أمير ناظم - النَّصُ الأدبي صراع ذاتيٌّ..

عندما يسألُ أديبٌ عن الكتابة والفن الذي تتسرب من خلاله النصوص، فإنه _ غالبًا _ لن يجد جوابًا منفصلًا عن (الحديث عن الذات/ النفس) ، لأن كلَّ ما يُكتبُه ما هو إلا عصارة خبراته في الحياة.
وبحكم تفاعله مع بيئته (الاجتماعية و الاقتصادية) تتكوّن لديه انطباعات عن العالم وتساؤلات عن الوجود، فيجمع أفكار نصوصه من بيئته ويستلّ شخصياته من محيطه الذي تعرف عليه، وكما يقول القاص المصري سعيد الكفراوي في حديثه عن تجربته في أمسية احتفائية "إن كل أديب عظيم له جماعته الذين يكتب عنهم، فانطونيو تشوخوف كانت له جماعته من المرضى وخدَمة البيوت والممرضات، وهيمنغواي كانت له جماعته من صيادي الأسماك والجنود، وبلزاك وكانت له جماعته من العاهرات وفتيات الليل، فأنت تنتج ماعشته، وتكتب ما تعرفه، وخبرتك بالحياة تكوّن رؤيتك للعالم" ثم ذكر الكفراوي جماعته الذين كتب عنهم، وهم من ( فلاحي القرى و "غلابا" المدينة)، فهو خرج للعالم من تلك القرية الصغيرة، قرية كفر حجازي بالمحلة الكبرى التي ولد فيها سنة 1942م، معترفًا بأن النصوص تخرج من الواقع الذي يعيشه الكاتب ومن حياته الحقيقية.
ويذكر مكسيم غوركي في كتابه ( كيف تعلمتُ الكتابة ) بعد أن قسم الأدب على نوعين : واقعي، و رومانتيكي ؛ أنه عندما حاول الإجابة عن السؤال المتكرر الذي يصله من الشباب عن كيفية الكتابة، لم يجد غير أن يتحدث عن ذاته وقراءاته وتجارب حياته الواقعية، فيقول محاورًا نفسه (لماذا صرت أكتب ؟ أجيب : من جراء الضغط العنيف عليّ من "الحياة الفقيرة الصعبة"، ولأنه، تكونت لدي انطباعات كثيرة. حيث "لم أستطع إلا أن أكتب"، والسبب الأول، جعلني أحاول أن أحمل إلى الحياة "الفقيرة" أفكارًا و "تخيلات" مثل "حكاية عن الصقر والافعى" و "اسطورة القلب المشتعل" و "طائر النورس" . وبدافع السبب الثاني، صرت أكتب قصصًا ذات طابع "واقعي" - "ست وعشرون وواحدة " ، "زوجات أرلوف" ، "الشقي" ) فيستحيل أن يخرج أو ينسلخ الكاتب من حياته، فغوركي الرائع انبنت شخصيته وسط فقر مدقع وحرمان عجيب، فهو يتيم و يعيش في بيت جده حتى بلغ سن رشده، قفذفه جده للعمل في الاسواق الشعبية، لذا لو لاحظت كتاباته ستجدها مناصرة الفقراء ومزينةً لواقعهم المزري ومحاربةً للظلم الجائر.
وبسبب تداعيات السرد الحديث الذي عاب على الكتاب واقعيتهم، وجعل _الواقعيين _ في المرتبة الدنيا من المستويات الفنية، ساد تخوف لدى الأدباء في كتابة الواقع، فنلاحظ أن الروايات والقصص بدأت تأخذ تجاه ( الفنتازيا، الخرافة، الأسطورة، الرومانسية الحالمة، الوجودية، الأفكار) ومن هذا التحول نستشف أن السرد قد تواشج مع ال" الجمهور" الذي يجبُ أن تؤثر فيه رسالة الأديب، فالسرد يتماشى مع العصر و ينبثق من المجتمع و الفكر الذي يجايله أو يحاينه، فإن الواقعية لم تعد تفرض سلطتها - مثلا - التي رسمها نجيب محفوظ في الحاضنة الأدبية والثقافية،. خصوصًا في ظل البعثرة و السرعة و التشظي الفكري والاجتماعي والاقتصادي الذي يعيشه العرب ، والعراق خصوصًا في الوقت الحالي.
فالحديث عن همِّ الكتابة هو الحديث عن الهم الذاتي الإنساني نفسه، ولا أدري كيف وافق كثير من النقاد بنظرية "موت المؤلف" ،وإلا فهل بدر شاكر السياب حين كتب "غريب على الخليج" في الكويت هو نفسه حينما كتب "أسمعه يبكي" وهو على سرير المرض ؟!
يقول الكاتب الأرجنتيني إنريكي أندرسون في كتابه ( القصة القصيرة، النظرية والتقنية) إن "المبدع في ميدان الأدب لا يأخذ من مخزون خبرته عنصرًا عامًا معروفًا، بل ينتقي عناصر خاصة وحميمة، وهي عناصر عديدة، وبذلك يكون لزامًا عليه أن يختار منها ما يريد بعناية فائقة ثم يقوم بتركيبها في سياق لغوي شديد الارتباط بتموجات النفس . ويلبس هذا السياق النحوي حللا أسلوبية متخيلة عبارة عن مجموعة من الاستعارات والتشبيهات ، كل ذلك في نسق يعمل على نقل الخبرة كاملة" فانريكي ينوّه - بديهيًا- إلى انبعاث النص من النفس، العناصر الحميمية التي تشكل خبرةً منقولة خلال اللغة، وهذا دليل آخر على أن تجربة الأديب تنمو وتنضج مع تفاعله بالحياة، تتقد مع همومه و مشاكله، تتوهج في رؤيته للعلاقات و المجتمع من منظوره الشخصي، منظوره و أسلوبه الذي تكوّن بتأثير من حياته الشخصية، الفقر والغنى، الجنس والحرمان، المرض والصحة، الوعي والجهل، التعب والراحة، الحب والكراهية ... من هذه الثنائيات تصرخ نصوصه كما بين غوركي بجوابه عن أسئلة المريدين، فأكيدا تكون نصوص البدايات ذاتية و واقعية، واكيدا تبقى للنمط الواقعي تأثيراته و سماته الخاصة التي تجعل منه أدبا إنسانيا معبرا عن تعاسة الحياة و سعادتها.
نقل لي أحدهم أنه عرض نفسه كمبتدئ بالكتابة على مبدع ضليع، فقال له الأخير : كيف ستصبح كاتبًا وأنت لا تدخن ولا تسكر ولا تبحث عن عاهرات؟! وقد يفهم السطحيون أنه يدعو للانفساخ والانحطاط الأخلاقي، لا أبدا، فقصده عميق، إذ أن التدخين يدل على الزهد بالجسد و العبثية بالصحة، والسكر يدل على عدم الالتزام بالأعراف والقيود، والميول للعاهرات يعني أن يمتلك تجارب عاطفية حقيقية، تجارب واقعية شعر بآلامها، لا قصص من التلفاز و حكايات من الورق فقط، أي خروج الكاتب من المحددات و القيود و الخطوط الحمراء، وتفاعله بشكل مباشر مع حركة الحياة، وهذه تخلق لديه خبرة إنسانية ثرية ليغترف منها بحسب إنريكي عناصر حميمة ليوظفها - مع وعيه - بالفن والإبداع لتخرج نصوصًا مهمة و رائعة.
ختامًا، أرى أن كثيرا من المثقفين والأدباء يعيبون الكتابات الذاتية والواقعية، وأقصد الكتابات الجميلة منها وليست المنظومةَ بشكل مباشر، فالكتابة بحسب ما تقدم تحبو في الذات، ثم تخرج للمحيط، ثم تتسع رقعتها الجغرافية من خلال تربيتها بالقراءة والاطلاع والتفاعل مع الناس حتى يصل الكاتب إلى الاحترافية، فمنهم من يموت في بداية الطريق، ومنهم من يكمل طريقه ليصبح اسمًا لامعًا. فمونتاني يقول في مفتتح "محاولاته" : أنا نفسي مادة كتابي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى