علاء الجابري - في النثر وما إليه

«الحدود التي تفصل الشعر عن النثر قلقة ومراوغة، إنها أقل استقراراً من الحدود الإدارية للصين»
ياكبسون



في البدء كان النثر. يسعد البعض لهذا القول بينما يغصُّ الكثيرون منه، ولكن وجهات النظر تتلاقح وتتفاتح كما يقول أبو حيان التوحيدي: «إن خير الكلام ما قامت صورته بين نظم، يطمع مشهوده بالسمع، ويمتنع مقصوده بالطبع».

لقد صرنا إذا سمعنا كلمة «نثر» نتحسَّس مسدَّساتنا، أو نستعد لشد صندوق الطرد المركزي ليُبعد النثر عن ساحتنا إذا سمعنا الكلمة النجسة، وليست الصدور متسعة لتقبُّله وذلك في غمرة ما ندَّعيه من تعدُّدية ثقافية، بينما ينطبق علينا - في الحقيقة - ما اشتكى منه وليم جيمس: «تخمة الواحدية»، بما ينبئ ذلك عن دوغماتية وجمود؛ تلك التي يُهدِّدها «أدنى شك في التعدُّدية، وأقل تذبذب نحو الاستقلال».

لستُ من نشطاء النثر، بل إن سطوري فيه قليلة. لا أعتذر له؛ فأنا واحد من سلالة كانت ترى الشعر كلَّ شيء. ليس الأمر إيماناً بقَدَر الشعر قدر ما هو في حقيقته تورُّط في مجاراة العادي والممنوح. ولا ريب في أن للنثر أفضالاً على الشعر. وقد يُفاجأ البعض بهذا القول الذي نراه بديهياً؛ ذلك أن النثر أصل الكلام والنظم فرعه، كما يقول أبو عابد الكرخي، والأصل أشرف من الفرع، وبالنثر كُتبت الكتب السماوية، والوحدة فيه أظهر، وهو طبيعي في البدأة؛ لأن الناس يتكلمون به ابتداء، وهو غير محتاج إلى الضرورات كالشعر. ونؤكد أننا لا نقصد النثر الفني؛ فذلك موضوع آخر - ربما نعرض فيه للعلاقة بين الشعر والأمثال على سبيل المثال - ولكن النثر العادي.

هل يرجع الأمر إلى عهد نصح فيه ابن طباطبا شعراء عصره بأن الشعر رسالة منظومة بينما الرسائل شعر منثور، وكذا إلحاحه على أن للشعر فصولاً كفصول الرسائل، أو حديثه عن المعاني الجارية في عادات الناس والمعروفة لديهم يهتدي إليها البحتري مثلما يهتدي أبو تمام، ويضرب مثلا بقول الناس: «والعير إذا رأى السبع أقبل إليه من شدَّة خوفه منه»، فقال أبو تمام: «قد يُقدم العير من ذعر على الأسد»، وقال البحتري:
«فجاء مجيء العير قادته حيرة
إلى أهرت الشدقَين تدمى أظافره».


وذهب بعضهم - بحق - إلى تورُّط العقاد في شيء من ذلك في قوله:
«والشعر من نفس الرحمن مقتبسٌ
والشاعر الحق بين الناس رحمانُ»


والذي يكاد يكون ترجمة شعرية لعبارة شكري: «كل شيء في الوجود قصيدة من قصائد الله والشاعر أبلغ قصائده».

ولعل مقولة ابن طباطبا لا تبتعد عما قاله الجاحظ: «ودقيق المعاني موجود في كل أمة وكل لغة، وليس الشعر عند أهل العلم به إلا حسن التأتي وقرب المأخذ واختيار الكلام ووضع الألفاظ في مواضعها وأن يورد المعنى باللفظ المعتاد».

الجاحظ ذاته يقول كلمة نابهة ربما تحتاج فهماً جديداً وذائقة متعاطفة؛ إذ يقول في كتابه «الحيوان»: «أما الشعر فحديث الميلاد، صغير السن أول من نهج سبيله وسهَّل الطريق إليه امرؤ القيس بن حجر ومهلهل بن ربيعة وكتب أرسطوطاليس، ومعلمه أفلاطون، ثم بطليموس وديمقراطيس، وفلان، وفلان قبل بدء الشعر بالدهور قبل الدهور والأحقاب قبل الأحقاب».

على النهج ذاته يكتب ابن سلام في طبقاته: «ولم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا الأبيات يقولها الرجل في حادثة، وإنما قُصِّدت القصائد، وطُوِّل الشعر على عهد عبد المطلب وهاشم بن عبد مناف، وذلك يدل على إسقاط (شعر) عاد وثمود وحمير وتُبَع».

إننا نجد ابتهاجاً مفرطاً لمكانة الشاعر في القديم برغم أنه قد قيل الشيء نفسه عن الخطيب، فقد كانت القبيلة تحتفل به أيضاً حتى تضاربت الأقوال حول الأجدر بالتفضيل في نطاق القبيلة: أهو الشاعر أم الخطيب؟ ولكن الأيام التالية رسّخت لهزيمة داخلية للنثر أمام الشعر، بينما يفترض أن يكون ثمة استعلاء شعوري على أسبقية الشعر تاريخاً ومكاناً، حتى يقول أحد الشعراء الكبار: «ما من شاعر يستطيع أن يكتب قصيدة تأخذ مداها ما لم يكن أستاذاً في النثر» (القول لإليوت والعهدة على أحمد عبد المعطي حجازي في كتابه «قصيدة النثر أو القصيدة الخرساء»).

دع عنك أولئك الذين يقولون إن النثر من العقل والنظم من الحسّ، وكأن الشعر لا عقل له، وكأن النثر يحوي العقل البادي. إنهم - بالتأكيد - لم يسمعوا خطب هذه الأيام!

تبدو مقارنة أي منتج في ظلال الشعر واحدة من أبرز آليات النقد العربي، ومن تجرأ منهم وبادلَ في الأدوار لا يلبث أن يتراجع عن موقفه، وحتى مجالات الوعي العربي في التعامل مع الظواهر الأدبية الجديدة - في ما يتصل بعملية التجنيس - تبدو مجرّد محاولات لتمديد البنية النوعية التي يسعى إلى تطبيقها لتشمل تحت مظلتها الأنواع الأدبية التي تحاول طرح جماليات مغايرة، فنجد النقاد و«المنظرين» الذين يبدو أنهم منحازون إلى قصيدة النثر، يُصرُّون على محاولات إيجاد عناصر شعرية فيها كما تطرحها البنية الضمنية للشعر، والحق أن مشروعيتها داخلية، تماماً كإيقاعها، وإلا لظلَّت تستجدي الاعتراف بعد زمن طويل كما فعل أصحاب الشعر الحر، أو البديل المطابق لها على الأقل. ناهيك عما يقترفه بعضهم من تصنيف الكتَّاب في «طبقات»، وهو ما ينعاه ريفاتير من اهتمام مؤرخي الأدب اهتماماً كبيراً بمحاولة التثبُّت من نوعية المؤلفين الذين يُحاكيهم كاتب معيّن، وأيّ المؤثرات تلعب دوراً في تكوين نصّه، وإلى أي جنس أدبي ينتمي النص؟... وهم يعتمدون أيضاً على الشاهد الخارجي ولكنهم يعثرون على برهانهم النهائي للنسب بين عمل وآخر في التماثلات المعجمية بين نصَّين أو بين نصوص عديدة، أو في التنظيم المتطابق لمكوّناتها الخاصة. وكبرهان على الصلات النوعية يُركِّزون على أشكال البروز المتكرّرة في النص لملامح تُعدُّ بين الخصائص المميّزة للنوع.

لا أطمع أيها القارئ في أن يميل عقلك إلى التعاطف المبدئي مع النثر، أو التراجع المبدئي عن التزام اعتدناه بازدراء «تابعيه». أطمع فقط في أن ينفتح عقلنا على إتاحة ما نطلبه من «تعدُّدية» بينما نحجر على ما يصدمنا.

وأخيراً، لا أنكر بعض «الخبث» النقدي في نشر سطوري هذه بمجلة شعرية، فأكون كاللاعب الجديد الذي يُجري عملية الإحماء بجوار نجم الفريق؛ ليتسنَّى له الاستفادة من جماهيريته.


«الغاوون»، العدد 43، 10 تشرين الأول 2011
  • Like
التفاعلات: Maged Elgrah

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى