د. سامي عبد العال - الخطاب وإنتاج المعنى... مشكلة فلسفية

من حينٍ إلى آخر، تتصايح حناجر البعض بضرورة تجديد الخطاب الديني، ويرى آخرون أهمية تجديد خطاب التنوير، بينما يؤكد سواهم على مراجعة خطاب الفكر، حتى غدت الأصوات بضائع راكدةً على أسنة المنابر والمنصات العامة. كأننا في ورشة لغوية ضخمة بحجم الحياة تجاه الثقافة التي لم ولن تستقر. وقد يكون مطلوباً هذا التجريب والتمرين الواسعين على الذوات المتعقلة، غير أنَّ هذا يجري دون معرفة كيف نتحدث عن الخطاب، بالوقت نفسه الذي نتجه خلاله إلى قوة غائمة ومتواريةٍ خلف ركام الحياة، فقط نناشدها، نرجوها، نتضرع إليها، ننتظرها لأجل عمل ذلك. ولم تحدث محاولات مبتكرة لكسر طرائق التعامل مع الفكر واللغة معاً. فغدت مسألة التجديد- مثل الحرية والعقلانية والديمقراطية والتطور- مناجاة وطقوساً عبثية تستدعي أرواح الغابرين في الشرق والغرب. وبات قدح زناد العقل نوعاً من النداءات التي لن تجدي شيئاً كعبادة آلهةٍ لا تسمع ولا تُبصر.

لكن الفلسفة كفن للسؤال لديها حساسية قوية المراس تاريخياً وثقافياً حيال المشكلات، هي تضع أصابع نابضة بمصير الفكر على قضايا الحياة. فما بالنا إذا كانت قضية اللغة هي موضوع النظر والتقصي!! ليس هناك ما يمنع التفلسف من مباشرة مهامه قدر ما تكون السذاجة هي سيدة الموقف، وأنَّ وضعاً خطأ للقضية قد يجعلها عصية على الحل. إذن.. كيف هي مسألة الخطاب ابتداءً؟! وما هي إمكانية التعامل مع أفكاره؟ وماذا عن الوعي بأبرز قُوى اللغة؟!

ربما لا يُجدِي أيُّ تعريفٍ جاهز عندما نكُون بصدد الخطاب وانتاج معانيه. حيث لا تعريف هنالك في الغالب دون تحديدات مسبقة؛ أي دون معرفة تقيدّه، لعل الأهم هو انفتاح الفهم بلا قيودٍ سواء أكان من جانب تكويناته وتاريخه أم عمليات تأويله. فالخطاب يمثل أبنية لغوية ترتبط بسياق التواصل ومتغايرة أشد التغاير عكس ما نظن. كما أنَّ التعريف المُحدد قد يُقلِّص مفهومه حاصراً إياه في زاوية ضيقةٍ. أليس التعريف حدّاً مانعاً لسواه برأي علماء المنطق؟! عندئذ سرعان ما ندرك أنَّ هناك شيئاً أكثر رحابةً إزاء تحولات الخطاب. لأن كل خطاب( من أقصاه إلى أدناه ) تعتريه تحولات عميقة بحكم اللغة وفائض المعاني، فهو شيء أبعد من رص عبارات اللغة بجوار بعضها البعض كقوالب حجريةٍ، لدرجة أنه حتى مع وجود القيود، سيُثار الخيال الثقافي مثلما تطفُر المعاني فجأة ببلاغة الألفاظ والعبارات.

ـــ 1ــــ

يتطلب الخِطاب باختلاف مجالاته حاسة ثامنةً وتاسعة وليست سادسةً فقط. سْمِها ما شئت عكس المتعارف عليه. ذلك لأنَّه يفترض إحساساً بميلاد اللغة عبر أدق التفاصيل. واللغة تُولد سريّاً- بالرغم من كونها على الملأ- حيث المعاني المتجددة عبر جوانب الثقافة. إنَّ صياغة العبارات الدالة لا تقل عن ميلاد أي كائن حي له مخاضه العسير وحياته المتغيرة. فالمعاني المختلفة لا توجد هكذا واضحة وتامة على قارعة الثقافة... وإن كان الجاحظ في كتاب " البيان والتبيين" يؤيد هكذا فكرة باعتبار أنَّ المعاني مشاعٌ في الطريق يستحسنها العربي والعجمي والحضري والبدوي والقروي. لكن هناك جذوراً بعيدة وتفاعلات دلالية ليس أكثرها التلقي المباشر فقط. ولذلك يعقب الجاحظ أن المعاني في الشعر تعول على جودة اللفظ وقوة السبك وتخير الكلمات وصحة الصياغة وسهولة المخرج، فإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير.

لعلَّ الصياغة تشكيلٌ( فاعلية سبك) للكلمات بحيث تُتاح عبارتها لاستعمال جديدٍ. وتظهر في الواقع كدوالٍ حيةٍ مفتوحةٍ على المستقبل. بذات الوقت يُتَوقع في محيطها أنْ تضيف إمكانيةً لم تكن مطروقة. لعلَّها إضافة غير مُقدَّرة في جوهرها بسبب وجود أطراف عدةٍ في حركة اللغة. وبخاصة أن أية لغة ليست أحادية ( ممارسةً وتاريخاً ) إنما لا تُفترض آثار اللغة إلا بافتراض جماعةٍ ثقافية ما، أي توجد هناك جماعة تأويلية تحقق وجوها معينة لنشاط اللغة والفكر. حيث يسهم كلٌّ فيها بدرجةٍ أو أخرى كشأن عملية التواصل التي لا تتم فردياً، بل لابد من وجود آخرين. ففي التواصل يتوقف معنى الكلام على ما يطرحه الآخر، وعلى ما يفهمه، وعلى ما يصوغه. وإذا كانت تلك العملية نسبيةً حين يتواصل فردٌ مع غيره، إلاَّ أنها تضم تاريخاً وأفعالاً ثقافية خارج نطاقها، بل يراقبها المجتمع دونما أنْ يشعرَ الفردان في إطارهما المحدود.

اللغة نظام للتعبير وفق قواعد مرنة من خلال خلفيات الكلمات وصياغتها. وهي بذلك أعمق نظام إنساني يخترق عقول الأفراد بلا تفرقة، موضِحاً الرابطة القابلة للتداول ومُبرزاً الدلالة علي الأشياء والمعاني كما تتداول ثقافياً. ومع جوانب اللغة هناك المخاطَّب دوماً، هذا المتلقي للرسالة مهما يكن وضعُه. إنَّه النقيض والمشابه، الغائب والحاضر، الجمع والمُفرد. هو الرغبة بمجمل تقلباتها. فاللغة تطرح درجات للرغبة بما هي معرفة، بما هي حوار، بما هي هيمنة بواسطة التعبيرات على نحو غير مباشر.

والخطاب -من تلك الجهة- قدرة على الابلاغ وإيصال ما لم يكُن ليصل بسهولة. ومن ثم ينفتح المعنى ليشمل تبايناً وثراءً غير قابلين للاختزال. لأنَّه وليد هذا الصراع المنتج داخل سياقات الثقافة المتنوعة. إذ حينما ننشغل بمسألة نتحدّث إلى أنفسِنا. فيُقال- لو صادفنا أحد الأشخاص- يا للعجب... فُلان يكلِّم نفسه!! دلالةً على فقدان الانسجام ومكابدة التنازع نحو شيء ما. لهذا تتسع دوائر الصراع فردياً واجتماعياً من الأنا إلى الآخر ومن الآخر إلى الغير.

ولا يعني هذا اعتبار تلك الدوائر منفصلة(الأنا+ الآخر+ الغير+ النحن× الثقافة) لكنها دوائر وهمية الانفصال ووهمية الاتصال أيضاً. فاللغة تتيح إمكانية التداخل بينها بواسطة الحوار وتجاوز المسافات قلَّت أو أتسعت. كما أنَّ أصداءها تبقى داخل المعاني التي تُترك ضمن محيطها النشط. وإذا كانت ثمة تمييز بينها رجوعاً إلى اختلافٍ ما، فأنها تتشابك بقدر ما تتنوع. فالحركة قد تعبر عن صراع الخطابات طالما تعبر عن الانسجام من جهةٍ وعن الاختلاف من جهة أخرى. بلغة بور ريكور هناك تشابك خصيب للتأويلات حتى في أدق العبارات التي تحمل معنى نراه قريباً، فأي معنى مبني على نقائض وتحولات أخرى.

حيث تحتفظ صيغُ الخطاب مثلاً بمكونات الصراع وتمنحها فرصاً للظهور. هو ما يُعرف بقضية الفكر واللغة حين تتعدد الاتجاهات والرؤى. فالعلاقة بينهما كالعلاقة بين وجهي العُملة. إذا وُجِدَ أحدهما لا مناص من وجود الثاني وأكثر. إن اللغة فكرٌ منطوق والفكر لغة صامتة language is a spoken thought, and thought is a silent language. فهناك شيء معبر عنه على طريق المعنى. وتبقى اللغة على وعدها التاريخي بنقل المعاني حيث يؤثر الخطاب في الحياة الاجتماعية. فلم يعثر الإنسانُ طوال عصوره على نظامٍ أكثر بساطةً وتركيباً من اللغة. ولهذه الأسباب يطرح بها أفكاره.

  • توفر اللغة اتساقاً نسبياً وهشاً للفكر عن طريق صيغ الخطاب والنصوص. حيث يأتي المعنى معبراً من رحم التناقض دون القضاء عليه.
  • تعطي إمكانية للتفكير في الغائب، المجهول، المختلف. ولهذا يحاول الإنسانُ بواسطتها بناء عالمه، إذ أنَّ طرح الفكرة يُرهص بتحققها.
  • تضمن، ولا تضيّع، الموروثات التاريخية بأنماطها المتنوعة. وتمدِّد العمل بها في أشد الحالات انقطاعاً عن الماضي. لذلك ضياع اللغة معناه ضياع التاريخ.
  • اللغة إذ تختفي تُظهِر الأشياء والعلاقات والأحداث. فهي كالثقافة تعمل في خفاء كخفاء الموت لكنها( ولكنه) الإطار الوجودي لمعنى الحياة.
  • تتيح فرصاً لفهم وتفسير كافة الأنظمة الدالة الأخرى مثل الرموز والإشارات والعلامات والشفرات اجتماعياً ووجودياً.
  • تحقق تواصُلاً بين الإنسان وغيره أيا كان الاختلاف بينهما. وبذلك هي الحارسة - دون تكليف من أحد- لحركة المجتمعات ولمعاني الإنسانية.

    - 2 -
قد يُنظر إلى الخطاب على أنَّه تدبيج لكلمات منمقة كما هي تقاليد العرب. وأحياناً يُوصف بالكلام المغلف بالبلاغة خطفاً لآذان المستمع. أو كما يقول المتنبي "يُعطِيك من طرفِ اللسان حلاوةً ويرُوغ منك كما يرُوغ الثعلبُ". على هذا الطريق يجيء خطابا الفكر الديني والسياسي. هما خطابان كرنفاليان. الأول يحتفي بالحضور المقدس بفضل الرضا الإلهي على عبادِه أو هكذا يُردِّد. لذلك يرتبط اجتماعياً بالجموع وطقوس الطوائف وأصحاب المذاهب والنِحل. والثاني يحتفي بالمتلقين استناداً إلى تجاذب الرغبات وتوجيه اللاوعي العام.

الخطاب الديني يتذرع بالبلاغة كي يمتلك القداسة المفترضة التي يضعها صاغوه نصب العين والتلقي. لكننا سنجده في النهاية- كحال الكلام الديني الراهن- محض صور إنسانية مرصعةً بالأقوال المأثورة. ولن يفعل الكلام في النهاية غير ترك أثار الحضور المقوى لما يعتقد المتلقي. أما الخطاب السياسي فهو عجينةٌ بلاغية تتشكل مع الوهم الجمعي. فتبدو الكلمات كائنات تسعى مثلما سعت عصا موسى. الإشارة إلى هذين النمطين من الكلام لا يعنى حصر الخطاب فيهما غير أنَّهما يكشفان بجلاء استعمال اللغة بطرق مراوغة. كيف تُحقق المعنى وإلى أي مدى تتخلّق. ومع ذلك لا ندرك ماهية هذا التأثير بسهولة كما نظن. فلو تساءلنا كيف تتخلق فصول السنة، صيفاً وشتاءً وربيعاً وخريفاً، لن يدرك الإنسانُ إجابةً. لأنَّها تأتي من أعماق الطبيعة. ونحن ننسى ما هي الطبيعة لكوننا الشكل الحي منها.

في العادةِ نغْفل الكلام، ونُلقي به منصرفين حتى مع علاقتنا وجهاً لوجه. بيد أنَّه جزءٌ من ذاكرة حيةٍ. لعلَّه قابل للاستعادة متى كان الإنسانُ قادراً على ذلك. لقد أصبح حينئذ عُنصراً من كياننا، ولا نتوقع أيةَ إمكانية دونه. لو استطاع الإنسانُ المرور بما يُقال له وبما يتصوره وبما يجُول بخاطره، لأمكنه الحصول على تراكم لغوي غير متناهٍ. فأينما يذهب يواجهه كلامٌ آخر وراء الكلام، بل كثيراً ما يخضع لخطابٍ قيد الاتفاق الضمني. وحينما يهم الإنسان بإنجاز أمرٍ لا يفطن إلى أنَّه أمرٌ جاء في وثائق اجتماعية مخطوطة بعقول الآخرين.

وهنا يجب التنويه أنَّ الكلام والكتابة وثائق مدموغة في أرشيف الحياة اليوميةِ(أرشيف الثقافة). فأحداث الحياة تشكل - من أصغرها إلى أكبرها- وثائق بحروف ورموز نستغرق أزمنةً في فهمها. قد يستغرق شخص فيها بالتساؤل عما يجري حوله ولا يجد إجابةً، وربما يدور آخر معها بكثرة الثرثرة(هوس الكلام)logomania، بينما يطارحها شخص مختلف تبادلاً بالحوار والنقاش. وهناك غير هؤلاء من ينشغل بظلال الكلمات. إنَّ تفسيرات الدين، رؤى المجتمع، التراث، الأفكار، هي أحبارٌ سائلةٌ بين تلك الحروف، وهي مزيج من الخطابات التي تشكل أفقاً إنسانياً. فمنذ أنْ يخضع الكلام إلى رسالةٍ عامة يلتئم في محاولة لشمول المستمع، ويطرح أفقاً أمامه، وفوق هذا وذاك تستند صياغتُه إلى تاريخٍ من التصورات يتيح الوصول إلى غايتها. ولذلك ليس سهلاً بحال الخروج من متاهات القول بأفكار جديدةٍ ولا بمعانٍ مختلفة.

إذا كان ثمة خطاب مقدس(الكلام الإلهي) فهناك خطابات على منواله، كخطابات القوانين والأعراف والطقوس. وإذا كان هنالك خطاب مُراوغ والتفافي، كالشعر والنثر، فهناك خطابات إيقاعية تختزن موسيقى الحياة فرحاً وبهجةً. لو وجد خطاب صارم كالأخلاق والقيم، فهناك خطاب الحقائق إذ يحرص المجتمع على تعقُبها. وإن كان ثمة خطاب مهموس، كعبارات الشائعات والنميمة، فهناك كلمات النفس، تداعي الخواطر، معاني الخيال. أين اللغة من دون اللغة، أين الواقع من غير الوقائع؟! نقوش على أحجار عتيقةٍ، تسلخات وحزوز على لحاء أشجارٍ في غابة برية، رمية نرد تتراقص على كل الأوجه، ضربة ذيل على صفحات المياه لحيتان ضالة ومضطربة، قرقعة لهواء مكتومٍ يتنفس ويتسرب رويداً، آثار على رمالٍ تحت شمس حارقةٍ...، إنَّ ذاكرة التعبير بها كل تلك الصور والنقوش حتى وإن طواها الزمن. لأنها ستكون معبرةً لإنسانٍ ما يرسم بكلماته مسافة وعلامة لغيْرِه. فمكتوب بين عينيه كنظرات الموناليزا هنا يكمن المغزى، هنا ترقد أجداث الحقيقة. القضية من ثم نفس قضية منشأ الخطاب: أنْ ترسم مساحةً لآخر، أنْ تمنحه علامةً تقع منه على معنى لوجوده، هذا الوجود المادي أو الاجتماعي أو الفكري.


ـــ 3ــــ

أبداً ليست اللغةُ أداةً للتواصل فحسب، لكنها أيضاً كَوُن نتنفس خلاله وجودَّنا الحي. وأن هذا الكون الدلالي لا ينتهي في طياته وتحولاته. مثله مثل الحياه، مراحلَ وأزمنةً وبقايا وصراعاً وآثاراً. إذا أردنا التحدث فسرعان ما تمدنا اللغة بكلِ طاقات محتملةٍ ومذهلة. لأنها تعطينا مناسبةَ الحديث وزخم الفهم. اللغة هنا أكثر من مجرد ألفاظ بالمثل. عندئذ تعرفنا فكراً نعبر عنه وتختبر بالكلمات ما نعتقده يقيناً حين تُجسِده موضوعَياً خارج عقولنا. يجري هذا الأمر كما لو يري أصحاب اليقينُ أنفسهم لأول مرة منسلخين عن ذواتهم. لهذا سيجد اليقين نفسه قزماً وليس يقيناً كما كنا نمتلأ به. لنجرب مثلاً ترديد التصورات التي نعتنق صحتها بصوتٍ عالٍ، ولنسمع صداها مع ترديد العبارات. إذ ذاك ستفقد صلابتها، فاللغة تأخذ منا وتغذي الآخر داخلنا، هذا الذي ينازعنا الحقائق. وعندما ينطق الفكر أو يكتب أو يرمز إليه يتجسد عملاً. وضمن بناء الأفكار وتجسدها يتأرخ المعنى مع التعبيرات ويختزن امكانياته التي يَعد بها. وبواسطة الخطاب يتحول المعنى إلى لاوعي يصعب التحكم فيه. لقد تم تمثُله وتحوله إلى أصداءٍ، بالتالي يُمسِي قابلاً للانتشار مع عباراتٍ أخرى.

أما على مرمى الآخر البعيد، فتعد اللغةُ نظاماً رمزياً اجتماعياً، الخطاب أحد شفراته إذ يرمي بالأهدافِ(فردية وجمعية) حيث تُؤثِر. ويقع التأثير بمضمون المعاني الكامنة خلف العلاقات الإنسانية، لكأنَّما يجيء المضمونُ مؤشِراً وفاعلاً في عين الوقت. ومن هنا فإنِّ المعنى صُور تُضاف إليها مؤشرات أخرى مع التلقِي. فعندما نخاطِب شخصاً بوجوب مراعاة القواعِد الاخلاقية على سبيل المثال، يستهدف قولُنا تزامنَ الفعل عبر المضمون البعيد. ويستهدف ترادُف الدلالة على قبول القواعد، فضلاً عن سريانها إلى نهاية المطافِ. تبعاً لذلك، المعنى أشبه بنسيج اسفنجي يمتص الفهم والتأويل، ويعيد فرزهما مع ضغط الممارسة الاجتماعية، الثقافية، غير أنَّه يُثرِي تواصُلاً أياً كانت مستوياته، ويظل قادراً على البقاء طي التعبير.

ربما يكون القول(أي مراعاة القواعد الاخلاقية) كلاماً مُعاداً في غير مجالٍ، إلاَّ أنَّه بانتماء المضمون إلى المجتمع يكتسب هندسةَ القوى الفاعلة فيه. أي تلتقط المعاني توزيعات القوى واسعة الانتشار تماماً مثلما تكتسب الرياح قوى الضغط على خريطة التوزيع المُناخي. ألا نرى بلوناً هوائياً في سماء ملبدة بالغيوم، هكذا يسري الخطابُ، يسري توجُهه، ويترك بصماته. إنه نقش، إنه وَسْم على رقائق التعبيرات موصلةً الرسالة حيث يتهادى الهواء، يعصف، يعرْبد، يدوي... وقد لا يتوقف. فالخطاب من تلك الجهة يمثل مقصداً يأخذ تجلياته عبر التفاعل الاجتماعي. فهو الأرض الخصبة لنشوء الكلام ولإعادة بذره، وهو ذات التربة التي تنبت فيها أشجار الكلمات كأكمات ملتفة بالأعشاب. بالتالي لم يكن ممكناً التعرف على شيء، أي شيء، دون إنطاقه. بحيث يأتينا داخل شبكة من العلامات، ويتحول إلى حرف وصوت يأخذان مغزاهما مما يقال.

على سبيل التوضيح لم يكن المسيح حين ولد سوى كائن غُفل ومجهول بالنسبة للمحيطين به. وكم تمنت أمه أنْ تصبحَ نسياً منسياً كما جاء بالقرآن، لكنه تحول إلى خطابٍ حين نطق صغيراً. تكلّمَ عيسى بن مريم فأمسى علامة دالة: "فناداها من تحتها ألاَّ تحزني قد جعل ربُك من تحتك سريّاً"(مريم/24). ثم أصبح المسيح ذاته بمثابة حروف الخطاب للمتلقي مهما يكن اعتقادُه. لأنَّه تبرئة الأم مريم العذراء وحل اللغز الوجودي بات أمراً يخص الإنسان كإنسان. كيف تلد أنثى عذراء بدون ذكر؟! كان المسيح في الفكر الديني تعطيلاً وتنويعاً لنواميس الطبيعة البشرية والكونية معاً. من ثم جاءت الحادثةُ في حاجةٍ إلي خطاب مختلف، إذ لابد من النطق لأنَّ الطفل آية دلالية قيد اللغة.

وإنْ جاء الكلام من كائن مولود تواً، فالكلام الموجه للأم يتردد منذ الأزل فيما يبدو. أليس الله هو القائل بالسر، بجعل السر من تحتها؟ أي بصيغة الاستفهام: من ولماذا و ما ماهيته؟ ويذهب نفس الكلام إلى الأبد أيضاً بحسب الإيمان المترتب على القول. وعلى الرغم من أنَّ المناداة( وناداها من تحتها) تجاه الأم بالإفْرَّاد، غير أنَّ كلمات المسيح كانت موجهة للبشرية بصيغة الجمع الأنطولوجي بحكم أنه لا يوجد كائن دون علة من جنسه. فاللغز يهم الكائنات بلا استثناء حتى خارج الإنسان. إذن بموجب تلك القضية البسيطة( لا كائن دون أصل يبرر وجوده) كانت النتيجة على درجة من الخطورة كخطورة كسْر الناموس الطبيعي. وكان كلام المسيح نطقاً واستنطاقاً ثقافيين في الوقت نفسه. النطق من جهة التكلُم، لأنَّه لغة مفهومه على مستوى الابجدية المتداولة بمنطوق "ناداها".

هكذا جاءت المناداة بأساليب الكلام الاعتيادي، بدليل فهم الأم للتعبير وتواتر معاني الحزن كما فهمتها وفهمها المسيح الطفل( كما نطق). بينما مستوى الاستنطاق فهو الخطاب، لأنَّه يستنطق تاريخ الإنسانية وموجه إلى مستقبل الإنسان. وعلية سيكون كلام المسيح جديداً كذلك على أنماط الكلام المعروف للإنسانية، كيف تحدث من في المهد، بأية لغة؟ هل توقعنا فهماً له؟ بأي معنى سنحمله؟! من هنا كان المسيح هو الكلمة (في البدء كان الكلمة).

ـــ 4ــــ

من جانبٍ آخر، عبر تداخل الوسائط المعرفية بمعناها الثقافي، ومع حيل الطرح وأساليب التلقي، أصبحت آفاق الخطاب من أفعال اللغةِ. تلك اللغة الحاضنة لأخيلة الإنسان ونتاجاته. إنها العبارة والعلامة المشحونتان بأطياف القُوى لممارسة هذا الأثر في سياق تداولي pragmatic. وعليه فقد أخذ الخطاب أهميته على أهمية اللغة في حمل الفعل الإنساني خارج ذاته. فالعادات والتقاليد خطاب، العلاقات الإنسانية خطاب، الممارسة الحياتية خطاب، الفعل السياسي خطاب، ملامح الوجوه خطاب، الإفراز النفسي خطاب... إلى غير ذلك.

ها نحن في غير موقف نذكر جانباً خفياً من الكلام. وحرصاً على العناية به للتعامل مع الآخرين، نتحسب لنتائج حواراته مع الوقائع ومع تراكمه اليومي. ألسنا ننجز أعمالنا بأفعال الكلام، ألا تظل اللغةُ حاضرة حضوراً صامتاً؟! إذن يعتبر الخطابُ نطقاً للصمت، توجيهاً لشراع الفكر حيث يتفاعل على أكثر المستويات تأثيراً. فهناك مستوى التعبير إذ يحيل الخطاب إلى وسيط نكاد نلامسه مع المتلقي. ويُشار إلي التعبير على أنَّه جسد( لحم) اللغة flesh of language بالنسبة إلى المتلقين. هل يُفهم الكلام والكتابة دون جسد؟ لا يعني ذلك أنَّ التعبير هو الجسد فقط طالما أنَّ المعنى بمثابة الروح لو تصورنا ذلك. لكنه، أي التعبير، هو المادة والروح يداً بيد كعجينة واحدة. كذلك يوجد مستوى العلامة من اللغة، فالتعبير إذ يغدو مادةً بروحٍ وروحاً بمادةٍ ينتج الدلالة، ويمثل مخلباً بلاغياً له ماضيه وأنماطه في السياق الثقافي. لكل سياق مخالبه التعبيرية داخل المجتمع. وهي التي تنتزع صور التواصل ويجري فهمها ضمن الواقع المعيش. حتى إذا ما رأينا رُسوماً مع تأدية الخطاب، فإننا نعرف مدلولَ العلامة وكيف تفيض بما ورائها. من ثم يكون الخطاب أداءً بذات الدرجة التي كان بها عبارة ومعنى. فهذا المستوى المسرحي - إن جاز الوصف- لا يقل خطورةً عن غيرهِ.

وإذا كنا نحسب الخطاب نطقاً لحروف موضوعية فهذا محض تشويه. لأنَّه لا ينفصل عن فاعلية الأداء activity of performanceالمصاحب والمنتج للمعاني. وقد يجرنا هذا المستوى إلى اللهجة الخاصة بكل مجتمع على حدة. حيث لا تدل اللهجات بالضرورة على اللحن في النطق، لكن اللحن في المفاهيم والإجراءات المنطقية وطرح التبريرات كذلك. فكل خطاب يقف على عمليات من الأداء التمثيلي جنباً إلى جنبٍ مع النطق. وارتباط الذاكرة العربية بالشفاهية orality، إن لم تكن هي الحاضنة الأولى لها وما زالت، معناه الوقوع في أسر الأداء. إنَّ الحكي والسرد لا يقلان دلالة عن مبنى الكلمات وثراء المعاني. فهما اللذان قد يجعلان الخطاب نافذا كسهمٍ لا يفقدُ هدفاً.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى