سيد الوكيل - مساحة عميقة من الصمت في قصص أظافر صغيرة جدا..

سقوط حر لا ينتهي ، مشهد طويل ومخيف إلى حد الاختناق العصبي ، في أشهر أفلام (ستانلى كوبريك) أوديسا الفضاء ، هذا ما أحسست به وأنا أقرأ المجموعة القصصية الجديدة للكاتب السعودي فهد العتيق.
المجموعة أسمها أظافر صغيرة جدا ، وصادرة عن سلسلة مختارات فصول من سلاسل الهيئة المصرية العامة للكتاب ، وتلك المرة الثانية التي تصدر لفهد مجموعة من هذه السلسلة المحترمة والتي يقف عليها الكتاب المصريون أنفسهم بالطوابير ، وأفضلهم حظا ينشر فيها مرة واحدة ، ورغم نظرة الحسد عند الكثيرين، أقول بصراحة لو كنت مسئولا عن هذه السلسلة لنشرت كل إنتاج العتيق فيها فالأصوات المتميزة والمواهـب العميقـة لا حدود لها ولا وطن ، وللجمال شخصية دولية يرحب بها الناس في مكان ، وهذه حقيقة قديمة تجعلها ثورة الميديا قضية مصير ومستقبل لوطننا العربي المسكين.
أعود إلى عنوان المجموعة ( أظافر صغيرة جداً ) فأقول هو عنوان مخادع ، فأظافر فهد العتيق طويلة جدا وحادة ، حتى يمكنها أن تطول الروح بخمشة واحدة فتؤلمها، إذ أن المجموعة تكاد تصدر حالة واحدة من الشعور ، هي ذلك السقوط الذي لا ينتهي ، سقوط في سديم الأحلام والهواجس ، حيث تتواتر صور عديدة وكئيبة قد تحضر من الطفولة أو أبعد من ذلك قليلا ، كميراث أبوي، أو أبعد كثيرا.. من الماضي السحيق فلا نعرف إلى أي زمان أو مكان ينتمي، ولكننا مثقلون بها على نحو قدرى ، وكأننا نرسف في أغلال ونمشى في سراديب مظلمة لا نعرف متى سنخرج منها..
( مرعوب من الوقت ، منذ أحنيت رأسك وكنت ترى طفلا صغيرا مقموعا يريد أن يستيقظ من سبات طويل ، هذا الطفل تراه يركض في الشوارع والحارات ، ويكتب على الجدران أسماء الأصدقاء، يبنى بيوتا من تراب، يركض في كل حارات المدينة، ويسهر الليالي الطويلة، يدخن، ويشرب مضمخاً برائحة الوقت اللذيذ والرقص والنساء ، وعندما يستوي وينام تقبض عليه بيديك الاثنتين ، تحدق في وجهه جيدا ، تتحسس أظافر يديه ، أنها تقتلك ، توقظك في الليل من أجل أن تمارس عليك طقوسها فتثور وفي النهار تحنى رأسك للأشياء ).
أن معنى الميراث الذي يمتد من الأباء إلى الأبناء يتكرر في أغلب قصص المجموعة ، ويطل علينا بثقل لا نظن معه فكاكا، أما الركض فهو الوسيلة الوحيدة لمقاومة هذا الميراث ، وتكاد تكون كل شخصيات المجموعة موزعة بين فعلين، الركض الذي لا ينتهي، والنوم الذي لا ينتهي ، فيما عدا ذلك فالشخصية لا تمارس فعلا حياتيا سوى أنها تدخن، وتدخن وتدخن، وكأنها تحترق، وكأن الدخان دليل وجودها المتوتر بين الحركة والسكون، ويبدو أن هذين الفعلين يتقاسمان الشخصيات في لحظة واحدة، وكأنهما قوتان عاتيتان تتجاذبان الذات لتمزقاها. فقصة "حالة فصام" تبدأ بإشارة صريحة إلى الوجود المتوتر بين الحركة والسكون، فنجد: "لا يعلم كيف تحركت البركة الساكنة، كيف أنها ماجت بشدة وبدأت تنثر مياهها الساخنة.."، أن هذه العبارة الافتتاحية تنتهي بصوت داخلي يقول: "أريد أن أنـام وهو يعلم أنه أفاق للتو، وربما الذي حركه تلك اللحظة أكبر من أن يعيده كما كان قبل الآن، تلك الأزمنة الغابرة التي ركض فيها أبوه ، وركض هو من بعد، ولكن لا يعرف إلى أين...؟"
النوم.. الركض.. الدخان، ثلاثية تحكم أغلب قصص المجموعة ، وتظهر بتنويعات مختلفة ، فتجعل المجموعة أقرب إلى رواية صغيرة أو قصة طويلة، ومن ثم فمع كل صفحة تنتقل إليها يتكاثف لديك شعور واحد ، مخيف ومرهق، ويظل يتكاثف حتى تشعر فعلا أنك في كابوس لا تفيق منه، وهذه البراعة والقدرة على تصدير شعور الشخصيات القصصية إلى القارئ ، تأتي عبر لغة غاية في الشفافية، تراهن على المشهدية البصرية عبر صور تتداخل فيما بينها في تشكيلات لونية وحركية بينما لا نسمع إيقاعات صوتية إلا نادراً ، وكأننا أمام أحد مشاهد السينما الصامتة.
أن مساحات عميقة من الصمت تؤسس لجماليات الكتابة في هذه المجموعة، لتمنح القارئ فرصة الإنصات بدقة إلى دواخل الشخصيات والتي هي في الحقيقة شخصية واحـدة تتعدد أبعادها وكل بعد جديد لا ينفى الأبعاد السابقة بل يؤكدها ، وهكذا تبنى الشخصية عبر ركام من التفاصيل الصغيرة، لتكون في النهاية ثلاثية الأفعال الحاكمة، فالنوم يظهر بتداعيات أخرى مثل الدوار، الهواجس، أحلام اليقظة، والدخان يظهر في تداعيات مثل الألوان الرمادية، والسحب الداكنة، والطرقات الضبابية وهكذا.
ومن الملاحظ أن القصص لا تحتفي بالتنويعات المكانية، فأغلب القصص تدور في الحجرات ولا سيما حجرات النوم، فيما عدا إطلالات عابرة على الخارج اللصيق بالبيوت كالحارات الضيقة التي تتكرر كثيرا، أما الحجرات فهي بلا ملامح خاصة ولكنها عادة تشبه الكهوف أو المقابر، وهكذا يتجادل المكان مع باقي مفردات العالم القصصي على نحو يؤكد ذلك السقوط المخيف ( استمر فوق فراشه يئن بحلم يقظ ، تملؤه رائحة الغرفة العالقة منذ زمن بالوسادة، لم يكن يشعر بأي شيء وكان جسده هادئا كما لو أنه يريد أن يلبث هكذا حتى الموت، ولم يكن أكثر من هذا الشعور المدمر بالخوف وفقدان الحياة ، انبطاحة سهلة مدت جسده ببذخ على السرير بينما ترتفع من رأسه أصوات خافتة تئن متوازية مع أزيز غامض يدور في جوف رأسه ).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى