د. عادل ضرغام - الانقطاع الجزئي وتداخل العوالم في "قهوة بوتيرو" للقاص حسام المقدّم..

في فترات متباعدة نتيجة لسياقات حضارية محددة تتأثر بعض الأجناس الأدبية بالسلب بالرغم من التسليم بأهمية وجودها، وأهمية دورها الفعال في التقاط الغائر المخبوء في نفوسنا. في هذه الفترات يصبح الحديث عن جدوى النوع حاضرا، وعن قدرته على التواجد والاستمرار. فالقصة القصيرة بالرغم من كونها مستعصية على التحديد في إطار شكل وحيد هي الفن الأكثر ارتباطا بالحياة، لأنها تنطلق من الجزء بتجلياته المختلفة، ولكنها ترصد من خلال هذا الجزء قطاعا طوليا يحتوي على رؤية شاملة بالغة النفاذ للجوهر الخاص بالحياة. هي فن المفارقة التي تطهر وعينا، من خلال عرض وتشكيل التناقضات في لمحات خاطفة، فهناك لحظات محددة في حياة أي فرد، تظل عالقة ومؤثرة فيه، فهذه اللحظات الكاشفة هي موضوع القصة القصيرة، ومناط اهتمامها، ومن ثم فهي ليست مشدودة للحكاية، وإن كانت تنطلق منها، وإنما مشدودة إلى اللحظة البارقة التي تجعلنا نعيد الترتيب، ونعيد إدامة النظر والتأمل، لأنه ربما يكون هناك شيء أكبر من هذا المكتوب يتوارى خلفه يحتاج مزيدا من المقاربة.
الفارق بين القصة القصيرة والرواية في إطار تلك الجزئية ليس فارقا كميا، ولكنه فارق في الدرجة والحدة، فالرواية نتيجة للتنظيم المحكم تجعل تلقينا فيه نوع من الدعة والسكون العقلي، حيث يستثار فقط في لحظات محددة مفصلية، ولكن التلقي في القصة القصيرة أقرب إلى انتباه دائم ويقظة مستمرة، لأنه مطالب في إطار العالم الجزئي الذي يشبه الجرح المنفتح أن يعيد تشكيل الكيان كله منتبها من خلال مساءلة الظلال والنتوءات التي يمكن أن تبرق في لحظة ما أثناء عملية القراءة.
قارئ القصة القصيرة يجب أن يكون واعيا بتاريخ الشخوص أو الحدث أو الفكرة المقدمة في القصة بالرغم من كونها جزئية، دون أن يقدمها الكاتب على نحو متدفق، بشكل مباشر فيه نوع من الترتيب. وأن يدرك بالرغم من هذه (الجزئية) وذلك (الانقطاع) الطولي للحظة وتمدد أثرها طبيعة البناء العقلي ومنحاه الفكري، ولهذا يقول أحد النقاد(قراءة الرواية تعني السكن في منزل كامل مملوء بالغرف، وفي المقابل قراءة القصة القصيرة تعني المبيت في غرفة فندق مخيفة قد لا تتعافى منها أبدا).
الانقطاع الجزئي
القصة القصيرة أشبه بلحظة تتشكل دون تاريخ أو دون ارتباط وثيق بلحظات سابقة، والقارئ عليه أن يستمر في لهاثه حتى يستطيع الاقتراب من تلك اللحظة، ويعرف طبيعتها وتفاصيلها، وأن يصنع لها تاريخا، استنادا إلى إيماءات خاطفة، أو إلى مرشدات دالة. فالقارئ يدخل إلى القصة القصيرة بشكل جانبي ومفاجئ تحدده طبيعة النوع، من خلال جزء منفتح كاشف يدلل على لحظات ماضية من جانب، ومن جانب آخر يخطط مسارب الحركة للقادم، وعليه من خلال ذلك أن يصنع تاريخا ووعيا لحظة القراءة.
في مجموعة (قهوة بوتيرو) هناك تهشيم للترتيب النمطي للأشياء بداية من تداخل العوالم، ومرورا بغياب المحددات النمطية مثل البداية والعقدة والحل بكامل تجلياتها، وانتهاء بوضع القارئ في قلب البؤرة أو الحدث أو النتيجة، وتركه لاهثا لاستبيان ملامح ذلك الحدث وتلك النتيجة، فهي تضعه على حافة الجرح، ولكنها لا تخبرك كيف حدث الجرح بشكل مباشر بل تتركك تجاهد للوصول إلى مسبباته دون ترتيب واضح.
والجرح هنا –في المجموعة القصصية- في جانب من جوانبه جرح الأسئلة الوجودية، هذه الأسئلة التي تستند في الإجابة عنها إلى الحدس والخيال والسرد، لأنها إجابات- أو تمويهات لتفادي جدار العجز- لا تستند إلى حواس وإدراك، وإنما تستند إلى فرضية حدسية أو فرضية سردية خاصة، مثل قصة (حقيبة الروح)التي تعيدنا بالضرورة إلى محاولات كتّاب سابقين في محاولاتهم تكديس الروح والإمساك بها، ولكنها تاخذ طريقا مغايرا، حيث تبني القصة استراتيجيتها على ثنائية الجسد والظل، وتصورهما منفصلين( الرجلان ماشيان بالفعل وفي تمام التوازي. لا تنتهي الحال إلا بحاجز شيء ما، طفل أو دراجة أو تكتوك).
وفي تصوير القصة لهذه الثنائية ندرك أن هناك قسيما أو نمطا لا علاقة له بالعرف أو الاجتماعيات المعهودة، ففي القصة هو لص، ولكنه لص من نوع خاص يجيد الإنصات لموسيقى الوجود، وحديث وصوت الروح وهمهماتها الحائرة. والقصة لا تبقي على تلك الثنائية، وإنما تتوقف وتستند إلى الظل الذي انفرد بالحقيبة حيث تتبدى- بوصفها مدركا ملموسا تتباين درجة الوعي به بين الإنسان العادي والكاتب الظل ذي السمات المختلفة- في إطار وعي آخر، فالحقيبة التي كان يحملها الإنسان العادي تتحول في إطار هيمنة وعي الظل إلى كيان له روح، روح الحيوان الذي صنعت منه، فوجودها- أو الشعور بوجودها- يشير إلى مقاربة مختلفة تحتفي بالوحدة والمساواة بين الكائنات فضلا عن هز فكرة التمايز والانفصال، فروح هذه الكائنات تظل حاضرة وفي سعي للظهور بالرغم من الدباغة وجودة الصناعة والتحول، وتظل الروح تسري بها كاشفة – على حد تعبير النص القصصي- عن عنزة سوداء مرقطة، أو عن بقرة تتغندر.
بناء القصة القصيرة في قصص المجموعة ليس بناء طوليا ممتدا، هو بناء عرضي جزئي أشبه بالنتوء أو البروز أو الحدث الجلل الذي يجعلنا نعيد التفكير في الماضي بشكل خاص، ونتلقى القادم بوضعية مغايرة. هي نتوء بوضعه الخاص يشكل جزءا من الشجرة، ولكن له خصوصية الوجود المختلف الظاهر للعيان، ومن خلال تأمله يكون لدينا وعي حاد عن الشجرة، وعي يوحي بالحالة، ويشير إليها. ومن ثم فحسام المقدم في قصص هذه المجموعة ليس معنيا بتقديم وعي كامل، لكنه فقط مهتم بتقديم وعي مفتت يرتبط بتلك النتوءات البارزة الكاشفة عن الوحدة في إطار التعدد.
تصدق على هذه المجموعة مقولة الكاتبة الأمريكية مافيز جالانت التي صدرت إحدى مجموعاتها القصصية بقولها اللافت للنظر: (لا تقرأ كل قصص هذه المجموعة دفعة واحدة، يمكن أن تموت. فهي ليست علبة شكولاتة، وحتى علبة الشكولاتة تجعلك مريضا(...) ولا يمكن أن تقرأها في السرير، لأنها ضخمة ستقتلك)، لأن كل قصة فيها مشدودة إلى جزئية معرفية مرتبطة بالقصص الأخرى حيث هناك خيط رفيع يجمعها، يرتبط بآلية المقاربة، وزاوية النظر إلى العالم، وفي رصد الكاتب لهذا العالم يرصده في وجود اتكاء على توجهين: التوجه الأول يرتبط بفكرة الجزئية والانقطاع عن السابق، فالشخصيات تتجلى في لحظة آنية دون تاريخ سابق، إلا من خلال اندفاع كاشف لإضاءة اللحظي والآني وخطوطه المعرفية.
والأخير يرتبط بمقاربة موضوعات غير ناجزة وغير محددة ومدركة إدراكا حسيا، فهي أشياء تولد وتنمو وتفرّ وتتحرك وتموت، مثل الحب ومحاولة الإمساك به، كما في قصة (عباءة تسع طيور العالم)، وقصة (الضوء الأبيض)، أو مثل الموسيقى والغناء كما في قصة (نجوم صغيرة فوق نافذة فايزة أحمد). ففي القصة الأخيرة لا يهدف البناء القصصي إلى تقديم حكاية كاملة أو يصور جزءا من القصة، وإنما هناك محاولة للإجابة عن السؤال الآتي ما الذي يفعله بنا الغناء أو ماذا تقدمه الموسيقى للإنسان لمقاربة عوالم هلامية سابحة؟ فالقصة تلتقط سلسلة من الإيقاعات والحركات والخيالات التي تولدها الموسيقى والغناء.
وفي ظل ذلك الهدف تتجلى الشخصيات تجليا خاصا، فالشخصيات هنا ليست إلا وسائل لتنضيد الهدف، وتهيئة المناخ، وإيجاد المشروعية لتحقيقه من خلال اصطياد ذلك الطائر. وإذا كان الهدف غير مادي فالقصة كلها تبنى وفق هذا التصور الزلق. يكشف عن هذا المنحى بداية التعرف الأولى بآمال في قولها له في تدريبه على الغناء( خذ بالك.. نحن في الغناء نمشي على الحبل، وفي الوقت ذاته نستمتع بالمشي)، أو في قوله- أي الراوي-(أحببت هذا الإحساس بوجودي في طبق طائر يدور بي ويرجني). القصة في الأساس تحاول الإمساك بالمتفلت الذي لا تعرف حدوده، ذلك الوهج المتولد من الأغاني، كنز الخيال الذي يزلزل الأماكن والأزمنة، ومن ثم تتجلى شخصيات القصة بوصفها أدوات للإمساك به، والانجذاب إلى هذا الشيء، والوصول إلى الدوائر المغوية، لأن الغناء بوابة للحياة الجانبية التي تستمرّ على الدوام، نصنعها بأنفسنا مهزومين أو منتصرين.
في قصص المجموعة هناك إلحاح على تشكيل انقطاع عرضي شبيه بالجزء الذي يكشف من خلال التحليل الميكروسكوبي عن خصائص الكل ومكوناته. ففي قصة (عبور استوائي) يشعر القارئ أن هناك تغييبا للتاريخ السابق للشخصيتين، وكأن هناك انقطاعا عن السابق، يضع القارئ في عمق اللحظة الآنية التي تلحّ على كونها نتيجة لتاريخ غائب يلفه الغموض. فالدكتورة أنسام- طبيبة الأسنان- والراوي الذي لم يذكر اسمه يتواصلان من خلال نافذة وسائل التواصل الاجتماعي للإشارة إلى تجذر آني دون تاريخ أو ماض، ويتمّ تجسير فراغات هذا التغييب من خلال قدرة الكاتب على الكشف أو التنقيط المحسوب لإضاءة التاريخي المفقود لدى كل قسيم. فقيمة القصة القصيرة تتولد بوصفها انقطاعا عن السابق، ولكنها-نظرا لطبيعتها- تظل تشير وتوحي بهذا الفقدان، وكأنها تبرّر هذا النتوء الذي يهشم الاستواء والنمطية البنائية. فالقصة تشكل لنا عالما يعتبر نتيجة لتاريخ طويل ممتد للشخصيتين، ولا تتوجه إلى هذا التاريخ بشكل مباشر، وإنما من خلال كلمات موحية منفردة زلقة، ولكنها كفيلة بوضع القارئ في سياق معرفة مستنبطة شبه غائمة عن هذا التاريخ السابق.
والانقطاع الجزئي الذي تشكله قصص المجموعة يمثل حدثا فارقا بين حياتين، حياة تسبق الحدث، وحياة آنية ممتدة ليست ساكنة تظل متأثرة به، من خلال التكرار الدوري لهذا الحدث مع كل فعل قريب أو شبيه. والحدث الذي يشبه النتوء يصبح محور الاهتمام ويغيّر وتيرة الحركة والنزوع والتفكير، على نحو ما يمكن أن نرى في قصة (محاولة جادة لقراءة الكف)، أو في قصة (الثلاثاء بالأبيض والأسود). وفي قصة(الأقفال) يدرك القارئ أنه ليس أمام حكاية كاملة أو تامة الأركان والأجزاء، وإنما أمام جزء حيوي حياتي معيش يرتبط بمعاينة المترسب من رماد الاشتعال السابق وتصوير وجوده واستمراره حيا، وكأن كل تجربة يمرّ بها الإنسان تترك أثرا لا يمحى، خاصة إذا كانت هذه التجربة تحمل ملامح خصوصية، فيظهر أثرها في النزوع والحركة. القفل هنا معادل ارتباط دائم بين شخصين يحمل حرفي اسميهما ومفتاحه يتم إلقاؤه في المياه، فربط القلبين الدائم يمثل صورة من صور التوحد لمباينة التفكك المعيش. القصة لا تقدم ملامح خاصة أو سيرة ممتدة، فقط بعض الرؤى التي تمكّن القارئ من استجلاب الحالة والدوران في إطارها مثل الخيال والحلم والتشابه مع يوسف الجندي مؤسس جمهورية زفتى أبان ثورة 1919 بالنسبة للبطل، ولكن مع القسيم الأنثوي هناك فكرة الإغواء بالعينين والحاجة الملحة لبطل فاعل، وهذا يهشم فكرة الخيال والحلم المؤسسة مع القسيم الأول.
الانقطاعات القصصية تجعلك تشعر أنك أمام كتابة مغايرة، تبدأ من الاهتمام بالجزء، وبالرغم من تعدد الجزئيات فهناك مناح فكرية يمكن الالتفات إليها لأنها تمتلك وحدة الجذع الذي يضفي بظلاله على مجموع القصص، بداية من المفتتح يشعر القارئ أن هذه القصص تنطلق من نقصان المعرفة أو النزوع إليها ومن فقدان الانسجام، لأن هناك تقابلا بين نداوة الفجر والصحراء، نداوة الفجر التي يحاول امتصاصها لكي تكون وسيلة وسبيلا للقدرة على صحراء الوجود والحياة، تلك الصحراء التي تتعدد دلالتها فتتجاوز المعهود والمقرّر، فالصحراء في هذه المجموعة تتمثل في كل غياب، وفي كل صمت، وفي تراكم الأسئلة المقلقة التي لا يبدو أن هناك إجابة جاهزة عنها، يمكن أن نلمسها أو نصل إليها، فهي- أي نداوة الفجر- مضاد للشمس المسلطة على عريك الداخلي والخارجي.
تداخل العوالم
المنحى المعرفي في (قهوة بوتيرو) يتمثل في الوجود وفي الجزئيات الأخرى المتعلقة بأسئلة لا إجابة ملموسة عنها، فالوجود على النحو الذي نمر به في هذا العالم يشكل أزمة، ولن تفلح الإجابات النمطية المعهودة في فك لغز هذه الأزمة، ومن ثم كان البحث عن بديل حاضرا يقلل من حدة الاغتراب، ويضع قشرة رهيفة على جرح الوجود المنفتح، من خلال الانفلات من أسر القيد، وتخطي عوالمه المحددة المغلقة.
وللكاتب في مقاربة هذه الحالة أسانيد محددة، فجلّ اهتمامه في قصص المجموعة- خاصة القصص الأولى- يرتبط بالعناية بالمساحة العمرية المرتبطة بتشكل الوعي أو بدايته، وما يتجاوب معها من الوقوف أمام الأسئلة الصعبة بنداوة وبراح الطفولة، مثل قصة (أقوال جديدة في سيرة أمنا الغولة)، فالنص يقوم على انقطاع جزئي، وتُقدم له من خلال عيون بريئة صور مختلفة ومتجاوبة في الآن ذاته، مما يفتح الباب لتداخل العوالم منها المعيش والمتخيل وفق منطق الطفولة البريء.
تداخل العوالم- مثل عالم الإنس وعالم الجن والشياطين- سمة قارة في كل قصص المجموعة، كما في قصة (الثلاثاء بالأبيض والأسود)، أو في قصة (أزمنة الجميل)، حيث تسري في القصة الأخيرة روح الوحدة بين الإنسان والصفصافة وأشجار الكافور والتين. ويتجلى ذلك التداخل بشكل لافت من خلال صورة الأمير المسحور التي كان لها حضور في أكثر من قصة.
يقارب الكاتب من خلال قصصه أنساقا عديدة من الوجود، ولا يقاربها بمفردها، وإنما في التحامها وافتراض وجودها اللافح، خاصة حين يكون هذا النسق غرائبيا لا يمكن إدراكه بالحواس، فكل المتاح عنه لا يتجلى إلا من خلال نصوص سردية قديمة أو معاصرة، ولا يشكل وجودا ملموسا صارما. فالعالم في القصة الأولى (الثلاثاء بالأبيض والأسود) التي تتجلى من خلال راو عليم لا يتمّ رصده من خلال رصد البشر، وإنما تقارب ذلك الشيطان- ربما استنادا إلى وعي طفولي يجد متعته في خلط العوالم- وسماته المختزنة في الذهن عبر العصور والأزمنة، وكلها تنمو في اتجاه واحد.
ونظرا لطبيعة الآلية السردية المستخدمة بالرغم من كون الراوي عليما، وهي آلية عين الكاميرا الراصدة آنيا دون ارتدادات للخلف يتمتع السرد بقطاع أفقي شمولي واسع لإضافات عديدة من جانب، ومن جانب آخر فهو سرد يعاني من الانقطاع عن الماضي، لأن اهتمامه الأساسي يرتبط بما يقاربه سرديا بشكل أفقي للشخصيات العديدة التي يجمع بينها كيفية الحركة في ذلك اليوم التي أشارت إليه الأرصاد، وتم اعتماده عطلة رسمية. وفي ظل ذلك الرصد بوجود الانقطاع عن السابق تتعدد الأنماط التي يتم رصده( رنا وهاني- والأستاذ شاكر- وأم حسن وابنها الوحيد، الساهر وشياطينه الذي يتوحد بالراوي الفعلي).
في ظل آلية عين الكاميرا ليس هناك تركيز على حدث أحادي، وإنما التركيز على كون كبير يجمع الإنسان والشيطان(الذي يتماس في أحيان ليست قليلة بالفنّان) ولكنها تظل مفتقدة للجذر السابق، ولكنها دائمة الإشارة إليه. فرنا وهاني يمثلان لقاء عاطفيا شبيها بآلاف اللقاءات التي نرى كثيرا منها، دون تقديم تشكيل سابق يكشف عن طبيعة تلك العلاقة. وكذلك أم حسن وابنها الوحيد، فالقصة لا تقدم إطارا كاملا، ولكنها تقدم انقطاعا جزئيا استنادا إلى عملية التشابه والتوقع لإكمال هذا الجزئي المقدم من خلال المشترك الإدراكي بين النص والمتلقي.
وربما تكون الجزئية الجديرة بالأهمية هي جزئية شخصية الساهر(تنفتح الدلالة على المبدع الكاتب بشكل عام) الذي يكشف من خلال المغايرة والتباين مع الآخرين في وقوفه عند جزئية الرصد وإدراك التشابهات ومساحات التداخل من خلال الحلم الذي يجمع الشيخ مصطفى بالشياطين الذين يهابونه ويخشون عصاه. العين الراصدة تقدم جزئيات ناقصة مبتورة من سياقها، ولكنها تتغلب على هذا النقص من خلال دفق الفن، وحمولة الجزئي الذي يحتوي كل ملامح الكل ويشير إليه.
في قصص أخرى يأتي الشبح محركا فعليا للقصة، حيث يتجلى بوصفه بؤرة للحدث، خاصة في ظل تداخل لافت بين البطل والشبح وسائق التاكسي، وفي ظل ديمومة طوال قراءة القصة لعقد مشابهات بينهم، وفي وجود تساؤلات تتشكل بالتدريج عن الشبح الذي يلازم الإنسان، ويصنع حاجزا بينه وبين الآخرين في التواصل والتفاهم؟ وهل هو شبح للراكب البطل أم لسائق التاكسي؟
للإجابة أو محاولة الإجابة عن مثل هذه التساؤلات علينا أن ندرك أننا أمام قصة غريبة وعجيبة، ولكنها تمثل المنحى الأساسي، وتشكل عموده الفقري، فالشبح المقدم في القصة وثيق الصلة بالسائق، تكرّر ظهوره بعد معرفته بشيخ، ولكن الراكب- أيضا- في ركوبه التاكسي كان في طريقه للقاء شيخ. وهذا يجعلنا نعيد النظر في القصة مرات عديدة، لكي ندرك أن الإلمام بأطراف دلالة محتملة منطلقة من أن الشبح مع السائق- دلالة القيادة والسيطرة- يشكلان مرحلة عمرية متقدمة من التجاذب والتنافر بينهما، بينما الراكب وشبحه الذي لا يزال في طور التكوين يشكلان حالة من حالات الوفاق والتوحد.
القصة على هذا النحو يمكن تلقيها من خلال توجهين: الأول منهما التوجه الإبداعي الإيجابي، ويرشد له قول الشيخ للسائق في بداية تعرفه الأول، وبعد ظهور ملامح التنافر(إنك لن تستطيع معي صبرا)، مما يحيل إلى الخضر والمعرفة والفن. أما التوجه الأخير فهو توجه نابع من حالة التنافر الشديدة بين السائق والشبح، من خلال مجموعة الصفات المسدلة عليه. ولكن هذه الصفات يمكن تبريرها في إطار فكرة السيطرة والهيمنة والتوق إلى التخلص من سلطته وهيمنته، لأنه بطريقته يؤثر على تواصله مع المجموع العادي، ويجعل طعناته وأسنانه واضحة للعيان.
في السياق ذاته هناك محاولة في بعض قصص المجموعة لزلزلة التحديد الصارم بين العوالم، يتجلى ذللك واضحا في قصة(رقصة القيامة)، فالبطل عبدالله- وهو اسم لا يخلو من دلالة تشير إلى الفطرة الأولى- له شطحات يقول في واحدة منها( ما حكمة الله في تقييدنا بالأرض وجاذبيتها... أليس من الأفضل لو كنا بالخفة التي تجعلنا نطير في العالي، ونرى الحمام والنسور، والعصافير ترفّ من حولنا). هذه الرؤية تفتح الباب لاندفاعات خاصة تكشف عن ذوبان هذه الحدود مثل التكرار الدوري لقصة الأمير المسحور، فالأمير في رقصة القيامة ليس الولد المؤدب الذي يمشي بجوار الحائط، وإنما أصبح الأمير الذي تتزلزل تبعا لقدرته حدود العوالم، حيث ينتقل بحرية بين الكواكب ليرى أنماطا عجيبة من البشر مرتبطا بحركة الطيور البرية المهاجرة.
في (رقصة القيامة) هناك محاولة لحرق المسافة بين الأرض والسماء ونتيجة ذلك، بما يسدله على شخصيات القصة من تغييرات، حيث كانوا يعتلون مئذنة المسجد لحظة الزلزال 1992. فهؤلاء الذين عاينوا التجربة واقعا وتوزعوا في سياقات تالية، فالأول حدث له ما يشبه الانخطاف العقلي، والثاني- غالبا يشير إلى وحدة مع الكاتب- ظل على حذر من السكن في الأماكن العليا، وظل قريبا من الأرض، وفسر جاذبيتها بالحب، والثالث انسحب من السياق بالموت، والرابع باحث عن المعرفة.
تكشف قصة (رقصة القيامة) عن التنوّع في طبائع البشر في مقاربة المجهول أو غير المدرك، فمنهم من لا يقبل هذا التغييب والسكون فيتعاظم عليه، ومنهم من يأخذ جانب التسليم المشدود إلى الاندحار والركون إلى يقين بالوجود وإلى يقين بعدم الوجود، ومنهم من يظل مشدودا إلى محاولة المعرفة والمجاهدة من خلال محاولات الإمساك وفتح منافذ للإجابة.
ففي القصة التي تحمل عنوان المجموعة(قهوة بوتيرو)، لا تحلّ روح بوتيرو الفنان الكولومبي في هذه القصة فقط، ولكنها روح ترفرف كثيرا ودائمة الحضور في بقية القصص، لأنها معنية بتفسير أشياء لا تفسّر، ومحاولة الإجابة عن أسئلة لا يمكن بسهولة الإجابة عنها. ففي القصة(قهوة بوتيرو) يظل هذا السؤال حاضرا: لماذا نقترب من أشخاص أو نباتات أو حيوانات دون فهم سبب واضح لهذا النزوع في الاقتراب؟ وكأن الإجابة عن هذا السؤال فنيا بشكل سردي تشكل مرتكزا أو موقعا يستطيع أي أديب من خلاله أن يعيد آلية ارتباطه بالعالم. يقول بوتيرو: ( ينجذب الفنّان إلى أشكال محددة دون أن يعرف لماذا، إنك تتبنى بالحدس موقفا ما، وبعد ذلك تحاول أن تبرره، وتقنع به نفسك).

د. عادل ضرغام


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى