سعيد خطيبي - «طفل البيضة» لأمين الزّاوي… في مديح العزلة والانعتاق

«طفل البيضة» ليست مُجرّد رواية، هي قصيدة مطوّلة في مديح العزلة والانعتاق، هي أنشودة الخروج إلى النّور، وعصارة أسئلة وجودية، لم نجد إجابات لها. في «طفل البيضة» (منشورات البرزخ ـ الجزائر 2017)، يقدّم أمين الزّاوي (1956) بورتريهات، مُتقاطعة في ما بينها، عن الجزائر الحاليّة، عن الاكتئاب والوحشة، يُخبرنا بهشاشة مواطنيه، وقابليتهم على تقبّل الخسارات. الرّوائي يهتمّ بطرح أسئلة أكثر من البحث عن إجابات، يسرد لحظات الصّمت بدل صخب الكلام، يحتال على الشّعارات الرّسمية، ليسرد الحياة غير الرّسمية، لا يهتمّ بالمثاليات ويصوّر شخصياته في لحظات ضعف وكبت، وفي بحثهم غير المجدي عن الخلاص. كما تعوّدنا عليه، في روايات الزّاوي السّابقة، يمتزج الواقعي بالمتخيّل، وتحضر «شهوة الحكي»، مع نزعة ثابتة في هدم التابوهات.
هي ليست المرّة الأولى التي نُصادف فيها رواية، تتخذّ من الكلب شخصيّة لها، فقد كتب بول أوستر رواية «تومبوكتو» (1999)، وبعده كتب باتريس نغانانغ رواية «زمن الكلب» (2001)، لكن الكلب هاريس، في رواية «طفل البيضة» يختلف عن الكلاب الأخرى، فهو كلب مثقّف وثائر، يتلصّص على عشيقات سيّده ويغار منهنّ، يفرّق بين الجرائد المكتوبة بالعربية، ونظيرتها المكتوبة بالفرنسية، يفرز بينها كلّ صباح، ويتبوّل على صور الزّعماء العرب، التي تتصدّر الصّفحات الأولى من الجرائد، خصوصاً أولئك الزّعماء، الذين أسقطتهم الانتفاضات الشّعبية. «حين أتبوّل على صورة رئيس سابق، أشعر بحزن. لا أحبّ أن أنتشي على جثّة. مُنتهية. لكن حين أتبوّل على شخص لا يزال في الحكم، أشعر بمتعة» يقول. هاريس هو مُرادف للغضب العربي المقموع، يُحاول أن يفعل أشياءً كثيرة، في العلن، أن يثبت أنه ليس جباناً ولا خجلاً، لكن سلطة الآخرين تمنعه، تشعره بأنه ليس سوى حلقة ضعيفة في الأحداث الدّائرة من حوله، فيكتفي بالتّعبير عن غضبه في الخفاء. مولود أو «مول» سيّد هاريس، هو شخص مُكتئب، مُطلّق يعيش وحيداً مع هاريس، في شقّة في الجزائر العاصمة، بعدما هجرته زوجته فريدة، وغابت عنه ابنته تانيلا، الفنّانة التّشكيلية، التي لا تأتي لزيارته إلا نادراً، هكذا سينعزل مع كلبه وكتبه وكتاباته، ينغلق في عزلته في «غابة من الكتب»، وفي مُحادثاته الصّامتة مع هاريس، وزياراته المتباعدة التي ستتكثّف مع الوقت، إلى طبيبة بيطرية، إلى أن يلتقي لارا، لاجئة سورية، فرّت من دمشق إلى الجزائر العاصمة، بسبب الحرب، والدها كان حارساً في سجن تدمر، ومات منتحراً، كانت لارا كلّما بلغت حدود النّشوة، مع مولود أو «مول»، واستعادت لذّة الجسد، نسيت الحرب. كانت تُعالج قلقها وخوفها وفزعها، بالارتماء في حضن جارها، أمام عيني كلبه هاريس.
مولود عاش ما فيه الكفاية، ليُدرك في الأخير أن العزلة، هي الخيار الأرحم. هي ما يتناسب مع مدينة مثل الجزائر العاصمة، التي رغم اكتظاكها، لا نشعر فيها سوى بالوحدة والتّبرّم. اختار أن يحدّ حياته، في كائنين، كلب، يفهم اللغات الثّلاث: العربية والفرنسية والأمازيغية، بدون أن يتكلّمها، وامرأة سورية، لا تتقن أكثر من لغة الجسد. هاريس، الذي يعتبر نفسه سليل قطمير، الذي كان يحرس أهل الكهف، سيغار من حضور لارا، سليلة طارق بن زيّاد، سيُحاول، بلا جدوى، أن يبعدها عن سيّده، لكن في الأخير، سيرحل، بغتة، بعدما تعب وهرم. «هاريس تعب. كان يسعل. فجأة، شاخ بدون أن أنتبه إلى ذلك. لماذا تشيخ الكلاب، بسرعة، قبل البشر؟ أمس، أفرغت البيطرية بطنه بالاستعانة بحقنة. أخرجت من أحشائه كميّة معتبرة، من سائل مصفرّ، مختلط بقطرات دم. أنظر إليه وأشعر بقلق، ثم أقبّله على رأسه»، كتب مولود. ومثله ستفرّ لارا، من الجزائر، إلى كندا، بعدما فشلت في التّعايش مع مزاجاتها، بسبب كونها مسيحية. «في هذه المدينة، التي أسكنها، كما في أيّ مدينة أخرى من البلد، الجزائري لا يستطيع أن يتخيّل عربياً مسيحياً. في المتخيّل الجزائري، كلّ شخص يتكلّم العربية هو، بالضّرورة، مُسلم. من الواجب أن يكون مسلماً. العربية لغة الإسلام، لا يوجد عربي غير مسلم». ويجد مولود نفسه، مُجدداً وحيداً، خصوصاً بعد وفاة ابنته، في حادث مرور، لتنغلق دائرة الرّواية، مثلما بدأت: رجل وحيد، لا عزاء له سوى الكتب.
«حين نجنّ لن نشعر بالوحدة، الجنون يُحيلنا إلى تعدّد» يقول مولود، كما لو أنه تنبأ بحاله، حيث سينتهي به الأمر، نزيلاً في مستشفى للأمراض العقلية، بعدما ضاع منه كلبه، وكلّ النّساء الآخريات، اللواتي كنّ من حوله. مولود هو ذلك المثقّف الجزائري، الأمازيغي خصوصاً، الذي يجد نفسه غريباً، في أرضه، المتكئ على ماضٍ، لكنه لا يمتلك حاضراً له، ولا يستبشر بمستقبل، هو صورة مصغّرة، من أشخاص حملوا الاسم نفسه، مثل مولود معمري، هو عيّنة من أولئك، الذين يفكّرون في الآخرين، بدون أن يجدوا أحداً يفكّر فيهم، لقد قاوم عزلته، إلى آخر لحظة، ساعد لاجئة سورية، وغيّر منظور الجزائريين للاجئين السّوريين، لكنه، في النّهاية، فهم أن كلّ نضالاته الفردية، لن تقوده سوى إلى الانحدار وإلى النّسيان. لكن، قبل أن يصل بطل الرّواية، إلى نهايته، وينسحب إلى عالم المجانين، سيخبرنا بأنه جرّب الكتابة، أيضاً، ولم تنفعه، فثقل الذّكريات كان يضغط على رأسه، وقراءاته الماراثونية لهاروكي موراكامي ولفلوبير، لم تزده سوى انفصام عن واقعه، كان يحتاج إلى امرأة تنقذه، مما وصل إليه من يأس، لكن الجزائر العاصمة كانت قد تحوّلت إلى مدينة ذكورية، متسلّطة، ولم ترأف بحاله.
أمين الزّاوي كتب روايته كما لو أنّه يكتب قصيدة مطوّلة، بفصول قصيرة، ومكثّفة، يمكن أن نحرّك بعضاً منها، نقدّمها أو نؤخرها، بدون أن يختلّ المعنى، في كلّ واحد من الفصول، تنتصب اللغة كشخصية مستقّلة، يحكي في كلّ فصل قصّة امرأة أو لقاء، حكمة أو تجربة في العشق، يتناوب في السّرد اثنان، كما لو أنّهما مستعجلان في البوح: كلب، بدأ من الثرثرة، ومن التّفلسف في الدّين، وفي رغبتهم في دخول الجنّة، وانتهى إلى الصّمت، والاندثار، ومثقّف، بدأ من الصّمت، وفي تأمّل الجزائر العاصمة وهي تنغلق على نفسها، وانتهى إلى الجنون، بعدما فهم أن لا مكانة له في هذه المدينة، التي تأسلمت، بعدما فقدت النّساء حريتهنّ، وتفرّقت النّساء، اللواتي كنّ من حوله.


* نقلا غن القدس العربي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى