د. خالد محمد عبدالغني - السيرة الذاتية في روايات الأديبة المغربية ثريا لهي

حاولت بعض حركات النقد النسوي والتي تقوم على إظهار خصائص النفس الأنثوية الممثلة في طباعها ودقائق حياتها (خاصة الطبع كما هو موجود من قِبَل المبدعات – النساء) تُرفَض وتقع في مشكلة المفاهيم السائدة للمذهب السيكولوجي الذكوري حيث ساهم النقد النسوي في ظهور شكل جديد من الدراسة التحليلية النفسية للأبطال وهناك شكل واحد مختلف يقوم على الدراسة الموضوعية للأشكال الثلاثة للعقدة الأوديبية في نظرية التحليل النفسي من حيث تطورهم وتنقلهم وأدائهم لأدوار الأمهات والبنات وأوضاع التنشئة الاجتماعية وما إلى ذلك، إنه عمل في غاية الأهمية لكن لا أحد وفقاً لعلم مناهج البحث يكون أقل قلقاً في استعماله لأدوات فرويد التحليلية القائمة على قوة الدافع الجنسي بأسلوب موضوعي تماما كما لو أن التعيين الذاتي – التوحد - وتعلم العلاقات الإنسانية كمفردات تحليلية نفسية كانت مهمة النقد(1).
إن صلة الإبداع الأدبي بِمُحِيطِهِ الاجتماعي والتاريخي هي من القضايا الفكرية المستعصية على التدقيق، وقد نتجت عنها استعمالات نظرية ومنهجية ذات مفاهيم تنتمي إلى عدة حقول معرفية: اجتماعية ونفسية وفلسفية وقد تناولها مبكرا مصطفى سويف في عدة مواضع كان أهمها في دراسته المبكرة عن الأسس النفسية للشعر موضحا أنه لا يمكن فهم الشعر إلا بمعرفة العلاقة المعينة بين الشاعر ومجتمعه، ولهذا اعتبرت العبقرية لدى الشاعر قرينة علاقته بالمجتمع، وها هو دور "النحن" في تحقق العبقرية، فحركة الإبداع لا تتم إلا بتحقق النحن. فالشاعر والمجتمع وحدة دينامية بكل ما لهذا التعبير من معنى. وعليه فعلاقة الشعر والشاعر وحياة المجتمع موضع اهتمام العلماء والمفكرين منذ أفلاطون وحتى الآن ( ).
وفي الدراسة الحالة التي تقوم على قراءة وتحليل نفسي لنص أنثوي يتناول حياة أنثى – أم وابنتها – ولسوف يتضح كيف ظهر التعلق الأوديبي وصراع البنت مع أمها منذ الطفولة وحتى زواج الأبنة للمرة الثانية ، كما سيبين لنا كيف كان التناقض الوجداني لدى الأبنة طوال النص ، وكيف كانت الأم قوية الشخصية والشكيمة نتيجة عوامل التنشئة الاجتماعية وانتقالها من مجتمعها الآمن إلى مجتمع غريب عنها وكيف توافقت نفسيا مع تلك الأوضاع الجديدة الشاقة؟ .
ومؤلفة النص هي الأستاذة الدكتورة ثريا لهي أستاذ الأدب الأندلسي بجامعة محمد الخامس بالرباط هي – أول سيدة مغربية تحصل على درجة دكتوراه الدولة في الأدب الأندلسي من جامعة محمد الخامس بالرباط. وأول مغربية تعين أستاذا بشعبة اللغة العربية وآدابها بنفس الجامعة. وأول سيدة تعين عضوا في المجلس العلمي بمكناس، وأول مغربية عضو ملاحظ للمجلس العلمي الأعلى لدى مجلس الجالية المغربية بالخارج . ولها العديد من الأنشطة الثقافيةفي الصحافة, والبحث العلمي، والكتابة الأدبية من سنة 1978 إلى 2019 (فقد رحلت في 30 أكتوبر عام 2019 ).
في هذه الرواية - بجزئيها الأول "الطاهرة"(1)الذي يتناول حياة الطفلة التي مات أبوها وتربت في بيت أسرة غريبة عنها ، والثاني "نجمة"(1) الذي يتناول حياة ابنة الطاهرة من حيث مولدها ونشأتها ودراستها وعملها وزواجها وإقامتها بعيدا عن أسرتها - وصف دقيق للحياة اليومية العادية وبعض العادات كذلك التمازج بين عناصر المجتمع بين أسر مغربية عربية وأمازيغية وأندلسية وأوروبية : فرنسية وإسبانية وإيطالية على اختلاف الأديان تساكنت الأسر المسلمة واليهودية والنصرانية، فالمحطة الأولى كانت فاصلة في حياة الطاهرة فيها تظهر مشكلتها ولب الرواية وهي فقدها وثملها في بداية حياتها الزوجية وارتباط فقدها لمواليدها بفقد والديها هو صلب الرواية التي غيرت مسار حياتها فعانت من اليتم والغربة والوحدة والقهر. وملخص حياة الطاهرة يأتي في وصف المؤلفة لها بقولها:
"إيه يا الطاهرة! لقد مررت في حياتك بمواقف كانت أشد مرارة و قسوة ، مرارة اليتم في الرابعة من عمرك ، واقتلاعك من بين أهلك و قبيلتك، وعيشك مع أناس لا تعرفين من هم ، ولا تفقهين ما لغتهم، في بلد غريب ، كل ما فيه عليك جديد ، في بيت كبير يجمع بين السادة و العبيد: السادة يتحكمون ويأمرون والعبيد بالسمع والطاعة يدينون "نعم سيدي نعم للا" ونساء كثيرات يصنعن من غزل الصوف زرابي بأحجام كبيرة وأخرى صغيرة ، فوج يروح وفوج يأتي ، وأنت بين أولئك و هؤلاء ترين بعينك الصغيرتين وتسمعين بأذنيك اللاقطتين ، لا تعرفين ما يقولون ولا بماذا ينطقون ، كل معرفتك بهذا العالم الجديد قائمة على لغة الإشارة ، فهذا البيت الكبير المغلق وهذه الساكنة المتعددة الأشكال و الألوان هو كل عالمك الجديد الذي أجبرت على العيش فيه (ص20، 21).
إن الوعي والواقعية يملأن أحداث الرواية فتم رسم المجتمع المغربي المختلف ما بين الثلاثينيات من القرن العشرين والقرن التاسع عشر وتعالج موقع المرأة داخل الأسرة وموضع سرقة واختطاف أبناء البوادي والقرى وبيعهم في أسواق النخاسة عبيدا وإماء والتمييز العنصري داخل الأسرة الواحدة عندما يتسرى الزوج بالحرة والإماء فيعتبر بنو الحرة أسيادا ويعتبر أبناء الإماء أقل درجة ولا تتزوج بنت الأمة من ابن عمها إلا الذي أمه أمة أيضا.
ومن خلال متابعة ما كتب عن الرواية نلاحظ أن النقد الأدبي يتجه إلى اعتبار هذه الرواية عبارة عن محطات في حياة امرأة مغربية، إلا أنها لا تعني السرد التاريخي لحياة إنسانة بقدر ما هي رصد لحياة امرأة مغربية بربرية تشاء ظروفها أن ينتقم الحاكم الطاغية ولي الاستعمار الفرنسي للمغرب من رب أسرة بربرية تعيش بجبال الأطلس الكبير.
وكان يتزعم معارضة الخونة ومحاربتهم فأرسلوا له من دس له السم في الطعام فمات الأب من حينه وتبعته زوجته بعد أيام وخلَّفا وراءهما طفلا في الحادية عشرة من عمره وطفلة في الرابعة.
ويرصد النص في الجزء الأول "الطاهرة" مصير هذه الطفلة – الطاهرة - التي ستجتث من أصولها ووطنها لتصل إلى أسرة أندلسية من ساكني مدينة الرباط في ظروف فقدت كل علاقة لها بوطنها وأسرتها "فلا نعرف من هم الأمازيغ لأنهم انصهروا منذ عهود توغل في القدم مع كل الأجناس البشرية التي وفدت على المغرب. وهل الطاهرة الشابة كشفت الهوية وهي في الحمام تمسك بصبية تغسل جسمها هل سألت أمها هل هي أمازيغية أو عربية ؟ الإنسان هو الهوية " هذه الطفلة لا تتكلم إلا البربرية "(ص 55).
والمحطات في هذه الرواية تقف بنا عند مواقف معينة لخط سير حياة هذه الطفلة التي كانت تتحدث البربرية ثم نسيتها تماما بعد أن أجبرت على تعلم اللغة العربية في وسطها الجديد وفي سنوات طويلة انقطعت كل أخبار عائلتها عنها. تبدأ الرواية من الحكاية الأولى وقد تزوجت الطاهرة من ابن عمتها "أحمد" ورزقت منه بأطفال "ثلاثة ذكور" كانوا يموتون بعد الولادة ويوم السبوع بالتحديد، وهي في الحمام – ذات مرة - ترى النسوة تغسلن لأبنائهن وهي تحس بمرارة الثكل.
وبتتبع أخبارها ترصد الرواية الحديث عن مدينة الرباط ووصف شوارعها وأزقتها في سنوات 1940م وعادات وتقاليد الناس في العيش والزواج وتكاليفه المرهقة، ثم وصف المجتمع الطبقي الذي يخضع لنمط التمييز بين الأحرار والعبيد وشيوع ظاهرة خطف الأطفال وبيعهم في سوق النخاسة عبيدا ووفود تجار الرقيق الأسود من جنوب الصحراء وتصديرهم لبريطانيا والولايات المتحدة وتأثير هؤلاء في الحياة الأسرية في المغرب.
وفي هذا الجزء أيضا صور لبيوتات كبيرة وكيف كانت طريقة الحياة عندهم كما تعرض كيف كانت العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة الواحدة والأسر المختلفة. ومن خلال الرواية نرصد التغيير الاقتصادي وأثره على الاقتصاد الوطني خاصة بعد سيطرة الاستعمار الفرنسي على المغرب، ولم يكن بينهما إلا حماية فرضتها فرنسا ثم استغلتها بعد ذلك لفرض سلطتها عل المغرب تقول المؤلفة :
"عرف المغرب ـ أواخر العشرينات من القرن العشرين ـ سيطرة المحتلين الفرنسيين وطغيانهم ، وذاق الناس منهم ألوانا من الذل والمهانة ، وظهر من بين عملائهم من القواد والبشوات عدد من الخونة برز منهم في مراكش "الكلاوي" الذي ضرب الرقم القياسي في السلب والنهب وقتل كل معارض والتنكيل به وبأهله ، وكان يبعث برجاله في أحواز مراكش لجمع الأموال والمواشي والمحاصيل، وليت الأمر كان يقتصر على هذا وإنما تعداه إلى خطف الأطفال ذكورا وإناثا، يجعل منهم سبايا في قصره يهادي بهم أسياده ومعارفه من علية القوم ، ويستعمل بعضهم في السخرة ومن النساء من كن يتعلمن فنون الطبخ ، ومنهن من كن يتعلمن الموسيقى والغناء وكان يجلب لهن من يعلمهن من مصر، فكانت لديه فرق مخصصة في الغناء، وأخرى من العازفات على الآلات الموسيقية كالكمان والعود والقانون وغيرها" (ص 60).
وهناك محطات أخرى تعرض الظروف الاقتصادية للأسر والدولة نتيجة الحرب العالمية والزج بالعدد الكبير من المغاربة للمحاربة تحت راية الدولة الفرنسية فعرف المغرب نقصا في المواد الغذائية، وسميت بعض السنوات بما حدث في تاريخ هذه الفترة فقالوا "عام البون" وهو التموين بنظام البطاقة وعام دخول الألمان وعام ضربة الأمريكان وغيرها.
ومن هذه المحطات ما سلط الضوء على التقاليد والعادات على الحياة الاجتماعية كالاحتفال بالأعراس الذي كان يستمر سبعة أيام تأتي على كل مدخرات الأسرة وكيف سعت بعض العائلات الغنية إلى الاقتصار على يومين فقط ؟ فرفعوا عن الباقي الحرج وأصبح أقل تكلفة .
كما ترصد العلاقات الإنسانية والدينية بين الكفيل والمكفول، ويظهر أيضا التغيير في المستوى الاقتصادي والتدهور الذي أصابه حتى باتت بعض الأسر تبيع أبناءها وبناتها أو تتركهم أمام الأبواب الكبيرة والمساجد لكي يأخذهم من يتولى تربيتهم.

وعلى المستوى النفسي رأينا المؤلفة "ثريا لهي = نجمة " موجودة في الرواية – الجزء الأول "الطاهرة" ، في الحكاية الثالثة تحت عنوان "نجمة" ، وهو نفس عنوان الجزء الثاني من الرواية، وهذا الاسم هو معنى "ثريا" وعندما لاحظنا ترتيب نجمة في الأسرة وجدناها الثانية بين أربع بنات أنجبتهن الطاهرة بعد زواجها من ابن عمتها وهذا الترتيب يلقي بظلاله على شخصية البطلة نجمة وهي في آن الراوي طوال الحكايات، فهي مجتهدة منضبطة وسواسية تقوم بأعباء الدراسة ومتفوقة فيها وأكملت دراستها ، وفي زيارة باريس حريصة على دفع أجرة المواصلات بالرغم من رفض السائق لقبول الأجرة، وتؤكد على تناولها الأدوية في مواعيدها المحددة والحرص على تناول الأطعمة النافعة حفاظا على صحتها، ويأتي مشهد التذكر وهي جالسة في المطعم لتسهل لعبة التذكر فتقول :
"فجأة تجلى لها مشهد" ، هذا هو بيت القصيد وهو أخر صندوق تبحث عنه الساردة في ذاكرتها المنسية " في لحظة إشراق بدا لها المشهد بكل تفاصيله الدقيقة" "هذه أنا" (ص 35) وعندئذ نتعرف على نجمة – ثريا -.

ونضيف إلى ملامح "الوسواسية" في شخصية المؤلفة بعداً آخر هو "النرجسية" بوجهها الإيجابي الذي يدعو إلى تطوير الذات وتحققها بالعمل والاجتهاد، وتجلى ذلك في إخفاء تاريخ أخواتها الثلاث طوال الحكايات اللهم إلا من تلك الشذرات البسيطة عن أيام طفولتهن. وإن كانت المؤلفة تداعت ذات مرة قائلة في أحد حواراتها مع كاتب هذه السطور :
"إنها احترمت رغبة الأخوات في عدم الكتابة عنهن إلا القليل".
ويشكل وجود الراوية / المؤلفة في البلد الآخر "فرنسا" نوعا من التطهير/ التفريج بلغة التحليل النفسي، فالساردة تطهرت من خيالات طفولتها في شكل فني يدعى الواقعية السحرية التي انتشرت في أدب أمريكا اللاتينية وإن كانت له جذور عميقة في تراثنا الفكري والثقافي – في الشعر والقصة والحاكيات الشعبية – فتقول :
"فترى الطائر يقترب منها ، تمسك المرأة السمراء بجناحيه وقد طوتهما في يدها اليسرى ن منقاره يكاد يصل إلى وجهها, ترتعش من الخوف والحمى , وتمسك أمها بيدها تقول شفتاها شيئا لكن أذنيها لا تسمعهما، أبرزت المرأة يدها اليمنى وقد أمسكت سكينا وفي لمح البصر غرزته في عنق الطائر وشقت به بطنه ، وفي خفة وضعته حول عنق الطفلة حرارة الدم وهو ينزل على عنقها غطت على حرارة جسمها من الهلع والضعف استسلمت فلم تفتح عينيها وراحت في غيبوبة" . هذه الحقيقة جثمت على جسدها سنين عددا ما قبل الاستقلال وما بعد استقلال لتخرج الأسطورة إلى الواقع في جمالية سردية ومكاشفة بليغة " (ص 35).
وتشير الرواية إلى التمييز العنصري الذي كان شائعا عند كثير من المجتمعات البربرية وحياة العبيد وما بها من ذل وإهانة وحياة كلها عمل وشقاء ولا مجال فيها للعيش الكريم أو حتى الزواج، والأمة ما هي وعاء للمتعة، وتعرضت الرواية لأشكال من العبودية لدى المرأة حتى أن "الطاهرة" قامت على تربيتها واحدة من هؤلاء وكانت تؤكد عليها دوما "أنت حرة وعربية وذات أصل كريم، ولست أمة، أحرصي على ذلك وتعاملي على أنك مثلهن وتعلمي كل ما ينفعك".
وترصد الرواية التغيرات في المجتمع المغربي سواء على مستوى السفور والحجاب وكيف في فترة وجيزة انتقل زي المرأة من الحايك الذي لا يظهر من المرأة أي شيء كما في الحكاية الأولى من الرواية عندما خرجت الطاهرة للحمام، إلى تغييره بالجلباب واللثام عند ذهابها وزوجها للمأذون لكي يطلقها، وفي ختام الرواية ترتدي الجلباب العادي عند زيارة البيت الكبير الذي تربت فيه وهو بيت السيد "عبدالوهاب".
وتنير الرواية الطريق لمعرفة بعض العادات الاجتماعية مثل "ابن العائلة الفلانية تزوج من يهودية ولم يطرده أبوه وابن فلان من أعيان المدينة تزوج من نصرانية ولم تنكره عائلته"، بالزغاريد يعرف الناس نوع المولود فالبنت تطلق عليها زغرودة واحدة والولد يطلق عليه ثلاث زغاريد".
ونجمة كما جاءت في الجزء الأول تصفها المؤلفة بقولها:
" الثانية نجمة على العكس منها نحيفة، مهما حاولت الأم العناية بإطعامها فهي لا تزيد، كثيرة الحركة و التنطيط ،لا تستقر بمكان ـ على ضعف صحتها ـ بملامح وجه دقيقة وشعر طويل، على العكس من أختها قليلة النوم سريعة الاستيقاظ مرت بأزمات صحية مميتة وكانت في كل مرة تعود للحياة ، لذا حظيت بعناية خاصة من الأم .كانت شديدة الالتصاق بأختها عيشة رغم فارق السن بثلاث سنوات"(ص 45).
وفي الجزء الثاني "نجمة" سنجد ثمة توحد بين المؤلفة وولادة بنت المسكفي ويثبت هذا ما قامت به المؤلفة من إنصاف لولادة بنت المستكفي مما قيل عنها في كتب التاريخ، وإن كان هذا الدفاع عن ولادة وهي الأميرة القرطبية ليس ببعيد عن البناء النفسي العميق لثريا لهي، الفتاة القادمة من أصول أمازيغية، التي يعود تاريخ عائلتها لإحدى الأسر الفرعونية - المصرية القديمة الموجودة بمنطقة الأقصر وهي تفنوت – بعد امتزاجه بأصول عربية، وكأن ثريا وهي النجمة المتألقة تتوحد مع ولادة الأميرة العربية القادمة من أصول عربية لتعيش في مجتمع الأندلس، في ظل مجتمع ظالم للمرأة سواء قديما أو حديثا، وكأنهما أميرتان الأولى "ولادة" بالنسب والوضع السياسي، والثانية "ثريا" بالأدب والعلم والثقافة، ولعل البحث والتقصي في ماضي كلتيهما يثبت ذلك الافتراض فقد كانت بعض الشذرات عن حياة المؤلفة تؤكد ذلك التماهي مع ولادة، كما أمعنت المؤلفة في ذكر تفاصيل حياة "نجمة = ثريا ".
وتتداعي المؤلفة "ثريا لهي" حول تلك الفترة فتقول :
"عشت أنا في هذه الأسرة وشاهدت العبيد والإماء وبنات الأمة وبنات الحرة والميز بينهن وبين الأولاد وكيف كن يعشن في بيت جدي الذي كفل أمي فعاشت حياتها في أسرة أندلسية كبيرة بمآسيها وأفراحها وتربيتها وكمالها ونقصهاوالطفرات التي مرت بها المجتمعات المغربية وتغير اللباس والعادات والأفراح وما عانه الناس في فترة الاستعمار الفرنسي وحركة المقاومة ودور كل مغربي فيها حتى نحن الأطفال وعلاقة الأسرة الملكية بالشعب والالتحام الذي كان وما يزال يجمع بينهما لو قدر لإخواننا العرب الاطلاع على هذه الأحوال لعلموا لماذا ظل المغرب على الولاء لملكه والملك على ولائه لشعبه، لو لاحظت كيف كان زي الطاهرة في المحطة الأولى تلبس الحائك تتلفع به لا يظهر منها إلا شق ترى العين منه الطريق ، ثم وهي في الحلقة الثالثة أظن وهي ذاهبة ليطلقها زوجها بعد البنت الثالثة تلبس الجلباب واللثام ثم تجدها في الجزء الثاني مع عودة الملك من المنفى أسفرت عن وجهها فلم تعد الكثيرات يستعملن اللثام وكيف ستتغير العادات والتقاليد بعد، في الرواية أشياء كثيرة لم يكتب أحد عنها مع تعدد الكتابات وكتابتي شاهد على العصر والمجتمع والأحداث كل في أوانه وزمانه".
وأكملت تداعيها قائلة:
" ينتمي أبي وأمي لعائلة واحدة يلتقيان في الجد الأول لهما، جد أبيها هو نفسه جد أم أبي ، من سلالة أمازيغية استقرت بمنطقة تسمى تزوال تقع في سلسلة جبال الأطلس الكبيرالمعروف بعلو جباله (أكثر من 3000 متر) تنتمي الأسرة إلى قبائل صنهاجة، أسرة آيت سعيد كلمة آيت بالبربرية هي آل باللغة العربية . عاشت هذه الأسرة في بيت عبارة عن حصن كبير محاط بأسوار طينية حمراء يتألف من سبع طوابق كان بيت الأسرة هذا يفتح في فصل الشتاء لكل ساكنة هذا الجبل يحتمون فيه من الثلوج التي قد تستمر أكثر من أربعة شهور ، جبال الأطلس الكبير في كثير من الأحيان تظل قممها مكسوة بالثلوج حتى في فصل الربيع . موارد العيش عند سكان هذه المرتفعات تعتمد أساسا على تربية المواشي و الرعي ، وعلى أشجار اللوز والجوز أما زراعة الحبوب والخضروات ففي سفوحها، تنزل إليها الساكنة في فصل الصيف وتسمى هذه السفوح (العزيب) يصيفون فيها ويحرثون القمح والشعير لأنهما القوت الأساسي للبشروالماشية والدواب.
أسرة أبي كانت تتكون من جدي وجدتي وعشرة أبناء توفوا جميعا بسبب أمراض أو أوبئة كالحمى وغيرها ومنهم من قضى رضيعا ، إلا أبي وعمي هما اللذان عاشا وتزوجا وأنجبا. كانت هذه المنطقة أيام الحماية الفرنسية تابعة إداريا لمدينة مراكش التي كان يحكمها القائد الكلاوي ، بعد نفي الملك محمد الخامس سنة 1953 خارج البلاد اشتد بطش الحاكم بأهل أحواز مراكش فكثر خطف الأطفال والشباب وبيعهم عبيدا ، فاضطر الكثير من الناس إلى الهجرة . هاجر أبي من موطنه إلى مدينة الرباط وكان في الرابعة عشرة من عمره وأخذ معه عمي وهو طفل صغير لم يبلغ بعد العاشرة من عمره ضمن مجموعة من شباب المنطقة هروبا من بطش الحاكم ، واستقرا بهذه المدينة حتى وافتهم المنية ودفنا بها.
ثم نجد إهداء الجزء الثاني على هذا النحو :
إلى روح الملك العظيم محمد الخامس" (ص 3).
بهذا الاهداء تثبت المؤلفة علاقتها بقضايا الوطن والتحرر من الاستعمار وما أحدثه الملك محمد الخامس من تقدم وازدهار ليس للمراة المغربية فقط بل للمغرب بكل فئاته، ففي النصف الثاني من أربعينيات القرن الماضي، بدأت حركة شعبية للمطالبة برحيل فرنسا عن المغرب وقدم عدد من الوجهاء والعلماء عريضة المطالبة بالاستقلال، وبدأت موجة المطالبة بالتحرر من التبعية للفرنسيين الذين حاولوا تقسيم المغاربة إلى عرب و بربر، فأصدروا ظهيرا عرف بالظهير البربري، فثار الناس على هذا الوضع و تكثل العنصران معا فرفضوا هذا الظهير، وبدأت بوادر المطالبة الجادة بخروج الفرنسيين من المغرب، وموازاة مع هذه الأحداث قام المغاربة عربا وبربرا برفض التبعية السياسية واللغوية والحضارية الفرنسية، فبدأ الناس ببناء مدارس مغربية بأموال المغاربة لتدريس اللغة العربية، لتكون بديلا عن المدارس التي كانت تابعة للتعليم بفرنسا، فأنشئت في الرباط مدارس محمد الخامس وفي سلا مدرسة النهضة، وظهرت أحزاب سياسية كحزب الاستقلال وحزب الشورى وغيرهما، وظهرت حركة كبيرة وقوية لمطالبة فرنسا بالرحيل هذه الحركة الوطنية بزعامة الملك محمد الخامس، الشيء الذي دفع فرنسا إلى نفي الملك أولا إلى جزيرة كورسيكا بالبحر الابيض المتوسط في 23 غشت 1953.
ولما اشتدت الثورة المسلحة على يد جيش التحرير ورجال المقاومة ، نفوا الملك إلى مدغشقر في جنوب إفريقيا. لم تستطع فرنسا بقوتها وجبروتها وعتادها وعدتها أن تقضي على المقاومة المغربية فاضطرت إلى الجلوس إل طاولة الحوار وإعادة الحرية والاستقلال للمغرب و إرجاع ملكه إلى عرشه سنة 1956 كان إقبال الناس على إلحاق أبنائهم بهذه المدارس الوطنية كبيرا فألحق أبي أختي الكبرى بالمدرسة، لم أطق البقاء بالبيت فقد كنت شديدة الارتباط بها لا أفارقها ، أتبعها كظلها، وبقيت كل يوم أبكي وأصرخ طيلة النهار حتى اضطر والدي لإلحاقي بها في السنة التالية كان عمري لا يتعدى خمس سنين.
وهذا التداعي موجود في نصوص الجزء الثاني نجمة ، وبهذا نجد التماهي بين التداعي والنص والمكتوب وكذلك بين الذاتي – ما يتعلق بشخصية المؤلفة – والموضوعي – ما يتعلق بقضايا الوطن والمجتمع بعامة -.
ولكن من المهم أن نميز بين الشخصية الإنسانية في واقع الحياة والشخصية الدرامية المشخصة فنيا والمؤدية لدور يشابه الشخصية الإنسانية، ففي الغالب أن الشخصية الإنسانية ستكون أكثر تعقيدا من الشخصية الدرامية لأنها في تفاعل مستمر وواقعي مع المجتمع المحيط بها في الحياة الاعتيادية. بينما الشخصية الدرامية، صانعة للأحداث وهي مصنوعة كذلك، ومهما كانت درجة النقل للشخصية الحقيقية، ستظل شخصية متخيلة لأنها مكونة من نسيج خيال الكاتب وخبراته الثقافية ومخزونه المعرفي الذي يمكن العودة إليه في حال كتابة الشخصية التي يخلقها برؤاه وإدراكه الشخصي الخاص به، أو من خلال تجربة يكون قد مر بها أو حدثت أمامه وتحولت إلى خزينه الذهني والمعرفي، فيعطيها ماضيا ومستقبلا، بحيث تبدو لنا كأنها كائن محسوس ولها بناء متكامل وتاريخ مرتبط بحركة الزمن فضلا عن حاضر يسير باتجاه المستقبل لسيرورة الأحداث. يتزامن كل هذا مع المكان الي يمثل الوعاء الذي يحتوي فعل الشخصية ويستجيب لما يحيط بها من مؤثرات، لذا فوجودها "من الناحية الموضوعية لايتجاوز وجود العناصر المركبة لها وهي: الحركة والكلمة، وتعبيرات الوجهة، أما ماضيها ومستقبلها فهما الماضي والمستقبل الذي يعطيهما الكاتب"(2).
وكانت المؤلفة واعية تماما عند صناعة شخصية البطل في الجزء الثاني بحث أظهرت ملامح ايجابية عن العائلة والمجتمع الصغير وعبرت عن طفولة سعيدة ، ولكن سرعان ما تدخل :التناقض الوجداني - حب الشيء ورفضه في آن - وذكر ت بعد ذلك ما يعكس مظاهر السرور في تلك المرحلة:
" ارتبط هذا البيت في ذاكرتي بأحسن فترة في حياتي وأسعدها فترة الطفولة، وأنا اليوم على مشارف السبعين من عمري وعلى امتداد هذا العمر وغنى مراحله المتعددة بالتجارب المختلفة ، بالنجاحات والإخفاقات، بأيام السعادة و أيام الشقاء ،بلحظات الأمل و لحظات اليأس ، بأوقات الضعف و أوقات القوة ، بكل ذلك تبقى مرحلة الطفولة على قصرها أسعد مراحل عمري على الإطلاق" (ص 5).
ثم تذكر لنا ما يفيد بوجود بعض المآسي:
" من الأحداث ما أذكره بوضوح و منها ما لا أذكره و لا حتى ظل خيال منه واعتمادي في روايته على ما روته لي أمي في مراحل متعددة من عمري، و لعل ما عانته من آلام ساعتها هو ما عمق ذكراه في نفسها وما جعلني فيما بعد أدرك سر حرصها علي أكثر من أخواتي فكانت تسمح لهن بالخروج و بالمبيت عند أفراد العائلة بينما كانت تمنعني من ذلك بل تحتفظ بي إلى جانبها الشيء الذي كان يثير حفيظتي و يشعرني بالقهر" (ص 7).
وتستمر في السرد قائلة:
" في هذه الفترة مرضت مرضا شديدا بالحمى نتيجة إصابتي بالدفتيريا ولم أستطع تذكر هذا الحادث طيلة حياتي تقول لي أمي وهي تحدثني عما عانته من مرضي :
" اشتد بك المرض فحملتك على ظهري في يوم عاصف ممطر اشتدت فيه الرياح وزمهرير البرد إلى عيادة الطبيب المغربي الوحيد في حي حسان الدكتور العوفير وأنا كلي أمل في علاجك ، لما رأت الممرضة حالتك أدخلتني لغرفة الكشف دون انتظار، وجاء الطبيب ما أن كشف عليك حتى تغيرت سحنته و بدأ يمسح يديه بالكحول و بأنواع المطهرات صارخا في :
" احملي ابنتك واخرجي بها بسرعة ، خذيها إلى المستشفى هي في حالة خطيرة و حرجة هيا بسرعة لا أحب أن تموت في عيادتي"
قلت له :
" جئت بها إلى عيادة خاصة للعلاج أما المستشفى العمومي فأنا أعرف أين يكون ، سيدي الدكتور سأحمل ابنتي إلى البيت وإذا ماتت سأدفنها ، وإذا أراد الله بها خيرا سيشفيها و تعيش و يوم تموت أنت " غادي تجي ودردك على قبرك "(ص 9 و10).
ثم تأتي الحكاية السابعة بعنوان "أحزان طفلة" وفيها تعاني الأسرة مرارة الانتقال من مسكن قديم جميل لاخر ضيق وغير مناسب لتقول المؤلفة :
" بانتقالنا إلى المدينة واستقرارنا بها، تملكني شعور قوي بأن طفولتي السعيدة انتهت ولن تعود أبدا ، تملكني حزن دفين ، شعلة متوهجة كانت داخلي تتوقد باستمرار أستمد منها نشاطي وشقاوتي و تنطيطي و ضحكي انطفأت في هذا البيت ،ولما كنت مجبرة على العيش فيه كرهته فانعكس هذا الكره على نفسيتي و سلوكي، و من يومها بدأ حزن رقيق يطغى على تقاسيم وجهي ازداد مع الأيام حتى أصبح كل من يراني يثيره هذا الجمال الحزين على ملامح طفولية استمر بعد ذلك حتى مرحلة الصبا و الشباب (ص 53).
وفي الحكاية الثامنة التي حملت عنوان "العالم الجديد" تصف المؤلفة البيت في الجملة الأولى بقولها :
" وأخيرا بدا شهر أكتوبر على الأبواب ، السجن سيفتح أبوابه بعد أيام ، جاء أبي يوما يخبر أمي أنه مر على المدرسة و سجلنا (ص 55).
وفي المحطة التاسعة التي ورد فيها ميلاد الأخ الوحيد تشير إلى الحزن أيضا بقولها:
" تميزت هذه السنة عن غيرها من السنوات بأحداثها الجميلة التي مسحت كل أحزان السنين الماضية، حقق الله فيها أحلامنا وأمانينا وعوض صبرنا خيرا بمنه وكرمه" (ص 65).
وتداعت المؤلفة حول تكوينها الأسري فقالت:
" تكونت الأسرة من أربع بنات وابن واحد جاء في آخر المطاف أما البنات بين الواحدة والأخرى مابين ثلاث سنوات وسنتين الأولى تكبرني بثلاث سنوات وأنا أكبر من التي تليني بسنتين وبين الثالثة والرابعة ثلاث سنوات وبين الصغرى والولد أربع سنوات".
وفي المحطة الأخيرة التي حملت عنوان "أنا والطاهرة" ذكرت فيها أوجه الخلاف والشقاق بينهما (الطاهرة الأم – نجمة المؤلفة) والفرصة الوحيدة التي قامت فيها نجمة ولأول مرة باختيار شريك حياة جديد، وكأنها ترد بهذا الاختيار على كل القهر والحزن الذين عاشتهما طوال حياتها ، ولنتأمل كيف انتهت الرواية بهذه الكلمات؟ إذ تقول :
" بعد مضي أيام قليلة سألني عن الطلب، فقلت له أن نختار مدينة أخرى ونسعى في الانتقال إليها لنبدأ حياتنا بعيدا عن الحكم والتحكم و السيطرة. فكان انتقالنا إلى أقصى مدينة في شمال المغرب حيث بدأنا في ترتيب بيتنا و تأتيثه وتعودنا على العيش ليس لي وله أي فرد من العائلة بها . أول مرة أحسست أن لي حرية التصرف دون رقيب أو حسيب ، أعيش كما أريد أنا لا كما يريد الآخرون" (ص 130).
وهكذا قدمت ثريا لهي الشخصية /الطاهرة ونجمة/ مرسومة بدقة وعناية شديدة لأنها طرحت من خلالهما الأفكار والحوار لتكون مقنعة حتى تبدو مفهومة وحقيقية وقابلة للإيهام بالتصديق.
وفي هذا المقام يشير "لوسيان جولدمان" إلى أن "الكاتب الدرامي أثناء مزاولته لخلق الأشخاص ينظر بعين الاهتمام إلى وضعهم الطبقي من أجل أن تبدو أفعالهم وأفكارهم وأقوالهم مطابقة لأولئك الأفراد الذين تتكون منهم الطبقة، ومن خلال رؤية تلك الطبقة للعالم يستطيع الكاتب الدرامي أن يصوغ لهؤلاء الأفراد ما يفكرون به وما لا يخضعونه للتأمل أو التفكير بحيث يبرز التواؤم بين ذواتهم ووعيهم من حيث هم أفراد وبين مستوى الوعي الذي تمتاز به هذه الطبقة من المجتمع"(1). وهذا ما تحقق في هذا النص بجزئيه الأول "الطاهرة" والثاني "نجمة" ولذلك فالمؤلفة موجودة داخل النص "محطات في حياة امرأة" ، بالإضافة إلى أن هناك اتفاق بين ما جاء في النص الأدبي والتداعي الحر الذي قامت به المؤلفة في جلسات مع الباحث الحالي، وعليه فثمة تأكيد على أننا أمام نص ينتمي لأدب السيرة الذاتية، وليس نصا لرواية السيرة الذاتية، وذلك لغياب الشخصيات الخيالية والصراع بين قوى الخير والشر والحبكة الدرامية وبخاصة في الجزء الثاني "نجمة" الذي مثل سيرة ذاتية خالصة للمؤلفة وإن غلب عليها – نص السيرة الذاتية - قوة اللغة والبلاغة والصور البيانية فإنما جاءت على هذا النحو لتمكن المؤلفة من دراستها الأكاديمية واللغوية والأدبية.


د. خالد محمد عبدالغني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى