د. عماد صباح الحيدري - رؤية نقدية في ديوان "حجر الليل" للشاعر علي نوير

تسعى قصيدة علي نوير إلى أن تمارس أفعال الحياة اليومية عبر اكتناز المفردات الشعرية شائعة التداول ولكن بأسلوب جديد يبعث فيها روح الحياة وبصياغات بسيطة يجعلها قادرة على الصمود في معالجة الأفكار الجديدة التي تصب جميعها في قالب الواقع المعيش.
هذه المفردات وتلك الصياغات تحتفي بذائقة المتلقي بأناقة ملحوظة تكتسي حلة المأخذ القريب وليس المأخذ الذي ينهك متلقيه بصدماته الفلسفية المتتالية التي لن تؤدي إلا إلى مزيد من الإبهام.
يشعر القارئ وهو يقلب صفحات ديوان "حجر الليل" بحميمية المفردة لقربها من ذائقته فالشاعر ابن بيئته وليس ابن البروج العاجية يتفاعل مع مفردات اللغة اليومية ويستدعي أقربها إلى الذائقة المعاصرة:
جلسا متقابلين/ هي بعطرها الجريء/ وهو بخجله المربك ص11
إنها صورة من صور الحياة البسيطة وممارساتها المألوفة التي يحتفل بها نوير وهو يسهم في رسمها شعراً يحاكي به الجنس السردي بوساطة المفردة المتداولة التي تتغيى طرح أفكار ربما تكون غير مألوفة وهذا ما يميز قصيدته التي تومئ بالألفة وتضمر الجدة والغرابة عبر تحشيد الصور الشعرية المترابطة بذكاء شعري متقد:
كلما التفتنا إلى الخلف/ نرى مزيداً من المجاذيف الصغيرة الملونة وراءنا/ ترفرف على سطح الماء ص16
والحق أن حساسية الشاعر تجاه واقعه المعيش بكل تفصيلاته جعلت منه مشروعاً لاقتراحات صورية جديدة لهذا الواقع ومصنعاً للإشارات والايماءات المفيدة لاقتناص بدائل جديدة عن التعبيرات القديمة عبر شحنها بالطاقات الايجابية الباعثة على الحب والحياة فتراه مثلاً يصطفي أقرب المجانين ليشاركه الغناء:
سأصطفي أقرب مجنون منهم/ لأشاركه بهجة الغناء ص22
وتراه يحلم بعودة حروف الأبجدية إلى سابق بهائها بعد أن تتحرر من هذا الاغتصاب:
ستبتهج الأبجدية بعودة حروفها المغتصبة ص30
ويتأمل عودة الأرض إلى سابق شهوتها:
سترى الأرض كيف تأتي إليك شهيةً/ مثل تفاحةٍ ناضجة/ عندما يميلُ بها غصن طري ص32
وهو فوق هذا وذاك يطل علينا بتساؤلاته المشروعة التي يلتقطها من يومياته كمصورٍ بارع أتقن حرفته فأيقن بأهمية الآخر في المشاركة الحياتية فينادي شبيهه إلى مرافقته في الغناء والبكاء بعيداً عن الوحدة وإلا ما الجدوى من الغناء في الغرف الخالية من دون أن يؤثر في الآخر وما جدوى السحب التي تمر سريعاً من دون أن تتشارك مع الإنسان في دواعي الهطول شأنها شأن العيون التي تمارس البكاء بلا دموع, حتى ينتهي إلى الحقيقة المرة:
لا شيء سوى الفراغ/ يمتد أمامي بلا نهايات ص 24
على إن استعمال علي نوير لغة الحياة اليومية بمفرداتها المألوفة لا يعدم لجوءه إلى الرمز في أحايين كثيرة رغبة في استيعاب أفكار محددة غير جديرة بالتصريح أو ربما يفقدها التصريح قدرتها الإيحائية لتميز الرمز بقدرته الهائلة على تعميق المعاني وتحويلها إلى مصادر إدهاشية مثيرة خارجة عن السياقات السائدة, وهذا ما تلمسناه في نصه "رقعة شطرنج" الذي ينشد إلى طرق أبواب المسكوت عنه وشحذ المخيلة ودعوتها للحضور على مائدة الرمز, فثمة إحالات واضحة إلى مرارة الواقع السياسي ولكن بأسلوب باعث على الجدة في الصياغة الدالة حيث الحصان العاثر يشير إلى الشعب المغلوب على أمره, والقلعة المحاصرة تشير إلى الوطن المستغيث وهكذا حتى ختم النص بتهكم لا يخلو من الصدمة في إشارة دالة على موت الشعب وبقاء الملوك:
أن يبقى الملكان المتوجان حسب/ برأسين سالمين/ مكللين بالنصر/ على رقعة شطرنج خالية ص 43
وتسري براعة التوظيف للرمز على نصوص أخرى من الديوان ولا سيما: "عزيزي البيدق" الذي بدأه ـ على غير عادته في بقية نصوص الديوان ـ باستهلال صادم يشي بثقل الواقعة المهيمنة:
كش أيتها البلاد ص44
فالبدء بكلمة الزجر هذه التي تعني في لعبة الشطرنج الموت بعد المحاصرة لهو دليل على الوصول إلى أقصى درجات الخطر واستشعار وقوعه بقرينة قوله على لسان الملك الذي لا يهمه أمر البلاد بقدر ما يهمه أمره, فالترميز هنا عن موت البلاد والإشارة واضحة إلى أن الملك هو الذي أطلق عليها رصاصة الموت بعد أن مارس بحقها سيلاً من التهورات العبثية حتى أرداها:
رقعة شطرنج/ مترامية الأحزان ص44
فقد مارس الشاعر في هذا النص لعبة التقديم والتأخير أو ما يسمى بتبادل الأدوار بين المستهل الصادم والختام بغية توجيه النص نحو التوهج فوضع النتيجة مسبقاً لكي تتضح الصورة للمتلقي منذ المطلع فيكون قد تحصل على الإستجابة النفسية لما ستؤول إليه الأحداث والغايات المنشودة, كالذي فعله في نصه "من أجل نهار ملتبس وقصير" الذي قسمه على شكل ومضات قصيرة تبحث عن النهار وعن قصيدة تصلح له فأوصلنا إلى ما يمكن أن نسميه هروباً من الصحو المفترض:
خذ كأسك الفارغة/ أزح عنها آثار أصابعك المرتبكة/ املأها الآن/ لعل شفاهك تتعلق بما هو أجدى ص 49 ـ 50
هذا الإيحاء بجدوى السكر في عالم لم يشهد التوازن في كثير من تفصيلاته يكون بمثابة الدعوة إلى رفضٍ مبطن للواقع المرير حتى يصل الأمر إلى الاستنجاد بالرموز التاريخية ولا سيما شخصية الحسين "عليه السلام" التي اقترنت بالعطش فيقول:
ما زالت أرضنا تشكو العطش/ يا حسين ص 54
ويحط بنا قطار قراءتنا لـ "حجر الليل" عند محطة قصيدة "الغربان" بوصفها نصاً مكتنز الدلالات مشبع التأويلات وهذه هي سمة النص الحديث, فالغراب في ثقافتنا العربية والاسلامية تتجسد صورته عبر مروياتنا الشعرية وغيرها من الأدبيات مشيرة إلى الخراب والدمار فيعدونه رمزاً للتشاؤم والنحس فضلاً عن المفردات غير المحببة التي اشتقوها من اسمه كالغربة والاغتراب. وهنا يقدم الشاعر على توظيف مفردة الغربان وتكرارها في هذا النص للإيحاء بأننا نعيش في جميع الأمكنة بين الغربان فهم إما على هيأة بشر نختلط بهم وأما على هيأة حكام يحكموننا:
غربان البيانات رقم واحد ص 61
ومن الدلالات التي يمكن أن يحيلنا إليها النص ما نتداوله في موروثنا الشعبي من أن الغراب كان قد ضيّع المشيتين فهو حينما أراد أن يقلد مشية العصفور لم يستطع تقليدها فعاد إلى مشيته فنسيها, والإشارة هنا إلى الحكام الجدد الذين أرادوا تقليد الغرب فيما أتوا به من ديمقراطية وغيرها فلم يقدروا فضاعت عليهم المشيتان, أو ربما تكون دلالة نسيان الطيران هي الإحالة إلى مدة المكوث الطويلة للحكام وتحكمهم بمصائر الشعوب:
غرباننا هذه .. وتلك/ قد نسيت الطيران/ لفرط مكوثها بيننا ص 61
في كتابه "مداخل إلى علم الجمال الأدبي" ص71 يرى الدكتورعبد المنعم تليمة أن القصيدة بنية لغوية مركبة يكشف تفاعل عناصرها عن موقف الشاعر. ذلك لأن الشعر ذاكرة أمة تنطلق متجسدة من بوح الشاعر وموقفه من الأحداث التاريخية, ففي نصه "من نبوءات نوستراداموس" عقد الشاعر إشارات سيميائية بالغة الدقة والإيجاز تومئ منذ عتبة العنوان ومروراً بألوان العلم العراقي والرايات الوافدة وختاماً بالدموع التي فاض بها النهر تشير إلى واقعة تاريخية مهيمنة هي دخول "داعش" إلى العراق تحديداً لموقف الشاعر منها:
ستفيض الشوارع بالرايات/ والبيوت بالأدعية/ ودجلة بالدموع ص 62
إن الواقعة التاريخية التي عاش الشاعر أحداثها كانت قد شكّلت مادة خصبة لكثير من الشعراء الذين جايلوه لأنها استطاعت أن ترسم صفحة مهمة من صفحات الألم الإنساني, وهنا قد يحق لنا القول أن الشعر الذي يعالج واقعة تاريخية هو التاريخ الحقيقي من وجهة نظر الشعوب لو أتيح لها كتابته ولكن ليس على سبيل التوثيق والتدوين وإنما على سبيل المرارة الإنسانية التي يتذوقها الشعراء بحساسيتهم المفرطة شرط توفرهم على الأدوات الحقيقية والإيمان بالقضية تجديداً لذاكرة الأمة الحية. فليس من الإعتباط في شيء أن يتحفنا علي نوير بأربعة نصوص هي: "من نبوءات نوستراداموس" و"حصان طروادة" و"حكاية الزير داعش" و"عبد الله الصغير" في خمسة أيام بحسب التواريخ التي ذيّل بها هذه النصوص غير متجاوزة الزمن الذي وقع فيه الهجوم الداعشي على العراق لولا أنه كان يحس بثقل الواقعة وهيمنتها على كامل كيانه ويريد أن يؤرخها شعراً وإن كان هذا ليس من واجبه ولكنه حب الوطن والحزن على ضياعه:
ما أكثر طرواداتنا التي ضاعت/ والتي ستضيع/ يا عزيزي أخيل ص 64
هاهو يمارس غريزته الإنسانية معطلاً كل ما يمكن أن يُعد من الثانويات لأننا سنصل إلى هذه الهوة السحيقة إن لم نكن قد وصلناها بعد:
عندما نكون قاب قوسين أو أدنى من هوة العدم/ تتعطل الأسئلة/ وعلى الغريزة أن تعمل بجد ص 67
إن علي نوير مصور بارع مكتنز الشاعرية بالنظر إلى حميمية مفرداته وأناقة تصويراته التي لا تعدو عن أن تكون ذاكرة شعرية حية لأمةٍ تناهبها الطغاة فاحتفظت بكينونتها في ضمائر أبنائها الشعراء.

د. عماد صباح الحيدري

منشورة اليوم الأربعاء ١٩ / آب / ٢٠٢٠ في جريدة "كل الأخبار" العراقية


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى