شعبان يوسف - علاقة مركبة

كثيرون لديهم انطباع يصل إلى حَدّ اليقين أن العلاقة بين الكاتب عباس محمود العقّاد والأديب الناشئ سيِّد قطب، بدأت بالتجاذب، وهذا ليس صحيحاً تماماً. والمقال الأول الذي نشره سيِّد قطب في جريدة «البلاغ» الأسبوعية كان منتقداً للعقّاد، رغم العبارات العاطفية والتقديرية التي أحيطت بالمقال، وكان ذلك في 1928، وكانت جريدة البلاغ، التي كان يرأس تحريرها الصحافي عبد القادر حمزة، منحازة بشكل مفرط إلى حزب الوفد، وكان العقّاد في ذلك الوقت هو كاتب الوفد الأول، وكانت ميول قطب في بداية حياته وفدية، وله قصيدة في رثاء سعد زغلول تعبِّر عن ذلك جداً، وكان الخلاف بين العقّاد وقطب قد نشأ حول مقال كتبه العقّاد يتحدَّث فيه عن عاطفة الشيوخ، ورَدّ عليه قطب في العدد التالي، ولكن العقّاد رَدَّ على قطب في العدد الذي تلاه، وكان رفيقاً به، ولم يكن حاداً وقاسياً على عهد القرّاء به، وربما يكون ذلك الحنوّ عنصراً جاذباً لسيِّد قطب، الذي انجرف تماماً إلى أن يقتفي آثار العقّاد، ويجعل من نفسه تلميذه الأول والناطق بلسانه، والمدافع عنه كما لم يدافع عنه أحد، وكانت المعارك التي خاضها قطب بسبب العقّاد تجلب عليه الكثير من الهجوم العنيف، فمن المعروف أن سيِّد قطب يدافع بضراوة عن العقّاد، ويهاجم كل من يقترب من أستاذه، فكانت معركته مع جماعة أبوللو في الثلاثينيات أول شاهد على ذلك، وهاجمه الشاعر أحمد زكي أبوشادي بعد أن نشروا له شعراً ونقداً في المجلة، وكان قطب يخوض المعارك بدلاً من العقّاد، وربما كان ذلك يرضي أستاذه. وكانت المعركة الشهيرة التي دارت بين قطب والمحقق محمود محمد شاكر على صفحات الرسالة، والتي تطرَّق إليها كُتّاب آخرون، فعندما كان محمد سعيد العريان يكتب سلسلة مقالات عن مصطفى صادق الرافعي على صفحات الرسالة، والتي انتهت بكتاب ضخم عنه، انبرى قطب ليهاجم العريان بقوة، عندما تعرَّض لعلاقة الرافعي بالعقّاد، ورغم أن العقّاد نفسه لم يردّ، إلا أن سيِّد قطب هو الذي اندفع، وراح يكيل أشكالاً من الهجوم على سعيد العريان، وكذلك مصطفى صادق الرافعي نفسه، وهنا رَدّ عليه محمود شاكر على مدى خمسة أعداد موضِّحاً التجنّي الذي كشفت عنه مقالات قطب، وهذه المعركة- على وجه الخصوص- أظهرت الولاء الفكري والشخصي والإنساني الذي يكنّه سيِّد قطب لعباس العقّاد. والذين بحثوا في حياة سيِّد قطب توقَّفوا أمام «انقلابه» مذهولين، وفسَّروه تفسيرات عديدة، فذهب علي شلش إلى أنه لم يحظَ بتقدير كبير من الجماعة الثقافية، فآثر الابتعاد إلى مجال آخر، وهناك مايثبت ذلك في رأي شلش، وهناك عادل حمودة الذي اعتبر أن كتابات سيِّد قطب الأدبية لم تكن ذات رفعة أدبية، ومن ثَمَّ لم تكن أصيلة، لذلك فهو هجرها إلى التفكير السياسي، وكذلك حلمي النمنم الذي اعتبر أن سيِّد قطب لم يكن مثقفاً مثل أساتذته، ولذلك كانت الرؤية سطحية عنده، وعزا النمنم ذلك إلى أن قطباً لم يكن يقرأباللغة الإنجليزية، واعتبر أن ذلك قصوراً لدى قطب، وهذا رأي مثير للدهشة، فهل كل الذين لا يقرأون بلغات أجنبية، نحسبهم غير مثقَّفين؟، فإذا كان كذلك، سوف نخرج كثيراً من الكتّاب والمبدعين من زمرة المثقَّفين. من يقرأ كتابه وسيرته «طفل من القرية»، سيدرك أن هذه الحياة التي عاشها في طفولته، من الممكن أن تنتج هذا النوع من الحياة، والحماس البارز الذي كان ينتاب قطباً في الثقافة والأدب في عقدَي الثلاثينيات والأربعينيات، تحوَّل إلى حــمــاس سـيــاسي وديني في الخمسينيات والستينيات، ولمّا لم يلقَ مايريده من أساتذته، وخاصة العقّاد، تأثر، وترك ذلك في نفسه مرارات كثيرة، ففي مقال مؤثِّر كتبه قطب في مجلة (الرسالة) في 10 سبتمبر/أيلول 1951، أي بعد عودته من أميركا، وتحت عنوان «إلى أستاذنا الدكتور أحمد أمين» يقول قطب بأسى شديد: «دعوني الآن أصارحكم بتجربتي الخاصة، التي تركت في نفسي ذات يوم مرارة، ومن أجل هذه المرارة لم أكتب عنها من قبل، حتى صَفَت روحي منها، وذهبت عني مرارتها، وأصبحت مجرَّد ذكرى قد تنفع وتَعِظ، لقد كنت مريداً بكل معنى كلمة المريد لرجل من جيلكم تعرفونه عن يقين، ولقد كنت صديقاً أو ودوداً مع الآخرين من جيلكم كذلك، لقد كتبت عنكم جميعاً بلا استثناء، شرحت اراءكم، وعرضت كتبكم، وحلَّلت أعمالكم بقدر ماكنت أستطيع، ثم جاء دوري ..جاء دوري في أن أنشر كتباً بعد أن كنت أنشر بحوثاً ومقالات وقصائد، لقد جاء دوري في نشر الكتب متأخِّراً كثيراً، لأنني آثرت ألا أطلع المئذنة من غير سُلّم، وأن أتريث في نشر كتب مسجّلة حتى أحسّ شيئاً من النضج الحقيقي يسمح لي أن أظهر في أسواق الناشرين، وكان أول كتاب نشرته هو ذلك الكتاب الذي نال إعجاب صـديقـكـم الراحـــــــل المغفور له عبد العزيز باشا فهمي ...فماذا كان موقف أستاذي؟وماذا كان موقف جيلكم كله؟ ماذا كان موقف جيل الشيوخ، لا من هذا الكتاب وحده، ولكن من الكتب العشرة التي نشرتها حتى الآن؟، أراجع كل ماخطته أقلام هذا الجيل كله عن عشرة كتب، فلا أعثر إلا على حديث في الإذاعة لفقيد الأدب المرحوم الأستاذ المازني، وعلى إشارة كريمة للأستاذ توفيق الحكيم في أخبار اليوم»، ويستطرد في اعترافاته التي تنمّ عن مرارة شديدة، وهو الذي كتب عن طه حسين وتوفيق الحكيم وعبدالقادر حمزة ونجيب محفوظ الذي كتب عنه مقالاً مجيداً، ولكن محفوظاً لم يكن من الأعلام الذين ينتظرهم قطب، وأهدى قطب كتابه «طفل من القرية» إلى د.طه حسين، موضّحاً إجلاله وتقديره له، وهذا الكتاب الذي كتبه على غرار «الأيام»، وكان قد كتب عام 1947 روايته السيرية «أشواك» على غرار «سارة» للعقّاد، وكان ولاء سيِّد قطب إلى الجيل الذي سبق منقطع النظير، وكان الولاء الأكبر لأستاذه الجليل العقّاد خاصاً جداً. والذي يقرأ العبارات التي كان كتبها قطب عن العقّاد، سيلاحظ مدى التعظيم لا الولاء، فقط، لهذا الأستاذ.



.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى