أحمد رجب شلتوت - "الشهيد الحي" أشباه بشر ينتظرون في الشرفات

"فيروس الكورونا ليس بالمدمر ولا القاتل لأنه ببضع خطوات وقائية تحمي نفسك، ولا بد أنهم سيجدون له علاجا عاجلا أم آجلا، لكن ماذا عن الفيروسات القاتلة والمدمرة، التي لا علاج لها على مر العصور وهي: أن تعيش الغربة التي تشبه موجة رماها البحر على الرمل فرَقَدَت في سبات عميق وهادئ. هي الحرب التي جاءت أوطاننا كإعصار حلزونَ دمر كل ما فيها حتى ما بقي من رحيق إنسانيتنا فأصبحنا أشباه بشر".
هذا ما كتبته "حسناء" الشخصية الرئيسة في قصة "فيروسات خطرة" على صفحتها بالفيس بوك، بعدما استبد بها الحنين إلى أهلها ووطنها، وبعدما حرمتها الأمطار من الجلوس في الشرفة تتسامر مع جارتها الفرنسية، حسناء سيدة سورية مغتربة في فرنسا، تتواصل مع ابنتها وحفيدها وباقي الأهل من خلال الفيس بوك، فالحرب ألقت بالجميع إلى المنافي، ولم يعد ثمة تواصل إلا عبر الشاشات، وحتى هذا التواصل بات شحيحا، ففي اليوم التالي "فتحت صفحتها لترى مدى تفاعل أصدقائها على ما كتبته بالأمس، فلم تر أي إعجاب أو تعليق".
هكذا انتهت القصة مؤكدة على استبداد مشاعر الوحدة والاغتراب بالسيدة المنفية، وهي المشاعر نفسها التي تكابدها شخصيات أغلب قصص مجموعة "الشهيد الحي" للكاتبة السورية ريتا بربارة، فأحالتهم جميعا إلى أشباه بشر، يقضون أوقاتهم في الشرفات، ينتظرون ما لا يجئ. ولعلهم هم أنفسهم من أهدتهم القاصة كتابها: "إلى كل من يخبئ في ثنايا روحه وطنًا يستحضره كلما شعر بالجوع إلى الحنان والانتماء".
وهكذا تتضافر عتبة الإهداء مع عتبة العنوان في تأطير العالم الإبداعي للمجموعة، فتخبئة الوطن في ثنايا الروح تعنى الاغتراب عنه، وكون الشهيد حيا، أو الحي شهيدا يعكس مدى معاناة المواطن في وطننا الكبير، لذلك يقوم السرد عند ريتا بربارة على اقتناص الصورة وبلغة بسيطة دون تكلف، تحتفي باليومي وتوثق تقلبات الذات المغتربة في الوطن أو المنفى سواء كان ذلك المنفى جغرافيا أو نفسيا ولعل أهم ما يهيمن على بنية المتن ككل هو تيمة اغتراب الروح وهو الاقسى من اغتراب الجسد وانتظار الذي يأتي ولا يأتي، انتظار قاتل، فالكل ينتظر حيث تتوقف عقارب الزمن.
وهذا ما يلمسه قارئ المجموعة التي امتلكت صاحبتها أسلوباً خاصاً يبدو من خلال ما يلي: التكثيف الشديد، والإيجاز في التعبير، والاختصار في الشخوص، والاختصار في الأحداث، لأنها تنطوي على التركيز وتسليط الإضاءة على شخصية واحدة في إحدى حالاتها الإنسانية، بينما يقتصر جمهور القصة على شاهد واحد، هو الراوي، وغالباً ما يمثل الراوي ذلك الضمير الغائب والمراقب بفضول، أما الأمكنة في قصص المجموعة فهي محدودة ومختصرة أيضاً. وقد تقتصر على غرفة أو بيت معزول أو شارع ضيق أو زقاق أو مقهى يحتضن حركة البطل، وتجري فيه الأحداث، وغالباً ما تنطوي القصص على شخصية واحدة بطله؟ بطولتها تتأتى من احتمالها لذلك القدر من المعاناة والضغوط الاجتماعية والحياتية، ويغلب أن تكون امرأة. وربما تأتي الشخصية تعبيراً عن خوف الإنسان وقلقه الوجودي من الموت وهنا نعثر على نماذج متشابهة من حيث الهموم والهواجس والكوابيس سواء كان البطل امرأة أو رجلاً.
ينفي فرانك أوكونور صفة البطولة عن الشخصية في القصة القصيرة ليس بسبب تأزمها الفردي، وإنما بسبب هامشيتها في الواقع، وتصبح بطولتها مزيفة بالمعنى الذي رآه فلاديمير بروب حيث عرف البطل المزيف بأنه الشخصية التي تعوزها الطاقة، وأنها شخصية لا مركزية، كما نجد في قصة الشال البنفسجي، وتبدأها الكاتبة هكذا: "عادوا بعد تحرير المدينة إلى منازلهم المدمرة، وكل منهم يفكر في بيته، وما جرى له، وكيف سيجعله صالحا للسكن. هكذا فكر كل منهم في نفسه وبيته، لكن أبوأحمد فكر في الجميع، فتكفل بتزيين شرفات حيه كله وشيئًا فشيئًا بدأ اللبلاب يحتضن الجدران بحنان، لكنه بعد ذلك ظل في شرفته جالسا ينتظر تلك التي لا تأتي".
أما في قصة "تفاحة آدم" فنجد البطل المزيف، يشبه إلى حد كبير شخصية أبوأحمد لكن بعد أن طال انتظاره فيئس من حضور المنتظرة، لذلك هرب من واقعه المرير، وهامَ على وجهه حتى وصل إلى صحراء شاسعة، ومثلهما أيضا بطل قصة "2070" أي بعد نصف قرن من وقت كتابة القصة التي تستشرف المستقبل، وتتوقع أن التقدم العلمي سيقود إلى شريحة تحدد للإنسان عمره وتعالج أي خلل يطرأ عليه، وتحكي عن الجد الجالس في شرفته ذات يوم ربيعي قاتم حيث حديقته ذابلة، وموسيقاه عبارة عن طلقات رصاص، فتملأه رغبة بالموت، ليس لأنه يائس، لكن لأنه يعيش حياة لا حياة فيها.
short story
عالم سردي واحد متماسك
هكذا نلمح رابطا خفيا يصل قصص المجموعة ببعضها البعض، بحيث تشكل كل عدة قصص معا حلقة قصصية، من نوع الحلقة المكملة أي القصص التي يكتبها المؤلف فرادى وبشكل مستقل ثم يكتشف فيما بعد الرابط العميق فيما بينها، والحلقة القصصية شكل فني مراوغ يقع في منطقة وسطى بين الرواية والمجموعة القصصية بشكلها المألوف والمعتاد. إذ تتكون من عدد من القصص تمت كتابتها في أوقات متباعدة، وقد لا يجمع بينها إلا دفتي كتاب واحد يضمها معا وإن كان يفشل أحيانا في منحها تماسكا فنيا، فلن يؤدي توالي قراءتها إلى بناء عالم سردي واحد متماسك تتصاعد معرفة القارئ به كليا كما يحدث في قراءة رواية مثلا.
كذلك يلحظ القارىء تشابها بين شخصية البطل في الشهيد الحي وفي ملحمة المنحوس، مما يجعلها تشكل حلقة قصصية ثانية، والقصص السابق الإشارة إليها ليست المثال الوحيد الدال على مثل هذه الحلقات، فهناك أمثلة أخرى مثل القصص الثلاث التي تتحدث عن وباء كورونا، ومنها الحب الحقيقي وفيروسات خطرة، أما أفضل نماذج الحلقات القصصية، فنجدها في أقاصيص: (بين ريتا وعيوني، ورشة كتابة، الرهان، تجميل، انتصار) والبطولة فيها لشخصية نسائية أما رسامة أو كاتبة.
وأخيرا فهناك بعض هنات في قصص المجموعة، فهناك أكثر من قصة لم تضف جديدا إلى المجموعة، وخلت من الحدث وخفتت فيها العناصر السردية مثل حوارية "رحيق العمر" ونص "الشوكة والسكين" الذي جاء كمجرد أمثولة تدين بها الكاتبة الفكر والممارسة الصهيونيين، وكان يمكن استبعادهما من المجموعة، كذلك في قصة "تفاحة آدم" والشخصية فيها هاربة من واقعها تقول عنه القصة: سار في صحراء مليئة بالهول والعواصف؛ عله يضيع بين رمالها"، فلما نال منه التعب جلس ليتأمل زرقة السماء، ويكحل عينيه بعظمة الله في خلقه البديع" هكذا تقول القصة، ومن حق القارئ أن ينكر إمكانية وصول الشريد الضائع في الصحراء لمثل تلك الحالة النفسية.
أما القصة قبل الأخيرة وعنوانها "كلاب" فتصلح مثالا لملاحظة متكررة في القصص الطويلة نسبيا في المجموعة، حيث تطول الجملة بشكل لا تحتمله القصة القصيرة، فمثلا تطول الجملة الافتتاحية لتشغل ثلاثة أسطر.
أما النقطة السلبية الأهم فتتمثل في عدم إفادة القصص من عنصر المكان الذي جاء كمجرد إطار تجرى فيه الأحداث سواء كان مدينة أم صحراء، مغلقا كالحجرة أو مفتوحا كمقهى، لم نجد ثمة خصوصية أو فاعلية للأماكن في قصص المجموعة. فكأن أشباه البشر الذين التقطتهم الكاتبة في قصصها يهيمون في فراغ.

MIDDLE-EAST-ONLINE.COM
"الشهيد الحي" أشباه بشر ينتظرون في الشرفات | أحمد رجب شلتوت | MEO
الحرب جاءت أوطاننا كإعصار حلزونَ دمر كل ما فيها حتى ما بقي من رحيق إنسانيتنا فأصبحنا أشباه بشر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى