مؤيد عليوي - أسئلة قصص أمير ناظم.. في مجموعته " ملاحم الذاكرة"

تنبلج قصص أمير ناظم بجمالية لغتها القصصية مثل الوان زاهية في لوحة زيتية رسمها فنانها بعشق ومهارة، فكانت القصص تحتوي على اسئلة خلف لغتها منها المخفية بين ثنايا الكلمات وخلف السطور، ومنها المعلنة على لسان مخلوقاته القصصية، في تباين بين الفلسفة الوجودية والمادية وبين قيم الدين وتقاليد المجتمع، فتظهر هذه أو تلك خلف قناع الاسطورة، أو الواقعية أو الرمزية أو..، وجميعها يخلف اسئلة تحتاج الى إجابة، جميعها يدور حول الذات الانسانية والمجتمع.

إذ تنبلج قصص "ملاحم الذاكرة" بقصة " ثورة على النهر" في تناولها الذات الانسانية الصامتة التي تكتم افكارها حيث جسدتها شخصية "حليم" بما يشي قناع الاسم بالحلم والروية ومنها قلّة الكلام، تلك المتناقضة القصصية بين كثرة كلام الناس حول صمت "حليم" المثقف الذي ثارَ على صمته والنهر الذي يصطاد منه السمك، بغنائه ابياتا شعرية فصحى لتكون دلالة على ثقافته وعمق تفكيره في نهاية القصة فتجعل القارئ يعيد قراءتها من الجديد، ليرى أن صمت شخصية "حليم" المثقف يدل على التفكير والتفكر كما يقول نيتشه، لتبين القصة أن تقاليد المجتمع الشرقي الكثير الكلام في قلّة من صمت والتفكير وعمل على الضد من المجتمع الغربي الذي أنشأ الفلسفة ومنها فلسفة نيتشه عن الصمت، فيحكم ذاك المجتمع القصصي على شخصية "حليم " بالجنون، لتكشف اشكالية وجود الانسان في محيط ترك حتى موروثه في الصمت فأتجه كل فرد فيه بأنانية يرجم شخصية "حليم" بالجنون بسب صمته وعند غنائه، أما في موروثهم فقد قالوا في الصمت: (مَن يتكلم اربعين كلمة يصاب بالجنون) وقالوا في الموروث ايضا ( الصمت عبادة )، هذا الموروث الذي يتفق من جهة ما بقول نيتشه ..

أما الفن فقد كانت وظيفة اللغة تعبر عن جمالية التعبير في اسلوب الراوي العليم : (لا يتكلم كثيرا عند ضفة النهر أو البحيرة، يظن أن الاحاديث – بعد رمي الطعم- تجلب الديدان النتنة وتتسبب بكثرة الافاعي، بل يرى أن الحياة كلها كلمات مخبأة في جوف المحار، كاللآلئ، يجب احترامها وتقديسها وعدم انفاقها بغباء) لتكشف هذه السطور عمق تفكير شخصية "حليم " عبر لغة المتن التي تترك بصمتها، وفي الآن ذاته تتحقق اللغة وظيفتها جماليتها بأسلوب صوت المتكلم حين يدخل "حليم" حوارا مع نفسه أو المنولوج الداخلي: ( زوجتي تمقتني بسبب حبي للهواء، تغار من النسيم وتصرخ حين تجدني أتأمل ضوء النافذة من بابنا الخشبي . تقول اني مجنون وحين اتصالح معها تطلق لسانها على سجيته ..)، ففي هذه الاجواء شبه الاسطورية التي يعيشها "حليم " كأنها محنة الالة البابلي الذي يعيش في برجه العالي ويريد أن يكون مثل البشر في لذتهم بالحياة؟، والتي تشكل في مضمونها اسئلة كثيرة حول تقاليد واحكام المجتمع المسبقة إذ كل فرد يصدر حكمه نتيجة تجربته الشخصية التي لا تتماهى مع حقيقة "حليم" البيضاء والنقية، فيكون مجنون بنظرهم اذا كان صامتا ،ومجنون اذا تكلم، ومجنون اذا غنى ابياتا من الشعر عند النهر..، انها اشكالية الحرية الشخصية والاختيار التي ملئت الفضاء المكاني والزماني للمتن القصصي، وفي هذه المنطقة اقصد الحرية الشخصية والاختيار والصراع مع التقاليد كانت قصة "وحان الوقت " من مجموعة "ملاحم الذاكرة ".

قصة "الاسئلة المتكررة" التي يأخذنا فيها الفضاء المكاني "المقهى" وجلسة الاصدقاء فيها، الى الاسئلة الوجودية المباشرة المنبثقة من الذات الانسانية في صراع الشباب مع واقعهم اليومي:( لا تخبئوا حقدكم وغضبكم ومقتكم للواقع، أنا اقول الحقيقية ، نحن لا نعرف هويتنا ولا ذواتنا ، لم نجب ولو مرة واحدة عن السؤال الملحّ في نفوسنا كلنا، السؤال الذي لا مناص من انبثاقه بتجدد وعفوية ( مَن أنا؟ ) اشربوا أراجيكلم وانفخوا الدخان في وجهي أو في وجوه بعضكم لنختنق بأمان ..) ليكشف النص القصصي عمق اشكالية الواقع الشبابي كنتيجة للبطالة والضغوط الاقتصادية التي يواجهونها في ظل نظام العولمة الاقتصادية الذي يحاول مسح الثقافات والهويات الوطنية، أذ يقول كارل ماركس : ( أن الإنسان في جوهره جملة علاقاته الاجتماعية) ، تلك العلاقات الاقتصادية التي يكشفها المتن السردي للمخلوقات القصصية بلغة أدت وظيفتها الجمالية في الفضاء المكاني وهو شغل حيز السرد اكثر من الفضاء الزماني الذي كان مخبأ في نفوس جلاس المقهى بين اسلوب الراوي العليم وصوت المتكلم من مثل هذا الاقتباس : ( سأسكت يا أصدقائي الآن سأفسح لكم المجال كي تسعلوا بوحكم نيكوتين تبغ رديء ..أو اضحكوا ... اضحكوا على ذقونكم بروايات ونكات غبية مثل حياتكم أهملوا السؤال المهم أين سنذهب؟ وماذا يجب ان نفعل ؟) ها هنا السخرية لاذعة في الاهمال(أهملوا..) للشخصية المتحدثة والتي لا تملك اسما في النص القصصي، لتدل على شيوع هذه الشخصية في الواقع مع شيوع جلاسها -أصدقائه- في المقهى، ولتشكل فنينا نقدا لظاهرة واقعية في حياة الشباب، ومثلها قصة " افيون الحياة " التي تتناول الفضاء المكاني المقهى، وتنداح تلك السخرية الى عناوين بعض القصص من مثل قصة "الخسارات مفيدة احيانا " التي تناولت عسف بعض استاذة الجامعة للطالبات اللواتي يخفقن ويطلبن المساعدة من أجل النجاح..،

أما اجواء الاسطورة فكانت في قصة "اقترب منها" إذ كان بناؤها السردي منتشيا بالأسطورة والخيال في صراع بين الفضيلة التي جسدها الملاك السماوي بأجنحته وبين الرذيلة التي جسدتها شيطانه اتخذت شكل عجوز، نصبت فخا له بأنها عادت شبابا امام عينيه..، موظفا في القاص أمير ناظم اسطورة عودة شباب زليخة مع يوسف كما في تواره التلمودية، وفي بعض تفاسير المسلمين للكتاب المنزل، لتغري تلك الشيطانة الملاك فتركب ظهره ويطير بها على الأعالي الى حيث تريد هي، حتى يحترق جناحيه فتنتصر هي، في رمزية لصراع الخير والشر، وفي اجواء تتماهى من أجواء اسطورة ايضا كانت قصة " قليلا تحت سطح الارض" .
أما قصص الواقع فقد غزت المجموعة بلغة أدت وظيفتها الجمالية ذاتها كما تقدم في تنوع بين اسلوب الراوي العليم وصوت المتكلم، إلا أن الامتياز فيها ها هنا انها تناولت اغلب الإشكاليات العاطفية وعلاقات الحب للشبيبة بين البنات والبنين، داخل أروقة الجامعة وخارجها وبعد تخرج، أو لشبيبة لم يدخلوا الجامعة، والمشاكل التي يتعرضون لها في علاقات متنوعة منها ما ينتهي بحياة سعيدة ومنها ما ينتهي بانهيار تلك العاطفة قبل الزواج أو بعده تارة يكون الفارق الطبقي للعاشقينِ، وتارة اختلاف الثقافات، وتارة ثالثة تنتهي العلاقة بالانتحار كما في قصة " وصية عاشق رسالة لمجهول"، لتكون تلك القصص اسئلة تبحث عن أجوبة، أما القصص الواقعية التي تناولت شجون الوطن والشعب فكانت قصة "مالم تلتقطه الكاميرا" ، وقصة " في الحجر" ، وقصة "هناك دائما طريقة اخرى"

1609146683519.png

1609146702325.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى