د. إبراهيم عطية - تجربة حياة في رواية السيرة الذاتية قراءة في رواية "كفاية نورك عليا"

تظل قضية الرواية وعلاقتها بالسيرة الذاتية كجنسين أدبيين من قضايا السرد التي تفرض حضورها على الساحة الأدبية ، بل هناك من يري أن السيرة الذاتية والرواية جنس سردي واحد والتبست صفة السيرة بالرواية، فهناك من يقول إلي أن كاتب السيرة يروي تجارب حياته ويكون قد كتب رواية دون أن يقصد، تحمل سمات وتقنيات فنية في جوهرها تنتمي إلي الرواية.
لكن هذا القول ليس سهلا التسليم به إذا ما توقفنا أمام حقيقة شروط بناء الرواية في تناول الموضوع والمعمار الفني ليس من الضروري أن يلتزم بها كاتب السيرة الذاتية، وليست مهمته حين يحكي فصولا من حياته أو تجاربه في الحياة.
لكن لا يوجد رواية من الروايات تخلو من أوجه السيرة الذاتية لكاتبها، أو من السير الغيرية لآخرين التقطها من معرفته بهم أو من بحثه عن سيرهم، لكن ملامح السيرة تمتزج وتذوب في النسيج السردي الروائي فلا نكاد نستشعرها إذا ما أدركنا أن كثير من الشخصيات الروائية هي عبارة شخصيات يضفرها الكاتب في نسيج تجربته الروائية وتبدو بمثابة "كولاج" ناتج عن دمج ملامح شخصيات مختلفة في شخصية واحدة، لكونها مستقاة من نماذج من الحياة نفسها، حتى وإن اكسبها الروائي ملامح ليست لها في الواقع، ولكنه اختارها من محيط الحياة من حوله.
والرواية لا تستطيع أن تبلغ ما يقوله كاتب السيرة الذاتية، الذي يريد الإحاطة بكل جوانب وتفاصيل السيرة، وهو أمر لا تتيحه الرواية القائمة على قدر من الانتقائية للوقائع والأحداث، التي يراها الكاتب ضرورية لبناء الرواية، وإغفال وتجاهل وقائع أخري لا تخدم غاية البناء الروائي المتخيل، لكن السيرة الذاتية وما تقدمه أكثر صدقاً في سرد لوقائع حياتية فعلية .
ويري " ألان روب جيريه" يري أن الرواية بخلقها للرموز والاستعارة البديلة أصدق من الذاكرة الانتقائية والناقصة للسيرة، وتأتي التقنيات الفنية السردية من استعارات وأساليب بلاغية لسد الفجوات وخلق المتعة الفنية داخل النسيج السردي .
ورواية ( كفاية نورك عليا) للكاتبة هبة لبان استطاعت خلق جسر لغوي متناسق بالتعبيرات البيانية أن تقدم تجربة ذاتية، ترويها بفنية روائية، تبرز علاقتها الاجتماعية ونظرة المجتمع الرجعية للمرأة عامة ، والمرأة المطلقة خاصة التي تلاحقها وصمة العار لكونها مطلقة ، وترسم طريق الثبات الإنساني في مواجهة معوقات الحياة وانعكاسها على شخصية البطلة، ولا شك أن القارئ يحتاج إلي الفن لينقذه من فلسفة جماليات القبح، واللغة في تكوينها السردي تحتل مكانة عليا لوصفها للشعور وتجوالها في فضاءات مكانية ورمانية تستدعي حضورها ،
(تهوي العين من يعجبها .. ويهوي العقل من يفهمه .. ويهوي القلب من يلمسه .. أما الروح فلا تهوي إلا من يشبهها .
إن كان دمعي سوف يكوي مهجتي ويعيده إليّ عله يدرك مدي حبي إليه ، وأرقي إلي السماء، سحقا لذاتي إن غواها الكبرياء .
من رحيق الكلمات أتنسم عطرك في ملامح عمرك الزمني، الظروف التي عشتها تفوح بإحساس غريب يسيطر عليّ، كنت أشعر أحياناً أن الوحشة التي تسكنني ستتحرك في أي لحظة، ويجرفني إلي القاع، كلما التقطت أذني صراخ طفل تملكني الخوف، أراه منعكساً على وجه مبتسم بالبراءة، أما أوراقي فقد حوت بحكايات يقشعر لها البدن ، أشبه بألف ليلة وليلة ، بها من المعجزات يرفض العقل أن يصدقها لكنها حدثت بالفعل .)
وتقدم الروائية جملة من المعاني التي ترسم السبيل لثبات البطلة في مواجهة المعوقات والعواصف الغاضبة بالحقد والإحباط، وكيف يستطيع الإنسان أن يحول خيباته إلي منجزات بقوة الشخصية وثباتها، وشموخها واعتزازها بنفسها، يحيل الضغط والاحتلال إلي حرية والفكاك من الأسر، وتحفيز القارئ من التغلب على صعوبات الحياة وعدم الوقوع في اسر الثقافة الشرقية السائدة في المجتمع تجاه المرأة بأنها كائن خلق للمتعة، وليس لها حقوق إنسانية كما يجب أن تكون بالنسبة للرجل، وفي ظل التطوري الحياتي للفنون وتداخل الأنواع الأدبية التي تخصب ذاتها بتقنيات وسمات أنواع أخري شريطة الحفاظ على النوع الأدبي الأصيل القائم على تقنيات السردي القصصي .
ورواية " كفاية نورك عليا" تنتمي تنويع من تنويعات عدة تقع بين نوعي السيرة الذاتية والرواية الخيالية ومزج بين الرواية والسيرة الذاتية ، ويمكن تصنيفها رواية " صوت" رواية السيرة الذاتية للشخصية الروائية الرئيسة وهي البطلة التي لم تحدد لها اسماً، التي تعاني منذ طفولتها العزلة، أسيرة للتقاليد والفكر الشرقي الذي ينظر إلي الفتاة نظرة خوف وقلق، مما دفعها إلي الانخداع في مشاعرها وأحاسيسها عندما التقت بأول شاب انبهرت به، وخاضت تجربة عاطفية مرة، وتزوجته حين طلب يدها، وكانت حدوتة الرواية تجربة ذاتية للبطلة الساردة الرئيسة بضمير المتكلم "أنا" ضمير البوح والإفضاء الغزير بوجهة نظر الشخصية لعامل الأسرة والمجتمع مع المرأة المطلقة وكيف يصفها بالنقص باعتبارها منبوذة اجتماعيا ؟ وكيف تواجه العنت والعصف بإنسانيتها رغم ثبوت حقوقها في العرف الاجتماعي وفي الشرائع الدينية . وتناول مأساتها فتقول ..
(هي تجربة عشتها ، تمس أمومتي وإنسانيتي ، جعلتها رواية لعلها تكون درسا أو ملاحظة أو لفت انتباه لكل فتاة لتعرف أن اختيار الشريك ليس لها وحدها فهي ستختار من ستعيش معه، وتراه وتسمعه وهي تختار والد أولادها وجد أحفادها وصهر عائلتها ، عليها أن تنسي موديل سيارته وحجم منزله ، وتري حجم عقله وفكره لعل ألمي ووجعي ومعاناتي يساعدا البعض على حسن الاختيار.
وإذا كانت لحكايتي طعم المرارة ، فعذري أني عشت المأساة ، لم انفصل عنها ، ماتت داخلي كل الأزمات الشخصية التافهة وسقطت ، أتصبب حزناً وأتنفس مرارة الفقد ، رحت أقلب أوراقي المهملة وأتساءل في حيرة : هل الإنسان مسير أم مخير ؟ )
وتعد الرواية مزيج بين الواقعية والرومانسية، بين السعادة والألم والصعوبات التي واجهتها في حشد لغوي من الوصف وسحر البيان، وقدمته في منحي روائي لمرأة منزوعة من دفء العلاقة الإنسانية والأمان في لبنان غلي الشعور بجليد المشاعر والأحاسيس والعقد النفسية التي تحكمها قيم وعادات قديمة تنظر إلي المرأة نظرة رجعية متخلفة، وحشد الرواية بقدر كبير من المواقف الإنسانية المؤثرة والمركبة ،شديدة الألم ، فالمرأة تشعر بالغربة وتصاب ببرودة معنوية في روحها ومشاعرها والأحاسيس التي تصيب قلبها من معاملة الزوج الغير مبررة، بلغت ذروة قسوتها، والتي لا يري فيها إلا إشباع لغرائزه، واحتلال يطاردها منذ الصغر، وتعبر عن هذا الاحتلال الاستعماري بجمل مفعمة بالأسى والحزن فتقول ..
( يا لها من فاجعة الفقد لعزيز أضناني فراقه ،فوقعت في دوامة الأحزان التي لا تنتهي ،إلا أنني بدأت أفكر جديا في أمر استقلالي من هذا الاحتلال ، منذ ولادتي محتلة ، احتلال أهلي الحنون ، اللطيف ، احتلال في اختيارهم أسمي ومدرستي وصديقاتي ، وهم من وافقوا على احتلالي الثاني رغم معرفتهم أنني في عمر صغير لا يدرك الاختيار الصحيح فكان زواجي الأول هروبا من الاحتلال لأقع في احتلال كنت ضحيته أنا وزوجي وأمه لمحتلة، لم استطع إنقاذه من أسرها فأنقذت نفسي وتركته بعد طلاقي، وعدت لاحتلال أهلي المحب طوعا وعن طيب خاط، لم أكن حرة بالذهاب والسفر ووعدت أبي أنني سأكون مثل ما كنت قبل الزواج إلي أن جاء الاحتلال المرير الذي احتل جسدي وروحي ، وقلبي المحتل من ابني الحبيب ، لقد آن الأوان لأخذ الاستقلال وحكم نفسي بنفسي ، ومضت شهور وان أحاول إيجاد طريقة لأحقق ما أريد .. لكن كيف سيكون الوضع ..؟! كيف سيكون ردة فعل أولادي وأهلي ؟! تمنيت أن تسير الأمور كما خططت لها للحصول على الحرية والجلاء وتحينت الفرصة، استجمعت شجاعتي المبعثرة ووضعتها في عبارة موجزة، تحدثت إليه بشكل مباشر دون مقدمات، واجهته قائلة :
أنا لست سعيدة معك، منذ أن رأيتك ، وكل مرض أصبت به كان بسبب وجودك معي ، أنا لا احبك أبدا ..)
والنموذج السابق له مواقف مناظرة على مستوي الرواية جميعها، وتنبئ عن مقاومة ومواجهة المواقف النفسية في المساء كانت تخوض تجارب من معركتها مع النفس لإثبات الذات التي نذرت نفسها والعيش مع أسرتها التي لم يكن يري فيها ذلك الزوج إلا متعته الجسدية وممارسة نزواته الجنسية وتناول الطعام ، لا يشعر بها من خلال علاقات أنشأتها مع أشخاص بارزين في المجتمع لتنتقم من صنف الرجال الذين يمثلون لها عذاباتها النفسية، وقد دعمت روايتها باعتبارها السيرة الذاتية للشخصية الروائية، حضور الذات الساردة بقوة من اللحظة الأولي حيث وجهت خطابها للقارئ .
واللغة في الرواية تحتل مكانة شاعرية، فهي لغة وصف للشعور، تجول في الفضاء المكاني والزماني، وتتناص مع طبيعة الشعر، فقد حفلت الرواية بالمسار الرومانسي والعاطفي الرقيق، وتضمنت الرواية بالسرد الوصفي الحسي للداخل الشعوري حين بدأت تفكر في تخليق واستدعاء الحبيب الافتراضي الذي تنشده وتتمناه بما يحقق سطوع الفكرة وقصدية حشد المواقف لتبرز قضية الظلم الاجتماعي الذي يقع المرأة وينعكس على الأبناء وجهامة المعاملة بين الزوج وزوجته والمعاملة التي تنكس علي النفس وافتقاد الود في داخل المنزل .
والرواية رغم منحاها الرومانسي لكنها واقعية، والسرد معزوفة على أوتار الروح المغتربة، والرومانسية إنشاد للمثالية المفتقدة التي تنشدها في الرجل الذذي تنشد فيه الكمال والحب، وعبرت عن ذلك في تأسيس روائي قدمت فيه ملامح جسدية ونفسية لعدد كبير من الشخصيات، واستنبطت الساردة تلك الملامح الكثيفة عبر ارتداد الأصوات لسمعها من التليفون والروائح لأنفها والأفعال لروحها، فصحبها القارئ مبصرا عبر وجهة نظر للشخصية الساردة الممتحنة بقسوة في اسر ظلام وظلم النفوس .
ووضحت الرواية دعم الواقعية في أنحائها عبر تقنية الحلم، والجانب المشرق من خلال الحبيب الذي تنشده كما يجب ان يكون الرجل فتروي شعورها بالإفضاء بالكتابة وفكرة الاستشفاء بالكتابة لعذابات الروح ونزيف الحروف أهون من نزيف الروح بالمفردات اللغوية الحاشدة للتعبير، والالتصاق بالخوف ومفردات الطبيعة كمعادل للأطوار النفسية العصيبة وأن السعادة لحظات متطايرة من حد الخيال عبرت عنه بالمجازات وعن ترميم القلب وإذهاب الحزن وإدخال البهجة و الطمأنينة للقلب الكسير لتحقيق البهجة والحياة والسعادة والأمان مع الرجل الذي تراه مشاعرها كما يجب أن يكون الرجل .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى