يوسف زيدان - فصوص النصوص الصوفية

(١-٧)
الغَوْثيةُ .. ووَصْفُ القُطْبِ

قال الغوثُ الأعظمُ، المستوحشُ من غير الله، المستأنسُ بالله: قال اللهُ تعالى: ياغوثَ الأعظم. قلتُ: لبيك يا رَبَّ الغوث. قال:

كُلُّ طَوْرٍ بين الناسوت والملكوت

فهو شريعةٌ

وكُلُّ طَوْرٍ بين الملكوت والجبروت

فهو طريقةٌ

وكُلُّ طَوْرٍ بين الجبروت واللاهوت

فهو حقيقةٌ

يا غوث الأعظم، ما ظهرتُ فى شىءٍ كظهورى فى الإنسان.

يا غوث الأعظم، مَنْ قصَّر عن سفرى فى الباطن، ابتُلى بسفر الظاهر ولم يزدد منى إلا بُعداً .. ومَنْ أراد العبارة بعد الوصول، فقد أشرك .. ومَنْ رآنى استغنى عن السؤال فى كل حال، ومَنْ لم يرنى لم ينفعه السؤال، لأنه محجوب بالمقال.

يا غوث الأعظم، المحبة حجابٌ بين المحب والمحبوب، فإذا فنى المحبُّ عن المحبة، وُصل بالمحبوب.

يا غوث الأعظم، نَمْ عندى لا كنوم العَوَام، تَرَنى! فقلتُ: يا رب كيف أنام عندك؟ قال: بخمود الجسم عن اللذات وخمود النفس عن الشهوات، وخمود القلب عن الخطرات، وخمود الروح عن اللحظات، وفناء ذاتك فى الذات.

يا غوث الأعظم، قُلْ لأصحابك وأحبابك، مَنْ أراد منكم صحبتى فعليه بالفقر، ثم فقر الفقر، ثم الفقر عن الفقر! فإذا تَمَّ فقرُهم فلا ثَمَّ إلاَّ أَنَا.

■ ■ ■

تظهر فى هذه العبارات السابقة، المختارة من (غوثية) الإمام عبدالقادر الجيلانى، طبيعة النصوص الصوفية التى أسميها «فصوص النصوص» لأنها تمثل بالنسبة إلى بقية النصوص ما يمثله الفصُّ بالنسبة للخاتم.. ولهذه (النصوص الفصوص) سمات وخصائص، أهمها وأبرزها الإيجاز الشديد فى المفردات المستعملة وتركيز المعنى الواسع فى أقل عدد من الكلمات، تأكيداً للقدرة على توليد الدلالات فى نفس المتلقى، قارئاً للنص كان أم سامعاً.

فالإيجازُ اللفظى يقترن دوماً بالطاقة الإيحائية للمفردات والكلمات الاصطلاحية التى تصير فى النص كأنها رموز تشير إلى معانٍ أوسع بكثير مما تعبِّر عنه المفردة أو الكلمة بذاتها، أو فى سياقٍ آخر. وهو ما نراه مثلاً فى العبارة الأخيرة، التى تخرج فيها كلمة (الفقر) من معناها العام المتداول، لتكون معادلاً للطريق الصوفى كله، بناءً على أن العبادة الحقة لله هى (الافتقار إلى الله) وعلى أن الصوفى فى حقيقة حاله، هو (الفقير إلى الله)..

ثم تأخذنا العبارة إلى معنى دقيق، هو أن هذا «الفقر» مراتب، هى على الترتيب: الافتقار إلى الله، الإمعان فى الشعور بهذا الافتقار، افتقاد الشعور بالافتقار ذاته، ونسيان (الفقير) لحاله مع تعلقه بالمحبوب الأعلى الذى لا يتحقق الوصال معه إلا بتجاوز أى شعور بما سواه، وهنا يتم المعنى العميق للفقر، ويصل الصوفى إلى أعتاب مولاه.

وقد رأيت أن أبدأ هذه النصوص (الفصوص) السبعة بمختارات من أعمال الإمام عبدالقادر الجيلانى، لأنه ممن لا يختلف أحدٌ على مكانته.. فهو عند الصوفية واحدٌ من الأقطاب الأربعة الكبار الذين أسسوا أوسع الطرق الصوفية انتشاراً (الجيلانى، الرفاعى، البدوى، الدسوقى)..

وهو فقيه من أعلام المذهب الحنبلى، وله عند الحنابلة مكانة متميزة. بل إن أشهر فقهاء الحنابلة، الإمام ابن تيمية، كان يمتدح الإمام عبدالقادر الجيلانى ويقدِّره تقديراً عظيماً، ويدعوه: شيخ الإسلام. وقد وضع ابن تيمية شرحاً على كتابه «فتوح الغيب» وهو كتاب فى التصوف! مع أن ابن تيمية اشتهر بعدائه للصوفية.. لكن الرجل فى واقع الأمر، كان يعادى المتصوفة ذوى المنازع الفلسفية، ولا يعادى التصوف ذاته، بدليل أن له كتاباً فى التصوف عنوانه: رسالة الصوفية والفقراء.

ولد الإمام محيى الدين عبدالقادر الجيلانى فى جيلان، ببلاد فارس (إيران) ولذلك انتسب إليها. وقد كانت عادة الناس فى الزمن القديم، أن يقولوا للرجل إذا كان مولده بجيلان (جيلانى) وإذا كان نسبه يعود إلى واحدٍ من أهل جيلان، يقال له (جيلى) تمييزاً للمنسوب إلى البلد عن المنسوب إلى واحدٍ من أهلها.

وقد رحل الإمام الجيلانى فى شبابه المبكر نحو بغداد، وظل بها حتى وفاته سنة ٥٦١ هجرية، بعدما نال فى زمانه (وبعد وفاته) شهرة كبيرة، جعلت كثيرين من المؤرِّخين يخصِّصون كتباً كاملة للتأريخ لحياته الحافلة.. وقد أحصيتُ فى كتابى (التراث المجهول) خمسة وعشرين كتاباً فى سيرة الإمام الجيلانى، منها:

غبطة الناظر من ترجمة الشيخ عبدالقادر، لابن حجر العسقلانى- روضة الناظر فى مناقب الغوث عبدالقادر، للفيروزآبادى صاحب القاموس – بهجة الأسرار فى ترجمة الشيخ عبدالقادر وذريته الأطهار، للشطنوفى.. إلى جانب ما لا حصر له من أخبار ووقائع أوردها عنه كبار مؤرِّخى الإسلام فى مدوَّناتهم التاريخية الكبيرة.

وللإمام الجيلانى كتاب شهير فى الفقه هو «الغنية لطالبى طريق الحق» وله مجالس جُمعت فى ثلاثة كتب: فتوح الغيب (مطبوع) الفتح الربانى والفيض الرحمانى (مطبوع) جلاء الخاطر فى الباطن والظاهر (مخطوط).. وله أشعار كانت متفرقة حتى جمعتها فى ديوان كان النصف الثانى من رسالتى للدكتوراه، وقد أضفتُ إليها مقالاته الرمزية، التى منها «الغوثية» التى رأينا مختارات منها فى بداية هذه المقالة.. ومنها أيضاً، المختارات التالية:

ياغوث الأعظم، ما بَعُدَ عنى أحدٌ بالمعاصى، ولا قَرُبَ منى أحدٌ بالطاعات.. أهل المعاصى محجوبون بالمعاصى، وأهل الطاعات محجوبون بالطاعات، ولى وراءهم قومٌ ليس لهم غَمُّ المعاصى ولا هَمُّ الطاعات!

ياغوث الأعظم، أهل الطاعة يذَّكَّرون النعيم، وأهل العصيان يذكرون الرحيم. وأنا قريبٌ إلى العاصى إذا فرغ من العصيان، وبعيدٌ عن المطيع إذا فرغ من الطاعات.

ياغوث الأعظم، إذا عرفت ظاهر العشق فعليك بالفناء عن العشق، لأن العشق حجاب بين العاشق والمعشوق.. وإذا أردت أن تدخل حَرَمى، فلا تلتفت بالملك وبالملكوت وبالجبروت، لأن الملك شيطان العالم، والملكوت شيطان العارف، والجبروت شيطان الواقف. فمن رضى بواحدٍ منها، فهو عندى من المطرودين.

ياغوث الأعظم، كمال المعراج (مازاغ البصر وما طغى) ولا صلاة لمن لا معراج له عندى .

■ ■ ■

وقد نُسبت هذه الرسالة المسماة بالغوثية، إلى صوفى آخر شهير، هو محيى الدين بن عربى. لكن نسبتها للإمام الجيلانى أقرب إلى الصحة، خاصة أنها تقترب فى لغتها من نصوص أخرى ثابتة النسبة للإمام الجيلانى، منها نص «وصف القطب» الذى سنقدم منه مختارات أخرى بعد قليل.

والغوثية، عند الصوفية، مصطلح خاص يعبِّر عن إحدى صفات القطب (الغوث) الذى يغيث الله به الخلق، ويقبل شفاعته فيهم، ولذلك عَدَّ الصوفية النبى محمداً صلى الله عليه وسلم، هو الأصل لغوث المسلمين فى الدنيا والآخرة. أما الكاملون من الأولياء، فهم وارثون لهذا المقام عند النبى.. ونصُّ الغوثية الذى مَرَّت علينا فقراتٌ منه، هو نوعٌ من النصوص المسماة فى اصطلاح الصوفية (الخطاب الفهوانى) ومعنى الفهوانية مشتقٌ هنا من قولهم:

فاه الرجل، إذا تكلم.. لكنها فى حقيقة أمرها كلام إلهى يتجلى على قلب الصوفى فى لحظات الكشف والفيض. ومنها (المواقف والمخاطبات) لمحمد بن عبد الجبار النِّفَّرى، وبعض قصائد الشاعر الصوفى الأشهر: ابن الفارض.

وبطبيعة الحال، فإن الفقرات المختارة من (الغوثية) فيما سبق، تحتاج إلى شرح طويل لا يسمح به المقام هنا. وما المراد بهذه المقالات شرح مقاصد النصوص الصوفية، بقدر ما نريد التعريف بها والإشارة إليها كمخزون أدبى هائل فى تراثنا، نَسِيَه المعاصرون وأهملوه، فحرموا أنفسهم من آيات بيانية ناصعة.. ولسوف نختتم هذه المقالة بمختارات من كلام الإمام الجيلانى فى (وصف القطب) ونلحق به بعضاً من نصوصه الأخرى:

■ ■ ■

أنَّى للواصف أن يبلغ وصف القطب، ولا مسلكٌ فى الحقيقة إلا وله فيه مأخذٌ مكين، ولا درجة فى الولاية إلا وله فيها موطن ثابت، ولا مقام فى النهاية إلا وله فيه قدمٌ راسخ، ولا منازلة فى المشاهدة إلا وله فيها مشربٌ هنى، ولا معراج إلى مراقى الحضرة إلا وله فيه مسرىً علىٌّ، ولا أمرٌ فى كونيْ الملك والملكوت إلا وله فيه كشف خارق، ولا سرٌّ فى عالميْ الغيب والشهادة إلا وله فيه مطالعة، ولا مظهر لوجودٍ إلا وله فيه مشاركةٌ ، ولا فعل لقوىٍّ إلا وله فيه مباطنة، ولا نور إلا وله فيه قبسٌ، ولا معرفة إلا وله فيها نَفَسٌ.. ولا مكرمةٌ إلا وهو إليها مخطوب، ولا مرتبةٌ إلا وهو إليها مجذوبٌ.

لا مرمى فوق مرماه، ولا مغشى فوق مغشاه، ولا وجود أتمُّ من وجوده، ولا شهود أظهرُ من شهوده، ولا اقتفاء للشرع أشدُّ من اقتفائه.. إلا أنه كائنٌ بائنٌ، متصلٌ، أرضىٌّ سماوىٌّ، قُدسىٌّ غيبـىٌّ.. مستترٌ باتصاله.. بارزٌ بانفعاله.

ولولا أن جُملته وتفصيله، وأوله وآخره، منطوٍ فى حواشى تمكين المصطفى صلى الله عليه وسلم، وممزوج رحيقه بتنسيم نسمات رعايته.. لخرق سهمُ القدرة سياجَ الحكمة! ولو خلق الله لهذا الأمر الذى أُشير إليه لساناً، لسمعتم ورأيتم عجباً:

ما فى الصبابة منهلٌ مستعذب ... إلا ولى فيه الألذُّ الأطيب

■ ■ ■

ولهذا النص السابق قصةٌ مذكورة فى المخطوطات التى حفظته من الضياع، ملخصها الآتى: قال المؤدب الحاسب، كنتُ كثيراً ما أود أن أسأل الشيخ عبد القادر الجيلانى عن شىءٍ من صفات القطب، فدخلتُ إلى مجلسه وهو يتكلم، فلما جلست قطع كلامه وقال: أنَّى للواصف.. إلخ.

وحين انتهت مقالة الإمام الجيلانى فى وصف القطب، أنشد مباشرةً من خاطره، ومن دون تمهيد، القصيدة التى ذكرنا مطلعها (مافى الصبابة..) وهى قصيدة طويلة مذكورة بالكامل فى ديوانه.

وبعد.. فإن للإمام عبد القادر الجيلانى كثيراً من النصوص الفصوص، الأخرى، التى يضيق المجال هنا عن الإشارة إليها وتقديم فقرات منها، لكننى أود أن أختتم هذه السطور بواحدة من مقالاته الخمس القصيرة عن (الحلاج) فقد اشتهر عن الإمام الجيلانى أنه قال: «عَثَرَ الحلاج، ولم يكن فى زمانه مَنْ يأخذ بيده، ولو أدركته لأخذتُ بيده..» وفى هذه المقالة القصيرة التى اخترتها للقراء، يقول الإمام الجيلانى عن الحلاج:

طار واحدٌ من العارفين، إلى أفق الدعوى، بأجنحة «أنا الحق» فلما رأى روض الأبدية خالياً من الحسيس والأنيس، صَفَّر بغير لغته تعريضاً لحتفه، فظهر عليه عُقاب الملك من مكمن (إن الله غنىٌّ عن العالمين) وأنشب فى إهابه مخلب (كل نفسٍ ذائقة الموت) وقال له شرع سليمان الزمان: لِمَ تكلمت بغير لغتك؟ لِمَ ترنَّمت بلحنٍ غير معهود من مثلك؟ اُدخلْ الآن فى قفص وجودك، وارجعْ من طريق عِزَّة القِدَمِ إلى مضيق ذِلَّةِ الحدوث، وقُلْ بلسان اعترافك ليسمعك أرباب الدعاوى: حسب الواحد إفراد الواحد .

■ ■ ■

إشارة أخيرة : عبارة «حسب الواحد إفراد الواحد» قالها الحسين بن منصور الحلاج، يوم مقتله مصلوباً فى بغداد سنة ٣٠٩ هجرية.. وإلى لقاءٍ قادم، مع نصٍّ صوفى آخر من فصوص النصوص، يوم الأربعاء القادم.


يوسف زيدان

تعليقات

2/7
[SIZE=6]بَدْو شأنِ الحكيم الترمذى[/SIZE]


فى تراثنا العربى عديد من الأعلام الذين حملوا لقب (الترمذى) نسبة إلى بلدة (تِرمِذ) التى كانت تقع بوسط آسيا (أوزبكستان حالياً) وأشهر المعروفين بهذا اللقب اثنان: المحدِّث الشهير أبوعيسى محمد بن عيسى الترمذى، صاحب كتاب (السنن) فى الحديث النبوى.. والصوفى البديع، أبوعبدالله محمد بن علىّ، المعروف بالحكيم الترمذى، الذى انفرد بين الصوفية بلقب (الحكيم) فلم يحمله صوفىٌّ آخر غيره.

عاش الحكيم الترمذى فى القرن الثالث الهجرى، وتوفى بحسب أشهر الأقوال، سنة 320 هجرية، بعدما ترك مجموعة من المؤلفات التى تفصح عناوينها عن موضوعاتها: ختم الأولياء، علم الأولياء، إثبات علل الشريعة، الفرق بين الصدر والقلب والفؤاد واللُّبّ.. كما ترك الحكيم الترمذى (أسئلة) ليجيب عنها الصوفيةُ من بعده! فظلت قرابة أربعة قرون من الزمان، حتى أجاب عنها شيخ الصوفية الأكبر: ابن عربى.

وللحكيم الترمذى نصٌّ أدبىٌّ نادر، كاد يضيع تماماً مثلما ضاع كثيرٌ من متون تراثنا القديم، لولا مخطوطةٌ واحدة منه، بقيتْ محفوظة لما يقرب من تسعمائة عام (مؤرَّخة بسنة 543 هجرية) وهى اليوم موجودة فى مكتبة «إسماعيل صائب» بأنقرة .. وعنوانها: رسالة بدو شأن أبى عبدالله محمد الحكيم الترمذى.

■ ■ ■

ورسالة: بدو شأن (أى: ظهور أمر) الحكيم الترمذى، نشرها قبل سنوات بعيدة د. عثمان يحيى، كملحق لتحقيقه الممتاز لكتاب (ختم الأولياء) وهو أشهر مؤلفات الحكيم الترمذى. غير أن المحقِّق لم ينتبه إلى الأهمية الأدبية لرسالة (بدو الشأن) ولم يلفت نظره تفرُّد هذا النص البديع. بل نراه يشتكى فى تقديمه للنص من أنه : وجيزٌ جداً، مقتضبٌ جداً، يعجُّ بالرؤى والأحلام، ولا ينقع غُلة الصادى تماماً.. (يقصد: لا يروى الظمأ!).

وهكذا لم يعرف المحقق الكبير، رحمه الله، ولم يعرف معاصرونا أيضاً، خطورة «بدو الشأن» كنصٍّ فريد فى بابه، لا نكاد نجد له مثيلاً فى الأدب العربى، بل العالمى .. فالأدب الإنسانى عرف عدداً محدوداً من نصوص (السيرة الذاتية) التى تتماس مع ما يسمِّيه البعض (أدب الاعترافات) وهو ما نراه فى مؤلفات مثل: المنقذ من الضلال والمفصح عن الأحوال، للإمام أبى حامد الغزالى - الاعترافات، للقديس أوغسطين- اعترافات جان جاك روسو.. وهى المؤلفات المفعمة بالنـزعة الإنسانية، وبالجرأة على حكاية وقائع الحياة بصدق.

ولكن «بدو الشأن» تمتاز من هذه الأعمال التى حكت حيوات أصحابها، بأنها أكثر جرأة ومغامرة فى الكتابة، لأن الحكيم الترمذى يحكى فيها سيرته، مازجاً بين وقائع حياته والرؤى التى كان يراها، أو تراه فيها زوجته. وهو ما أعطى فى النهاية نصاً أدبياً بديعاً، لم نعرف له مثيلاً أو مشابهاً.. فلنقترب من «بدو الشأن» لنتعرف إلى هذا النصّ النادر، من خلال الفقرات التاليات التى أضفتُ إليها بعض الكلمات الشارحة بين قوسين، وضبطتُ مفرداتها حسبما يناسب القارئ فى أيامنا هذه:

كان بدو شأنى، أن الله تبارك اسمه، قيض لى شيخى رحمة الله عليه، لـمَّا بلغت من السن ثمانيا، يحملنى على تعلم العلم ويعلِّمنى ويحثنى عليه، حتى صار ذلك لى عادةً وعوضاً عن اللعب فى وقت صباى. فجمع لى فى حداثتى علم الآثار (الحديث النبوى) وعلم الرأى. حتى إذا قارب سنى سبعاً وعشرين أو نحوه، وقع علىَّ حرصُ الخروج إلى بيت الله الحرام، فتهيأ لى الخروج.

فوقفت بالعراق طالباً للحديث، وخرجت إلى البصرة، فخرجت منها إلى مكة فى رجب، فقدمت مكة فى بقية شعبان. فرزق الله المقام بها، إلى وقت الحج. وفتح لى باب الدعاء، عند الملتزم، فى كل ليلة سحراً. ووقع على قلبى تصحيح التوبة، والخروج مما دَقَّ وجَلَّ. وحججتُ، فرجعت وقد أصبتُ قلبى.

ووقع علىَّ حُبُّ الخلوة فى المنـزل، والخروج إلى الصحراء. فكنتُ أطوف فى الخرابات والنواويس (المقابر) وطلبت أصحاب صدقٍ يعينوننى على ذلك، فعزّ علىَّ، فاعتصمتُ بهذه الخرابات والخلوات. فبينما أنا على هذه الحال، إذ رأيت فيما يرى النائم، كأنى أرى رسول الله عليه الصلاة والسلام دخل المسجد الجامع فى كورتنا (بلدتنا) فأدخل على أثره فألزم اقتفاء أثره.

فما زال يمشى حتى دخل المقصورة، وأنا على أثره، ومن القرب منه حتى كأنى أكاد ألتزق بظهره، واضعاً خُطاى على ذلك الموضع الذى يخطو عليه، حتى دخلت المقصورة. فرقى المنبر فرقيتُ على أثره، كلما رقى درجةً رقيتُ على أثره. حتى إذا استوى على أعلاها درجة، قعد عليها، فقعدت عند الدرجة الثانية من مجلسه عند قدميه، ويمينى إلى وجهه ووجهى إلى الأبواب التى تلى السوق، وشمالى إلى الناس. فانتبهت من منامى وأنا على تلك الحال.

ثم من بعد ذلك بمدةٍ يسيرة، بينا أنا ذات ليلة أصلِّى، ثقلتُ فوضعتُ رأسى فى مُصلاَّى جنب فراشى، إذ رأيت صحراء عظيمة، لا أدرى فى أى مكان هى، فأرى مجلساً عظيماً، وصدراً مهيئاً لذلك المجلس، فكأنه يقال لى: إنه يذهب بك إلى ربك! فادخلْ تلك الحجب، فلا أرى شخصاً ولا صورة. إلا أنه وقع فى قلبى أنى لما دخلت، وقع علىَّ الفزع فى ذلك الحجاب. فأيقنتُ فى منامى بالوقوف بين يديه (تعالى) فما لبثتُ أن رأيتُ نفسى خارجاً من الحجب، وبالقرب من باب الحجاب واقفاً، وأنا أقول: «عفا عنى!» وأجد نَفَسى قد سَكَنَ من الفزع.

فدام لى شأن رياضة النفس، من تجنب الشهوات، وقعود فى البيت على عزلة من الخلق، وطول نجوى من الدعاء. فانفتح له شىء بعد شىء، ووجدت فى قلبى قوة وانتباهاً. وطلبت من يعيننى، فكان يكون لنا اجتماع بالليالى، نتناظر ونتذاكر وندعو ونتضرع بالأسحار.

فأصابتنى غموم من طريق البهتان والسعايات (الدسائس) وحُمل ذلك على غير محمله. وكثرت القالة (الدعاوى) وهان ذلك كله علىّ. وسُلِّط علىَّ أشباهٌ ممن ينتحلون العلم، يؤذوننى ويرموننى بالهوى والبدعة ويبهتون. وأنا فى طريقى، ليلاً ونهاراً، دؤوباً دؤوباً.

حتى اشتد البلاء، وصار الأمر إلى أن سعى بى (أبلغ عنى) وإلى بلخ (بلدة بأفغانستان) وورد البلاء من عنده. إذ رُفع إليه أن هنا مَنْ يتكلم فى الحب، ويفسد الناس، ويبتدع، ويدَّعى النبوة! وتقوَّلوا علىَّ ما لم يخطر قطُّ ببالى، حتى سرتُ إلى «بلخ» وكُتب علىَّ قباله (فى مجلس الأمير) ألاَّ أتكلم فى الحب!

وكان ذلك من الله، تبارك اسمه، سبباً فى تطهيرى. فإن الغموم تطهر القلب. وذكرتُ قول داود، عليه السلام أنه قال: يا رب أمرتنى أن أُطَهِّر بدنى بالصوم والصلاة، فبمَ أُطَهِّر قلبى؟ قال: بالغموم والهموم يا داود!

فتواترت علىَّ الغموم، حتى وجدتُ سبيلاً إلى تذليل نفسى. وهاجت بالبلاد فتنةٌ وانتقاضُ أمرٍ، حتى هرب جميع من كانوا يؤذوننى، ويشنِّعون علىَّ فى البلاد. وابتلوا بالفتنة، ووقعوا فى الغربة، وخلت البلاد منهم. فبينما أنا كذلك، إذ قالت لى أهلى (زوجتى) إنى رأيت فى المنام كأن قائماً فى الهواء، خارجاً من الدار، فى السكة، فى صورة رجل شاب، جعد، عليه ثيابٌ بياض، له نعلان. وينادينى فى الهواء: أين زوجك؟ قلت: خرج. قال: قولى له إن الأمير يأمرك أن تعدل.

فلم يأت (يمرُّ) على هذا مدة، حتى اجتمع الناس ببابى، من مشايخ البلد، من غير أن أشعر بهم، وقرعوا الباب فخرجت إليهم. فكلمونى فى القعود لهم (التدريس) فما زالوا يكلموننى فى ذلك حتى أجبتهم إلى القعود. فذكرتُ لهم من الكلام شيئاً، كأنه يُغترف من البحر. فأُخذت منى القلوب مأخذاً. واجتمع الناس، فلم تحتمل دارى ذلك، وامتلأت السكة والمسجد.

وذهبت الأكاذيب والأقاويل الباطلة، ووقع الناس فى التوبة، وظهرت التلامذة. وأقبلت الرياسة والفتن، بلوى من الله لعبده.

ورجع أولئك الأشكال (الحاسدون) إلى البلاد، بعد ما قويتُ وكثرتْ التلامذةُ عندى وأخذتْ القلوبَ مواعظى. وتبين لهم أن هذا كان منهم بغياً وحسداً، فلم ينفذ لهم بعد ذلك قولٌ، وقبل ذلك، كانوا صيروا السلطان والبلاد علىَّ، بحالٍ (بحيث) لا أجترئ أن أطلع رأسى، فأبى الله إلا أن يبطل كيدهم.

وتتابعت علىَّ الرؤى من أهلى (زوجتى) كل ذلك بقرب الصبح. ترى الرؤيا بعد الرؤيا، كأنها رسالة. ولم يكن يُحتاج إلى عبارتها (تفسيرها) لبيانها ووضوح تأويلها. وكان فيما رأت، أن قالت:

رأيتُ حوضاً كبيراً فى موضعٍ لا أعرفه. وما الحوض صافياً كما العين. فيظهر على ذلك الحوض فى الماء عناقيد عنب، بيض كلها. وأنا وأختى قعودٌ على رأس ذلك الحوض، نأخذ من ذلك العنب فنأكله، وأقدامنا متدلية فى الحوض، موضوعة على ظهر الماء، لا ترسبُ ولا تغيب.

فأقولُ لأختى الصغرى: نحن نأكل من هذا العنب كما ترين، فمن يرسل هذا إلينا؟ فإذا برجل مقبل، جَعْد، قد تَعَمَّم بعمامة بيضاء، وقد أرخى شعره من خلف العمامة، وعليه ثياب بياض. فيقول لى (لزوجة الحكيم) بمعزل منهما: قولى لمحمد بن علىّ، أن لا يقرأ «ونضع الموازين القسط ليوم القيامة» حتى يُتم الآية.

لا يوزن بهذا الميزان دقيقٌ ولا خبز، وإنما يوزن بهذا كلام هذا، ويشير إلى لسانه. ويوزن بهذا هذا وهذا، ويشير إلى يديه وقدميه. أنت لا تعلمين أن لفضول الكلام سُكراً، كسكر الخمر إذا شرب! فأقول له: أحب أن تقول لى من أنتم؟

فيقول: أنا من الملائكة، ونحن نسيح فى الأرض، وننـزل بيت المقدس. ورأيت بيده اليمنى آساً أخضر رطباً، وبيده الأخرى رياحين. فهو يكلمنى وذاك بيده. فيقول: نحن نسيح فى الأرض، فنذهب إلى العُبَّاد. فنضع هذه الرياحين على قلوب العُبَّاد حتى يقوموا بهذا إلى عبادة الله، وبهذا الآس على قلوب الصدّيقين والموقنين، حتى يعلموا الصدق بهذا. فقولى لمحمد بن علىّ: ألا ترضى أن يكون لك هذان؟

يشير إلى الآس وإلى الرياحين. ثم قال: إن الله قادر على أن يرفع للمتقين تقواهم، إلى موضع لا يحتاجون فيه إلى أن يتقوا. ولكن جعل هذا عليهم، حتى يعلموا التقوى. قولى له: طَهِّر بيتك. فأقول: إن لى أولاداً صغاراً، ولا أضبط تطهير بيتى. فيقول لى: ليس من البول أعنى، إنما أعنى من هذا. ويشير إلى لسانه.

فأقول له: فَلِمَ لا تقول له أنت بنفسك؟ قال: أنا لا أقول له هذا، لأنه ليس بكبير من الأمور، وليس بقليل، هذا من الناس قليلٌ ومنه كبير.

ثم رأت مرة أخرى، كأنها فى البيت الكبير الذى فى دارنا. وفيه سُرر مُنجَّدةٌ بالإبريسم (الحرير) وأحد السرر (الأسرَّة) إلى جانب المسجد الذى فى البيت. فإذا شجرة تطلع بجنب السرير، فى قبلة المسجد. فطلعت قامة رجل، فإذا هى كخشبة يابسة، وعليها أغصانٌ كأغصان النخل، كالأوتاد امتدت هذه الشجرة طولاً فى السماء، قدر ثلاث قامات.

وتبعتها الأغصان حتى بدت وسطها، فبدت من هذه الأغصان عناقيد رطب. فأقول فى منامى: هذه الشجرة لى، وليس لأحدٍ مثل هذه الشجرة. فأدنو منها، فيجيئنى كلام من أصلها، ولا أرى أحداً. فأنظر إلى أصل الشجرة، فإذا هو قد نبت فى الصخرة.

وهى صخرةٌ كبيرة، قد أخذت قدر نصف البيت. وإذا الشجرةُ قد نبتتْ من وسط الصخرة، وإلى جانبها صخرةٌ كبيرةٌ منفردةٌ كحوضٍ، وإذا عين تنبع من أصل هذه الشجرة وتُستنقع فى الصخرة المنقورة، وذلك الماء صافٍ يشبه ماء القِضبان فى صفائه. فأسمع قائلاً من قرب الشجرة، يقول لى: أتضمنين أن تحفظى هذه الشجرة فتصير خضراء كلها؟ فأقول: أحفظها.

ثم رأتْ مرةً أخرى، كأنها نائمةٌ معى على السطح. قالت: فأسمع حديثاً من البستان، وأقول: هؤلاء أضيافنا تركناهم (لابد أن) أذهب، فأطعمهم. قالت: فأصير إلى جانب السطح لأنزل، فينحط جانب السطح فيلزق بالأرض، فاستوى على الأرض. فإذا رجلان قاعدان فى هيبة، فأدنو فأعتذر إليهما، فيبتسمان.

فيقول أحدهما: قولى لصاحبك (الحكيم الترمذى) ما اشتغالك بهذا (الحشائش) عليكَ بتقوية الضعفاء وأن تكون ظهراً لهم! وقولى له: أنت وتدٌ من أوتاد الأرض، تمسك طائفةً من الأرض. فأقول: من أنت؟ فيقول: محمد.. وقولى له إنك (إذ) تقول، يا ملك يا قدوس ارحمنا، فتقدَّس أنت، فإن كل أرضٍ تقدِّس عليها، تشتد وتقوى. وكل أرض لا تقدِّس عليها، تضعف وتهون. وقولى له: أعطيناك معمورة (والبيت المعمور) فأحسن إليهما. وانتبهتْ.

***

.. ويمتد بنا هذا النصُّ الأدبى النادر الذى لا يزال طويلاً متصلاً، فيفصح عن المزيد من سيرة حياة الحكيم الترمذى، الظاهرة والباطنة (البرَّانيَّة، والجوَّانيَّة) وفى بقية أصله المنشور، المنسى، رؤىً كثيرةٌ وبدائع .. فمن أراد المزيد، فليقرأه كاملاً.
 
أعلى