيدته " طفولة الماء " بحرين متقاربين: المتقارب في المقطع الأول ، والمتدارك في المقطعين الثاني والثالث ( فعولن - فاعلن ) وهما كما هو معلوم ( علن فا - لن فعو ) وربما استخدم الشاعر المتقارب البطيء للدلالة على زمن الطفولة والصبا والشباب الذي مازال ممتدا إلى الأمام ، بينما وظف وزن المتدارك الذي يزاحف فيصير خببا للدلالة على سرعة انقضاء الزمان وهروبه دون توقف إلى نهاية المطاف. القصيدة تزخر بالصور المبتكرة شأن كتابة الشيخي الشعرية. وهي تحتاج إلى دراسة متكاملة تصر. جميع مكونات الخطاب الشعري الأخرى . وأرجو أن يتاح لي الوقت والجهد لدراسة نماذج من شعر هذا الشاعر الباقي من الشعراء المحككين المجودين الذين لا يخرجون على الملأ بشعرهم إلا بعد أن يحسوا أنه قد استوى ونضج على نار هادئة . ولنا في تجربة محمد الشيخي الشعرية ما يؤكد لنا ذلك ، فلا يصدر له ديوان جديد إلا بعد سنوات قد تتجاوز الخمس سنوات . وهو الشاعر الستيني - كما أعلم عن كثب - فقد صدر له منذ سنوات السبعين إلى الآن الدواوين الشعرية التألية : "حينما يتحول الحزن جمرا "( الدار البيضاء أبريل 1983 )

- " الأشجار " ( الدار البيضاء - 1988 وقد كتبت قصائده ما بين 83 و 86 ) " وردة المستحيل " ( منشورات فضاءات مستقبلية الدار البيضاء 2002 ) - " ذاكرة الجرح الجميل " ( فضاءات مستقبلية الدار البيضاء 2005 ) - " زهرة الموج" ( دار الحرف للنشر والتوزيع القنيطرة ، 2009 ) - "فاتحة الشمس "(فضاءات مستقبلية ، الدار البيضاء ، 2015 ) . وننتظر منه الجديد الجيد دائما.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى