أحمد بوقري - رؤية نقدية مذعنة للنص ..

يقول لوكاتش: إن هدف القص اكتشاف وبناء صورة للواقع تعمد إلى حل التناقض بين الظاهر والماهية ، وبين الجزئي والكلي وبين المباشر والمفهومي ، حلا من شأنه دفع طرفي التناقض إلى الالتقاء في تكامل تلقائي داخل الانطباع المباشر للعمل الفني. فالكلي يظهر باعتباره صفة للفرد والجزئي ويصبح الجوهر متجليا باديا. ويترتب على ذلك أن النص الأدبي يقدم سياقاً متكاملاً محدد النطاق قائماً بذاته . أي أن العمل الأدبي يخلق عالمه ، ويذهب لوكاتش كما يقول الناقد إبراهيم فتحي :( إلى أن هذا آلا تناظر الظاهري مع الواقع هو الوهم الجوهري الضروري الباطن في الفن).
على ضوء هذا الاستهلال النقدي للوكاتش سأتلمس طريقي إلى داخل النص وعبر مساراته المتقاطعة في قراءتي لمجموعة الكاتب السعودي فهد العتيق القصصية إذعان صغير الصادرة عن مختارات فصول بالقاهرة . حيث تأخذنا لغة القص ببساطتها المتناهية والدقيقة والمعبرة عن اللحظة الدرامية بشفافية إلى واقع منزاح عما هو سائد واقع تخيلي لا يعيد ما كان موجوداً سلفاً بل ينزاح عما هو سائد في معاييره . ليحقق معاييره الجمالية الخاصة ذات الصفة الفنية المغايرة التي يتمنع من خلالها النص القصصي على القارئ ويفتح له أفقاً جديداً لا يستجيب مع ما يتوقعه القارئ من النص وهذا ما يمنح للنص القصصي سره وجماليته.
وتنفرد قصة إذعان صغير عن بقية قصص المجموعة في أنها ذات بنية سردية فنية دائرية تنتهي وتكتمل من حيث بدأت . وتتحقق في هذه القصة خصائص القصة القصيرة الجمالية أكثر وضوحاً من الأخريات من حيث توفر الحدث ، والشخصية واللحظة الدرامية المتواتـرة الذروة والبعد الرؤيوي أي الموقف الفلسفي. وبقية القصص لا تبتعد – بالطبع – عن خصائص القصة القصيرة هذه كليا وأن كانت تطرح بعضاً منها ويغطي في بعضها البعد الرؤيوي المحمول باللغة الشعرية والمفردة المنحوتة من الذات القلقة لتعبر عن رغباتها الصغيرة واحباطاتها وتوهماتها الخاصة كما في ( نصوص صحراوية ) القصيرة ذات اللقطات الدرامية السريعة والخاطفة.
وعندما كنت ابحث عن دلالة عنوان القصة ( إذعان صغير ) فقد أصبت في الحقيقة بالخيبة. والخيبة هنا أتت لأن النص لم يقدم لي ما كنت انتظره وفق معايير جمالية ونقدية محددة كمتلق له لذا فهو نص مختلف وهذا سره وجماله كونه يفتح أفقاً جديداً أو يدفع في اتجاهات أخرى لقراءته . وهذا ما كان.
ترك عنوان القصة إذعان صغير تساؤلاً في مسار قراءتي للنص: لماذا إذعان صغير. لماذا لم يقل القاص مثـلاً: (إذعان كبير) أو (إذعان ما) أو ( إذعان جميل ) أو .. أن إضافة الصفة أو الحالة التي عليها الإذعان لها دلالاتها في اعتقادي ، والبحث عن هذه الدلالة الفنية في القصة هو البحث عن مستوى الواقع الفني الذي خلقه النص في حقله اللغوي وشكله الفني ، وعلاقة هذا الواقع الفني بالواقع الخارجي وفعل الانعكاس آلا تناظري الذي أنجزته العملية الإبداعية في محصلتها الأخيرة.
فالإذعان المعطى في النص هنا في واقعة الجديد هو في ظني تصغير للإذعان الحقيقي كما هو وصورة مغايرة له .. فالمبدع لا يحاكي هذا الواقع الخارجي في حرفيته بل يأخذ منه – أثناء العملية الإبداعية – ما يريد ويترك ما لا يريد ويصغر المبدع بحاسته البصرية الدقيقة ما يريد تصغيره ويضخم ما هو ضئيل أو غير مرئي في أشياء الواقع والحياة كما يراها أمامه أو يعايشها وينزع منها مادته القصصية . وما يشكله النص الفني من واقع جديد أو عالم مستقل هو نسبي جداً أو عالم مستقل هو نسبي جداً ولا يتطابق معه بالضرورة وأن اشترك الواقعان في منطق الصيرورة الداخلي وفعلهما وفي السببية الموضوعية/ المادية وتحولاتها اللذان يحكمان بالضبط علاقات الواقعين الفني والموضوعي مستقلين عن بعضهما البعض..
ولقد أنجز النص ( إذعان صغير ) في شريطه اللغوي وفي سرديته المتسقة وفي حواراته واقعه الفني/ المعادل بشكل لا تناظري ، هو واقع المبدع التخييلي كما يراه وكـما يفهمه ، وهو لم يكتف بهذا اللاتناظر الانعكاسي ، وإن اكتفى النص به كما هو في نصوص أخرى تحقق – في الواقع – للنص غاياته الإبداعية ولا اكتملت العملية الإبداعية للنص ، إلا أن القاص تجاوز بنصه/ بواقعه الفني الجديد إلى فعل الانعكاس الصادر من ذاتية المبدع ورؤيته الفنية وما هذا الفعل الجديد إلا حلم اليقظة الذي اختتمت به القصة ، الفعل الذي رأى فيه البطل/ المذعن نفسه ، يبيع الحمام الجميل لجاره ولمدير مكتب الحقوق فيحول بذلك الإذعان الذي خضع لـه من أجل الآخرين إلى جعل الآخرين مذعنين للحالة التي عاشها قبلهم وسببت له فعل ( الإذعان الصغير ) وما إذعان الآخرين هنا إلا إذعان حلمي ، أكثر صغراً ، أكثر ضآلة وأكثر متعه ( كونهم يتضاحكون في وجهه ) وفعل الإذعان الجديد هو واقع مصغر جديد لا تناظري لواقع فني لا تناظري سابق ، واقع منمنم أكثر جدية ووضوحاً وصغراً لإذعان جميل وصغير لمعني الحياة ولمعني الحرية الذي تدل عليه وتطلقه أجنحة الحمام في فضاء الحارة الذي يكبر فيه الإذعان ويتسع ويتمدد . وهكذا يصبح ( ما هو صفة للفردي والجزئي صفة للكلي ) ويصبح ( الإذعان الصغير ) ما هو – في الحقيقة إلا نواة لإذعان كبير معطى في الواقع الموضوعي ، العالم الخارجي للنص.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى