د. رسول محمد رسول - رؤية جان غرايش لخطوط التأويل كما يريد قولها للعرب

أخيرا يمكننا كقرّاء عرب معرفة خطوط التأويل عند المفكّر والمؤرخ الفرنسي جان غرايش (Jean Greisch) المولود في سنة 1942 عبر ترجمة، سُعدنا بها جميعا، تلك التي قدّمها للقارئ العربي المترجم التونسي الدكتور فتحي إنقزو ونشرت ضمن سلسلة "تأويليات" في مؤسسة مؤمنون بلا حدود التي يشرف عليها الفيلسوف التونسي محمد أبو هاشم محجوب وبمراجعته تحت عنوان (الكوجيتو التأويلي/ التأويليّة الفلسفية والإرث الديكارتي) = (Le cogito herméneutique)، وهو كتاب ثر وعميق بقلم هذا المؤرّخ العملاق الذي أغنى المكتبة الفرنسية والعالمية والعربية بهذه التحفة والمترجم التونسي المجتهد فتحي إنقزو خدمة للقارئ العربي.
في هذه النشرة بالعربية لواحد من نصوصه عن التأويل حرص فريق الترجمة على أن يكتب جان غرايش "تصديرا" لها حرصاً منه على تواصله مع القارئ العربي في ترجمة متونه الفلسفيّة إلى اللغة العربية. في ذلك التصدير قدّم غرايش خريطة لبحثه في مسارات التأويل الذي درسه في هذا الكتاب، فما هي هذه المسارات؛ في ضوء هذا الكتاب والأعمال التالية؛ التي كتبها في شأن التأويل؟
المسار الجديد للهرمينوطيقا
يحاول غرايش الربط بين الفلسفة الحديثة والهرمنيوطيقا وعنوان هذا الكتاب دليل على ذلك، فهو يرى أن الهرمنيوطيقا في القرن العشرين اتخذت مساراً جديداً كون الهرمنيوطيقا لم تتحوّل إلى "منوال فلسفي إلا في القرن العشرين" وهي فكرة ذهبية؛ فهناك:
التصوّر الأول الذي يسميه "الهرمنيوطيقا على طريقة الألمان" وهو تصوّر يسير "في ركاب التأليف التاريخي"، وهو ركاب كان الألماني فلهلم ديلتاي (1833 - 1911) وضع خطوطه الكبرى عبر ما كتبه في مقالته "أصول الهرمنيوطيقا" في سنة 1900. وفي هذا المجال كان ديلتاي ينطلق من مارتن لوثر (1843 - 1546) في إحدى مقالاته، كما أنه منح منزلة لفردريك شلايرماخر (1768 - 1834)، ودشّن أبستمولوجيا علوم الروح، وهو ما أثر في مارتن هيدغر (1889 - 1976) لكي يغيّر مفهوم "الفهم" بحيث صار الفهمُ "وجود مقوّم للوجود في العالم/ للدزاين"، ومن ثم التأثير في هانز غدامير (1900 - 2002) الذي نظر في هذا المنعطف الكبير للهرمينوطيقا وكتب فيه.
الهرمينوطيقا لدى الفرنسيين
في ضوء ذلك جاء التصوّر الثاني وهو "الهرمنيوطيقا على طريقة الفرنسيين" وفيه نظر غرايش بالحالة الهرمنيوطيقية فوجد أنها تنطلق من الحالة الديكارتية نسبة إلى الفيلسوف رينيه ديكارت (1596 - 1650) في تأمُّله الفلسفي، وهنا علينا تذكّر مان دو بيران (1766 - 1824)، ويوهان فشته (1762 - 1814)، وسائر الفلاسفة الفرنسيين الذين ظهروا في القرن العشرين، أولئك الذين ساروا في ركب فلسفة إدموند هوسرل خلال القرن العشرين..
والتصوّر الثالث هو "الهرمينوطيقا على الطريقة الإيطالية" وفيها لويجو باريسون وكتابه (الحقيقة والتأويل)، وتثمين قراءة التأويل في القرن الماضي الذي مرّ بأطوار عدّة هي نفسها ما مرّ في عشرينيات القرن العشرين:
الطور الأول وفيه انشغل غيورغ ميش (1878 - 1965)، صهر ديلتاي ووريثه، بالوجيهة التي تجمع الفينومينولوجيا الهوسرليّة مع فلسفة الحياة.
وقد كان مارتن هيدغر ابتدأ بإعطاء الفينومينولوجيا الترنسندنتالية لمعلّمه وجهة أكثر تأويلية عندما اصطنع من الفينومينولوجيا علماً أصلياً بالحياة ذاتها أو ما أسماه "هرمينوطيقا الحياة الحديثة".
وإذا كان غرايش تحدّث فيما مضى عن عشرينيات القرن العشرين فإنه سيتحدّث عن الطور الثاني في الستينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وقد عرفت التأويلية رياحاً مؤاتية مثلما بيّن ذلك الدور الذي لعبه هانز جورج غدامير وبول ريكور (1913 - 2005) حيث استجد في البحث علاقات جديدة مثل: "الهرمينوطيقا ونقد الأيدولوجيات، والهرمنيوطيقا والبنيوية، والهرمنيوطيقا والتفكك، وبين الأيديولوجيا واليوتوبيا".
ميشيل فوكو
ثم يضيف طورا آخر "الطور الثالث" فيفترض وجود في فرنسا على الأقل "هرمينوطيقا للآنيّة" لدى بول ريكور، و"هرمنيوطيقا للذات" عند ميشيل فوكو (1926 - 1984)، وتاليا عند كلود رومانو، وجاكوب روغوغوزينسكي، وهي إضافات مهمة. ولكن ماذا عن ممثلي التأويل في نظر غرايش؟
يعد لنا الأسماء التي اشتغلت بالتأويل وهم: جان غروندان، وكريستيان برنر، وديني توار، وجان – كلود جان، ويعود غرايش إلى نفسه لمعاينة ما كتب في هذا الاتجاه وهو الذي له أربع مجموعات من التآليف التأويلية هي:
الأولى: تتألف من أربعة أعمال سعت إلى تقويم الإسهام الذي يمكن أن تقدمه فلسفة تأويلية ذات استيحاء فينومينولوجي إلى سائر الفنون الفلسفية؛ فلسفة دين، الأنثروبولوجيا الفلسفية، اللاهوت الفلسفي، الإيثيقيا.
والمجموعة الثانية فتتألف من أعمال توحي التراكيب اللفظية التي جاءت في عناوينها بأن الأمر يتعلّق في المقام الأول بما اصطنعته لنفسي من فكرة للفلسفة ولمهماتها الراهنة، على حد تعبيره، ومن ثم يعدِّد عناوين مؤلفاته الفلسفية، خوصا في الدين والتأويل.
إن تجربة الكتابة عن مشروعاته الفلسفية ونشأت الدين للقارئ العربي تبدو مهمة جدا تلك التي كتبها جان غرايش في تصديره لكتاب ((الكوجيتو التأويلي/ التأويليّة الفلسفية والإرث الديكارتي))، فطوبى لك وطوبى لأصحاب مشروع (تأويليات) في مؤسسة مؤمنون بلا حدود، وهو الكتاب الذي يتناول كل هذه الأطروحات التي تذاكرنا بها في هذا المقال.



1614165854708.png



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى