أحمد كفافي - طوفان نوح الذى لا نعرفه

(ما لم يقله أحد عن طوفان نوح)...ديوان الشاعر المرهف حسام وهبان...ظل قابعا فوق طاولتى شهورا طويلة ...أقرأه مرة..أتامله أخرى..أتفحصه مرارا..ديوان صغيرفى الحجم لكنه مفعم بكبيرالمعانى والشجون والتأملات وأعمقها.

(طوفان نوح)! لا أعتقد أن أحدا يجهل الطوفان الذى اجتاح البشرية فى عصور لا نعرف شيئا عنها..لكنه بقى حيا فى ذاكرة الإنسانية..يطل شبحه ويخبو..لكن هل حقا هناك ما لم يقال بعد عن (طوفان نوح)؟
تقاعسى فى الكتابة عن الديوان لم يكن بوسوسة من شيطان الإهمال أو بنزعة من نزعات الكسل..فقد تزامن صدوره مع الموجة الأولى لتفشى وباء كورونا ورحيل الكثيرين ممن فتك بهم الفيروس اللعين...
كارثة راحت تزيد عنوان الديوان ومحتواه عمقا وتزيدنى خوفا.هل كانت أبيات القصائد النثرية ضربا من ضروب التنبؤ باقتراب هجوم الطوفان!
وسط التوقعات المتشائمة بنهاية العالم بفعل طوفان جديد..لم ينتظر أحد أن تحين لحظة الصفر بسقوط ضحايا لوباء فتاك جاء لينهى حياة الناس وينقذ المعمورة من شرور أفعالهم...
مهما كان تصورنا له..فالطوفان لا يعنى إلا شبح الموت أو الموت نفسه. يقول الشاعرهو:
البحر يختبىء فى صدأ الشرفة الموصدة
تحت الملاءات المهترئة
فى دهان الحائط المتشقق
فى أوراق لم تكتمل فيها قصيدتك
قل له أن يدنو منك ولا يخاف...
اجلس هادئا وانتظر
سيأتى بلا موعد
من تأمل العنوان قد يتبادر إلى الذهن أن الشاعر قد يعرض ملحمة درامية تدور حول الطوفان...لكن المفاجأة أن الديوان زاخر بالمعاصرة...تقرأ فيه كل جوانب حياتنا كما نحياها الآن: السياسة، المجتمع، الأسرة..الحب والوحدة..الحرب والسلم..التأمل والذكريات..
هناك شعور قوى جارف بالقدرية وحتمية الموت.. فمهما ابتسمت الحياة يأتى الموت لينهى كل شىء.. ومع أن تلك حقيقة كونية لكن الحديث عنها غير وقوعها الذى يقع على الإنسان وقع السوط على الجسد..وكأن الشاعر يذكرنا ببيت أمير الشعراء فى قصيدة ( نهج البردة):
يا نفس دنياك تخفى كل مبكية وإن بدا لك منها حسن مبتسم
لكن عالم وهبان يجافيه الابتسام ولعله محق! فمن أين يأتى الفرح والابتسام فى عالم مستعر بنيران الطوفان! الفرح ليس مقيما خالدا وربما يرى الشاعر فقط منه شذرات وسط عاصفة من التشاؤم تنتهى بإذعان هادىء للقدرية و حتمية الرحيل الأبدى..
اللحظات السعيدة كم هى قاسية
ندرك فيها أن الحياة فارغة
وأننا عاجزون
لا نرى ملامح أيامنا فى الضباب
لا نحفظها فى القلب المثقوب
لا نحتمل ثمارها اليانعة
ويدهشنا الشاعر بمقارنته بلحظة الولادة ولحظة الموت:
عند الولادة نكتفى بالصراخ
عند الموت نكتفى بالصمت
وابتسامة ساخرة تقول للعالم
كفى ما حملتنا من عدم
تلك كانت الرؤية الفلسفية للطوفان، لكن تتوالى أصداؤه فى شكل موجات متتالية من تجليات السياسة والمجتمع والأسرة والإبداع...أصاب جميعها العطب... فالقيم الإنسانية اعتراها الخلل فأخذت تدفع بالبشر إلى سفينة نوح بعد أن باءت جميع محاولات الإصلاح بالفشل.
تكتسب كل هذه المناحى قوتها فى الديوان وتتوحد عندما يربطها الشاعر بالموت...جميعها تدفعنا دفعا كالأغنام إلى (سفينة نوح) فربما يكون فيها بصيص من أمل.
نحن عبيد السلطة ورهن إشارتها:
نعم يا سيدى الجنرال
أنت قوى..إننا تافهون
فلا تلتفت للدموع
ربما يخدش الملح عرشك...
أصقل من دمنا سيفك العربى
وابصقنا نجوما فى سماء النشيد الحماسى...
نحن عباد شمسك الغاربة
فلا تكترث بالجذور التى تحفر قبرى وقبرك...
نحن أشلاء انتصارات القادة...القائد يتنصر ويموت حلم الجندى البسيط فيخاطبه الشاعر قائلا:
هذا يكفى
ضع سلاحك جانبا
قل للجميع سلاما...
اجلس هادئا
كما يليق بميت ينتظره الخلود...
امنح قتلاك عمرا أخر لا يشبهك
واشته كما يليق بعاشق
لا شىء وراء دخان المعارك
لن يأتى الطوفان
( لن يأتى الطوفان)...إذن هناك قناعة لدى الشاعر أن الحدث الكبير لن يقع أبدا..فالطوفان يستشرى فى كل منحى من مناحى حياتنا...فلا داعى للهلع فلحظة موت الإنسان هى لحظة طوفانه..لكن في وقوعه حياة:
مات أبى كى يعيش طويلا
واكتشف الأبد
وياله من اكتشاف! فالشاعر يتأمل معنا لحظة ما بعد الطوفان فى موقفين متميزين: الأول فى المطار حيث:
موتى متشابهون هجروا أرواحهم فى العراء
لم يستدل الغراب عليها
ولا الرعاة الباحثون عن النبع...
المطار مبنى تهدم لا يصل إليه أحد
لا يراه البصر
ولا تدركه البصيرة
تشابهت بوابات السفر والوصول
يتكلمون لغة واحدة
يبكون دمعة واحدة
يتدافعون يصرخون ولا أحد ينتظر
أما الموقف الثانى فهو أكثر وضوحا وصراحة:
الليلة الأولى بعد الطوفان
صمت..سكون..وحيد
ما دعانى أحد لركوب الفلك
لم آو إلى وهم يعصمنى
لا أنسى شيئا ولا أتذكر...
لكن:
ليسوا ناجين من فروا فى الفلك
لم يهلك من فر إلى الوهم المعصوم
يكفى لنجاتك أن تختار
لا تغمض عينيك
لا تندم
لا تتألم
لا تحلم
حدق
وتأمل عالمك المخبوء الآتى
الموقف الأول يسوده الهلع، فربما المطار هنا كناية معاصرة عن الفُلك.. ولكن هل يفيد فعلا وقت وقوع الكارثة أن يصعد الإنسان إلى أعلى؟ فوق قمة جبل؟ أو هرم؟ البعض يقول أن فكرة الأهرامات وبنائها جاءت أصلا كرد فعل لطغيان الطوفان، فمن لم يلحق بالفلك فر إلى قمة جبل عال.. يعنى مجرد وسيلة للنجاة..لكن الشاعر يشير إلى أن النجاة فكرة عقلية فلسفية بحتة..فبما أن الإنسان ذاهب ذاهب فعليه أن يختار:
يكفى لنجاتك أن تختار
وهلاكك فى الصمت العاقر
لفت نظرى أيضا قدريته فى الحب..فنظرة الشاعر له تقليدية: الفراق بعد الوقوع فى براثن العشق..لكن إذا مر الزمان على الحب فإنه يذبل ويزول..لقد التقى بها:
على شاطىء البحر
التقيت ثلاثين عاما
أبكاه الحب
فارسا ينتظرها...
حين مر مسرعا قطار الزمان
تهدمت أسوار قلبه العالية
التقاها صدفة فى فيسبوك
لم يكترث...
هكذا تمضى بنا الحياة
وفى موقف آخر يرى حبيبته على الضفة الأخرى من النهر فيرجوها أن تعبر إليه:
لا طريق بيننا
اعبرى النهر الآسن
لا تكترثى
مدينتى مهدمة...
تعالى يا حبيبتى
ربما تدركينى
قبل أن يصل قطارى الأخير.
حقا تعب كلها الحياة.. ولا يحيرالإنسان ويضنيه غير أن الله حباه عقلا..الوعى هو سر الحيرة فيتمنى الشاعر لو كان مخلوقا آخر حتى لا يدرك ثقل معانى الحياة و الموت و الخلود..ود لو تنازل عن إنسانيته وأصبح مخلوقا آخر:
ليت لى بصيرة سمكة
أرى ما تراه فى نعش بارد
لا اكترث بالعدم
يحفر قبرا حول خطاى
لا أرى غبارا بشريا يتكاثف حولى فى الطرقات
لى نافذة تطل على شارع وحيد
وأفق ينتظرنى
لا يستدل الزمان على
بمحو خطوتى الواهنة...
هذا ما أشتهه النبوءات
فاقتلونى
ينتهى الأمر بالشاعر لأن يتطرق لموضوع شائك: فهل تعى الحيوانات والأحياء البحرية بوجود القدرية؟ لا أحد يعلم.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى