عبد الصادق شحيمة - موال أطلسي للكاتبة سعيدة عفيف بين سموق معمارية النص الموازي وغور مكونات ومرجعيات السرد

توطئة
على سبيل تقديم:

أراهن في هذه التوطئة على القول إن السرد منذ أقدم العصور كان نسائيا وسيظل، وإن اقتحامه من طرف الذكور في لحظات تاريخية لم يكن قاعدة وإنما استثناء، ويمكن مؤقتا الإشارة إلى الفهرس البيبليوغرافي للرواية النسائية المغاربية (1954-2015) للأستاذ شريف بنموسى عبد القادر (أستاذ الرواية المغاربية والسرديات بجامعة تلمسان بالجزائر )،حيث من بين خلاصاته أن عدد الروايات المغاربية وصل في الفترة المعتمدة في الدراسة إلى 390 رواية توزعت على الشكل التالي: الجزائر في المرتبة الأولى ب 126 رواية، وتونس في المرتبة الثانية ب121، والمغرب في المرتبة الثالثة ب118 رواية، ثم ليبيا في المركز الرابع ب 22 رواية، وأخيرا موريتانيا ب3روايات.

المؤشر الثاني هو اللائحة القصيرة لجائزة البوكر للرواية العربية لعام 2019، والتي تضمنت أسماء أربعة نساء كاتبات:

الفائزة هدى بركات (بريد الليل)- وكفى الزعبي (شمس بيضاء باردة) -شهلا العجيلي (صيف مع العدو)- إنعام كجي جي (النبيذة ) – إلى جانب كاتبين محمد المعزوز ( بأي ذنب رحلت) وعادل عصمت (الوصايا).

المؤشر الثالث له علاقة بالتقرير الصادر عن دراسة حديثة لمؤسسة الملك آل سعود والذي رصد ظاهرة ذكورية التأليف بشكل عام، لكن ما يهمني من هذا التقرير هو التأليف النسائي في مجالات الأدب تحديدا، حيث تتم الإشارة إلى 184 عملا أدبيا طغت فيها الأعمال الروائية والقصصية، لتليها تباعا الدراسات القانونية والإسلامية ثم الفلسفية والاجتماعية والسياسية والنفسية.

المؤشر الرابع يتعلق بالكاتبة جوخة الحارثي باعتبارها أول كاتبة عربية تفوز بجائزة مان بوكر الدولية عن روايتها سيدات القمر، بعدما حصلت على جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب عن روايتها – نارجينا -البرتقال المر 2016، ورشحت روايتها سيدات القمر لجائزة زايد عام 2011 (رواية تعطي لمحة عن الحياة الغنية للأسرة العمانية وخاصة النساء).

إن احتفاءنا بموال أطلسي وبالكاتبة – سعيدة عفيف – هو عبارة عن نوع كمن الاشتباك الجمالي مع الرواية، نعرج معها وبواسطتها ومن خلالها إلى الكتابة بنون النسوة عبر جنس أدبي ما زال حافلا بالأسئلة والإشكالات.



قراءتي للرواية ستستفيد وفي نفس الآن ستستعين بمجموعة من الدراسات التي اتخذت من السرد موضوعا لها، وهي من الزخم والتعدد الذي يتركنا نتحدث عن طرائق لتحليل السرد بدلا من طريقة واحدة، وهو ما تم استشعاره في الدراسات النقدية منذ تسعينيات القرن المنصرم عبر اتجاهين أساسين كبيرين:

الاتجاه المستفيد من السيميائيات السردية وموضوعه الرئيس هو سردية القصة، والاتجاه الذي يتخذ موضوعا له دراسة الخطاب بدلا من القصة.

في مقدمة الدراسات المشار إليها آنفا كتاب عتبات (من النص إلى المناص) لجيرار جينيت ترجمة عبد الحق بلعابد، تقديم د. سعيد يقطين، والذي ينطلق من أن النص معمار لا يمكن الانتقال بين فضاءاته إلا عبر المرور بعتباته، ومن يغض طرفه عنها يتعثر، كما أن من لا يحسن التمييز بينها يخطئ الأبواب.

سموق معمارية النص الموازي:

يتم عموما التمييز بين مناصين المناص النشري الافتتاحي (مناص الناشر) paratexte éditorial يتضمن هذا المناص كل الإنتاجات الناصية التي ترجع مسؤوليتها للناشر (دار النشر) المساهم في صناعة الكتاب وطباعته، وهو مناص يتضمن نصين: نص محيط يشمل (الغلاف – صفحة العنوان -كلمة الناشر) ونص فوقي نشري ( الإشهار – قائمة المنشورات – الملحق الصحفي لدور النشر).

والمتصفح للصفحات الأربعة الأولى يلحظ غيابا كليا لهذا النوع من المناصات، يترك القارئ يتساءل عن عوامل وأسباب هذا الغياب وهي في نظري متعددة (وكما يقال أهل مكة أدرى بشعابها)، ودون أن أنكي جراحا، أود فقط أن أتساءل: هل يمكن أن نتحدث عن نجاح صناعة ما، يغيب ركن من أركانها، والكتاب في جوهره صناعة، وأقصد هنا بالنجاح وصول الكتاب إلى القارئ، (الجانب التداولي ممن وإلى من أو العملية التواصلية التداولية (مرسل – رسالة – مرسل إليه) .

أعتقد بأننا جميعا نتفق على الإجابة، وهنا أو د الإشارة إلى التضحيات الجسام التي يقوم بها مجموعة من المؤلفين المغاربة عبر الطبع على نفقاتهم الخاصة في غياب أية جهة داعمة وفي مقدمتها وعلى رأسها وزارة الثقافة.

إن رواية (موال أطلسي) للكاتبة سعيدة عفيف لن تكون استثناء يخرج عن هذه القاعدة العامة وإنما يؤكدها، مما يشرع الباب أمام العديد من التساؤلات، إضافة إلى التفكير المصحوب بجرأة لتقديم بدائل لهذا الواقع الثقافي المزري.

أما عن النوع الثاني من المناصات فهو المناص التأليفي (مناص المؤلف) paratexte auctorial ++- وهو مناص ترجع مسؤوليته للمؤلف، وهو الآخر ينقسم قسمين: النص المحيط التأليفي (اسم الكاتب/ة -العنوان الرئيس والفرعي – العناوين الداخلية-الاستهلال -المقدمة – الإهداء – التصدير -الملاحظات – الحواشي – الهوامش) والنص الفوقي التأليفي وينقسم هو الآخر إلى قسمين عام وخاص.

1-اسم الكاتبة:

يظهر اسم سعيدة عفيف في صفحتي الغلاف الواجهة الأمامية والواجهة الخلفية، والأسماء كما يقول جيرار جينت ثلاثة: الاسم الحقيقي للكاتب أو الكاتبة onymat، والاسم المستعار pseudonymat والاسم المجهول (إذا لم يدل على أي اسم) anonymat واضح أن الكاتبة استعملت اسمها كما هو منصوص عليه في حالتها المدنية، لكن الفرق بين الواجهتين هو ارتباط الاسم في الواجهة الخلفية بجملة – صدر لها ديوان شعر بعنوان ريثما 2014، ومجموعة قصصية بعنوان (في انتظار حَبّ الرّشاد) 2015، وهو في نظري إشهار / إعلان، من مهام المناص النشري في النص الفوقي النشري أي من مهام الناشر وليس الكاتبة، إنه من جهة أمر مشروع في غياب الناشر ، ومن جهة ثانية إعلان عن جواز سفر يحمل هوية ثالثة هي سعيدة عفيف الروائية، بعد سعيدة عفيف الشاعرة، وسعيدة عفيف القاصة، إن الإعلان إياه هو إقصاء للنوع الثالث من الأسماء (الاسم المجهول) في هذا الجنس الأدبي والمسمى تحديدا بجنس الرواية.

ربما هكذا تبدو ظواهر الأشياء في إطار الارتباط بالمناصات والاعتماد على تواريخ إصدارها، وهو ما تؤكده أخبار في بعض الصحف كما هو الشأن بالنسبة للخبر الآتي:" عن مطبعة مراكش للنشر صدرت للشاعرة والقاصة سعيدة عفيف رواية من الحجم المتوسط بعنوان موال أطلسي ".

إلا أنه وبالرجوع لمجلة اتحاد كتاب الأنترنيت المغاربة نجد أن الكاتبة نشرت الرواية إلكترونيا بتاريخ 26/01/2012، وبناء عليه تصبح هوية الكاتبة سعيدة عفيف: روائية – شاعرة – قاصة. وهو ما يتركني أتساءل عن الأصل في الكاتبة وهويتها الأجناسية الأدبية، بمعنى آخر ما أسباب وعوامل هذا الترحال من الرواية إلى الشعر ومنه إلى القصة أو من الشعر إلى القصة ومنها إلى الرواية. يمكن أن ننتقل بالمسألة إياها من حالة خاصة إلى ظاهرة عامة، ويمكنني في هذا الإطار أن أقدم بعض الأمثلة الشبيهة كما هو الشأن بالنسبة للطبيبة فاتيحة مرشيد (الملهمات – الحق في الرحيل -انعتاق الرغبة – الديوان الشعري -ما لم يقل بيننا): وكما هو الشأن بالنسبة للراحل محسن أخريف ( في الشعر: ترانيم للرحيل – حصانان خاسران – ترويض الأحلام الجامحة – ديوان مفترق الوجود) في الرواية (شراك الهوى وفي القصة حلم غفوة).

هل الأمر يتعلق بتجربة في الكتابة أو حداثتها، لا تعترف بوضع حدود جغرافية أو حواجز بين الأجناس وأنواعها الأدبية،أو يتجاوزه إلى انصهار وذوبان هوياتي يستعصي معه التصنيف.

رحلة أخرى تنم عن أفق آخر رحب هي رحلة الكاتبة من الأدب الفرنسي إلى الأدب العربي تطرح هي الأخرى العديد من الأسئلة، وأجدني أرى أن الإجابة عنها لن تكون سوى إغناء المنجز الإبداعي الذي تشرف منه الكاتبة، وتشرف به نون النسوة. الرحلة تجدد، ضخ لدماء بكريات جديدة.

2-العنوان: موال أطلسي:

تمت الإشارة سابقا إلى معمارية النص، والتي تقتضي القصدية بدلا من الاعتباطية، وبناء عليه، لا شيء يمكن أن يخضع لمحض الصدفة،القانون إياه يصدق على العنوان، وللكاتبة فيه خبرة المحترف ومهارة الصانع: ظرفية زمنية مرتبطة بانتظارية سمتها الخفاء في عنوان الديوان الشعري " ريثما... " وظرفية زمنية أخرى مرتبطة بانتظارية سمتها التجلي في عنوان المجموعة القصصية " في انتظار حَبّ الرّشاد ".

ماذا عن "موال أطلسي" وما علاقته كنص موازي/ مناص، بالنص هل يندرج ضمن العناوين الأدبية التي تحدد الموضوعة الأساسية للكتاب، أو ضمن العناوين الموظفة للمجاز والمعتمدة عليه، أو يندرج ضمن العناوين الرمزية ذات البعد الإيحائي؟

لنقف في البداية عند الدلالة اللغوية لكلمة موال: الموال بالتشديد، فعال، والصيغة تأتي للمبالغة، تجمع على موالات، والعامة تجمعها على مواويل، وتجمع أغلب الدراسات إلى أنه نوع من النظم الشعري يتغنى به، ظهر مع نكبة البرامكة والتي كان ضحيتها الأول وزير هارون الرشيد، جعفر البرمكي (187/803 ) الذي قتل من طرف الرشيد، ثم صلب وقطعت أعضاؤه، وعلقت بأماكن متفرقة، ثم جمعت وحرقت فيما بعد 187 ه وكان هارون الرشيد قد أمر ألا يرثى جعفر، إلا أن إحدى جواريه رثته بشعر عرف فيما بعد باسم المواليا.

يقول صفي الدين الحلي (675-750)(1276- 1349 ) -من أوائل الشعراء الذين انتبهوا لأهمية الأدب الشعبي في العراق – وهو بصدد الحديث عن فنون الشعر السبعة الملحونة منها ثلاثة معربة أبدا لا يغتفر اللحن فيها وهي: الشعر القريض والموشح والدوبيت، ومنها ثلاثة ملحونة أبدا وهي الزجل والكان كان والقوما، ومنها واحد وهو البرزخ بينهما يحتمل الإعراب واللحن، وإنما اللحن فيه أحسن وأليق وهو المواليا " صفي الدين الحلي/المعطل الحالي، والمرخص الغالي في الأزجال والموالي نقلا عن دراسات في الموال العراقي للدكتور خير الله سعيد 2014.

الموال إذن: شعر -صوت غنائي – رثاء ناتج أو ناجم عن نكبة -مرتبط بموت، وكأدب له ارتباط بما يسمى الأدب الشعبي في بعده الطبقي.

التوصيف "أطلسي" يفيد التخصيص المكاني نسبة إلى جبال الأطلس، وضمنها نلحظ الدلالة المجازية "المحلية" (إطلاق المحل وإرادة الحال فيه) والتي لا محالة سترشح ببعد إيحائي رمزي، يتركنا نتساءل ونحن نأخذ بعين الاعتبار الوظيفة التداولية التواصلية للعنوان عبر عناصره الثلاثة: المرسل والرسالة والمرسل إليه. عمن يصدر الموال؟ (مرسله) ومن يستقبله؟ ما دوافعه وما دواعيه؟ ما مضمون الرسالة؟ أسئلة تستدعي جولة أولى ورحلة عبر تضاريس نص الرواية أو أطلس الموال، إنه جهد الانتقال من السفح إلى القمة وفي الوصول متعة والتذاذ.

يظهر الموال بصيغة الجمع في الصفحة 25 ويستمر إلى حدود الصفحة 171 حيث يرد قول السارد "تركنا مواويلنا ولذتنا في استظهار أشعار الكبار إلى وقت لاحق إذ أن هناك ما هو أحق بالاهتمام"

المواويل في الفصل الثالث داخل هذا الفضاء الشاسع القرية بجبالها الشامخة وشلالاتها المنهمرة وبحيرتها العاشقة – بحيرة العشاق – تتراجع تختفي تنحبس كصوت، لصالح الرؤية البصرية، فتحل هذه محل تلك، تقوم بوظيفتها وتحقق مبتغاها، لقد تحلل المختار من فواجعه وآلامه "استشعرت راحة كبيرة وتنفست الصعداء ..... لا ريب أن لحظات حب تقهر أنواء وفواجع" ص27

من الفصل الثالث إلى الفصل السادس ومن مدينة الدار البيضاء إلى القرية في إجازة قصيرة، تحضر المواويل "عبر صوت محمد رويشة الشجي والذي يصلني من أحد المنازل القريبة يزيد من اشتعالها ويتحكم بشغاف قلبي" ص45

"إناس إناس ما يريغ أداس غي زمان
إزي إنغا إقناض ابعي أبريد أسمون

(قل له، قل له ماذا يريد مني الدهر .....
الوحدة تقتلني، وطريق الحبيب بعيد .....)

في نفس الفصل وفي نهايته يقول السارد "أما أمه التي لم تفلح أبدا في إخفاء حزن أو فرح، تذهب بعد كل أزمة بكاء في – سرابة - موجعة من الأنين المنغم الشبيه بالمواويل الذابحة، تنعي الابن الغائب والفرح والأيام والزمن لساعات طوال"ص 48

الصوت هنا موسوم بالموجع ومجسد في الأنين هو صوت الأم أم عبد القادر المدعو "عقا" منضاف إلى صوت مختار وحمودة ثم رويشة.

وعبر لعبة/ثنائية الخفاء والتجلي يتراجع الموال في تسعة فصول ليظهر من جديد في الفصل الثالث عشر " كدنا نأتي على حنوننا المثلجة، حين وصلت إلى سمعينا نغمات أطلسية على مقام الصبا. مواويل تسفح أوتار قلبينا العليلين، وتذكي ما أخمده الروتين ومتاعب الحياة" ص 106

اختيار مقام الصبا، المنضاف سابقا إلى مفهوم السرابة كفيل بتأكيد سمة الحزن، فالمقام من الناحية الموسيقية حزين، الآلات فيه تجهش بالبكاء، ولا ينافسه أي مقام آخر في درجة الأحزان، وهو ما يؤكده المقطع السردي" تمددنا فوق العشب الندي ساهمين مستسلمين لليل والقمر وجمال الموال وما يعبث بنا. بعد حين نظر إلي بعينين حزينتين دامعتين ولم ينبس بحرف، فأسلمنا نفسينا للبكاء طويلا. لم يستعص الدمع. وكهبة النسيم، جرت الدموع من المآقي بسهولة عجيبة واستقرت على العشب" ص 107 .

يمتد صوت الموال (مواويل) ليصل الفصل 13 بالفصل 14، مع انتقال المختار من القرية إلى مدينة الدار البيضاء، وباسترجاع سردي باذخ ورد فيه "عندما بلغت مشارف القرية، كانت مواويل الأطلس الجارحة لا تزال عالقة في ذهني المثقوب، تلوكها شفتاي بصوت منخفض، وتعصف برأسي مواويل أخرى ...... مواويل في رأسي هي الحياة والموت معا، تتجاذبني وتقزمني ولا أستطيع حيالها شيئا. "ص113

المواويل تشتعل وتلتهب تشمل الحياة كما تتجاوزها إلى الموت، يتوحد صوت الأطلس مع صوت المختار، فيتجلى الموال مخطوطا بحبر جاف أسود فوق وريقات كناش ذابلة هي ما يملك المختار في رحلته الوجودية والمكانية، هل يعقد المختار عقد قران مع الموال ويصبح دالا عليه، متوحدا معه، ظله الذي لا يفارقه، ونبعه الذي يرتوي منه، فيزداد ظمأ كلما ارتشف قطراته، إنه موال الحب المتبل بالحزن والجراح والمواجع والفواجع، الحب إلى درجة الفناء والذوبان والانصهار "لبلاد الحبيبة" والتي ليست جوكاندا، ولا ذات العرعار (1 )

1 إحالة على قصيدة لأحد شعراء الشعر الملحون بمدينة الصويرة اسمه محمد بن الصغير الصويري عاش زمن الحسن الأول تحكي عن ثلاثة أشخاص سافروا من مدينة الصويرة إلى مراكش أولهم نجار والثاني تاجر والثالث فقيه، اتفقوا على اقتسام الحراسة ليلا، حيث نحث النجار جسد امرأة، وألبسها التاجر أفخر الثياب، وتوجه الفقيه بالدعاء إلى الله لزرع الروح في الجسم المنحوت.

هاد هي، ماهي غير من جدر د العرعار .

نحت ماهر عيار

دم ولحم رجعت وحيات ولات مرا

التراث المغربي الأصيل عدد مزدوج 2014/2015 / ذ -محمد بوعابد















الحب المنبعث من التعلق بالمكان،المهيمن على الزمان المتصدع في أرجاء النفس والمستحضر لقلق مالارميه في قصيدته قلق ص129 موال أطلسي.

في الفصل السادس عشر، تصبح حليمة الوجه الآخر للموال "حليمة أنت قدر وشم قدري باللهب بماء من نار. أنت موال أطلسي حزين عنيف يسكنني ويملأني، وأنا لوحتك عالقة دون روح لو تعلمين، فأزيلي عني تشوه الألوان والمعالم وفكي رموز اللوحة حتى تقرأني أرواح ثملة بحب الإنسان " ص129

الوطن عبر أطلسه الشامخ، والمرأة/حليمة عبر لوحاتها والمختار عبر انعكاس موال الوطن وموال المرأة، موال بدوره، الكون كله مواويل. تشمله الأصوات الحزينة، إنه التأكيد الذي جاء على لسان حليمة في الفصل ما قبل الأخير في رسالة لها تقول،"وقد تجد هذه الأخيرة (دروب الحياة )لنفسها منعطفات مغايرة ومواويل يحلو معها الرقص طربا" ص 171 .

يبدو من خلال هذا السفر، الترحال في جسد النص بحثا عن موطن ومكان مفتاح أسرار ودلالات تكتنف العنوان يرتبط بموال المختار على لسان الأطلس، وبصوته وحنجرته، وبحليمة وقد حلت محل الموال، فأصبحت هي الأخرى موالا أطلسيا، لعبة الإسناد في العنونة تحيلنا على موضوعتين وعلاقتين:

موضوعة الوطن وما يجسد الشموخ فيه وعلاقة المختار به، وموضوعة المرأة وعلاقته بها كذلك. تظهر وقائع وأحداث الرواية تجليا من تجليات الارتباط بالمكان مجسدا في القرية يرشح شغفا وحبا وحميمية، لا تقل عن تلك التي يخفيها المختار بين ثنايا قلبه لحليمة، فما الذي حدث حتى تحول ذلك الحب إلى موال أنواء وفواجع ووحدة قاتلة، لماذا اختار الإقامة في الصبا دون غيره من المقامات، لماذا يمتزج الصوتان ويطاوعهما الدمع، لماذا كانت المواويل جارحة ووجودية تستحضر الحياة والموت؟ بعيدا عن الوظيفة التعيينية والتعريفية للعنوان والتي لا تنفصل عن بقية الوظائف الأخرى أخلص إلى القول أن عنوان الرواية يجسد وظيفتين أساسيتين:

الأولى وصفية يقول العنوان من خلالها شيئا عن النص، والثانية إيحائية قاربنا بعضا من دلالاتها في الأسطر السابقة، ونوجزها في أن الموال صرخة في وجه أي شكل من أشكال الظلم أيا كانت تلاوينه، صرخة من جبل شامخ شاهق شاهد على ضحايا جلدوا مرتين: من طرف الطبيعة أولا ومن قبل الإنسان ثانيا. موال الأطلس وما يخلفه من صوت وصدى، إعلان وتمرد ورفض للعدوان الإنساني أيا كان مصدره.

3-المؤشر الجنسي: رواية

يحدد -جيرار جينت – المؤشر الجنسي، بأنه تعريف خبري تعليقي يقوم بتوجيه المتلقي نحو النظام الجنسي، أي أنه يأتي ليخبر عن الجنس الذي ينتمي إليه هذا العمل الأدبي أو ذاك، ويندرج هذا المؤشر ضمن مفهوم مركزي سبق -لفيليب لوجون – أن أشار إليه بل جعله أساسيا في عنوان كتابه وهو الميثاق -تحديدا الميثاق الروائي – الذي يستند إلى مظهرين أساسين:

المظهر الأول هو الممارسة المعلنة لانعدام التطابق حيث لا تحمل الشخصية الرئيسة اسم المؤلف/المؤلفة، بل تحمل أسماء مختلفة عن أسماء المؤلفين.

المظهر الثاني هو الاعتراف بالاتجاه التخييلي للنص، وهو المظهر الذي تتم الإشارة إليه في الغلاف أو صفحة العنوان أوهما معا، أو في مجموعة من الأماكن الأخرى، وقد أسيء استعمال هذه الشهادة في الكثير من الأحيان ( الخبز الحافي – مجنون الأمل سيرة روائية– سيرة ذاتية )

واضح أن الكاتبة قد أخذت هذا المؤشر الجنسي بالاعتبار في الغلاف بخط عمودي وفي الصفحة الأولى بخط أفقي، وهو ميثاق يحدد أحادية في ظل التعدد الذي يسم شخصية الكاتبة وهي تنتقل من الشعر إلى القصة ومن هذه الأخيرة إلى الرواية.

وبالاقتراب من التنظير الأدبي لهذا الجنس منذ مراحله الأولى مع جورج لوكاتش في كتابه -نظرية الرواية – أمكننا القول مع جاك بغان jacques brun في بحثه الجامعي عن لوكاتش:"إن نظرية الرواية المستلهمة من هيجل، تترجم في لغة ما تزال استطيقية، اهتمامات وجودية" أي وبكلمة موجزة إشكالية الحياة والوجود الإنساني. ولن يختلف أي قارئ اطلع على رواية الكاتبة حول هذه الخلاصة.

أما عن تصريفاته العملية فإنني أجد ما سماه القاص أحمد بوزفور في كتابه الزرافة المشتعلة – في طريق البحث عن نظرية التلويث – ينطبق على القصة كما هو الشأن بالنسبة للرواية أي لهما معا ثلاثة عشر خصما:

فالرواية هي الأخرى يمكن أن تكون ضد المعاني المفهومة و ضد الاستلاب باللغة، وضد الجزم واليقين والأحكام الصلفة، وضد التبشير والدغدغة والحياد، وضد التصعيد (أي ضد الكاتب الخجول القلق، الذي لا ينشر حتى يرضى عما يكتب) ضد المنطق والتناسب والسببية في التصرف والسلوك، ضد الحديث الممل والمونولوج المتحبب والإطار اللص، ضد اطمئنان السرد (السرد الطيب البطئ كحمار وديع، بل استفزاز السرد ولي عنقه واللعب به) ضد الحيل الفنية المكشوفة والمحجوبة، ضد النموذج، وضد أخلاقيات النشر والتوصيل الفاسدة، وأخيرا ضد الناقد الإكزورسيست الذي يعزم ويبخر ويتلو من كل المناهج لاستخراج العفاريت القصصية أو الروائية. الزرافة المشتعلة ص 17-18-19-20-21-22-23-24-25 .

4-الإهداء :

*إلى الغائبين الذين رحلوا عنا.. قد تجدون إجابة عن أسئلة تؤرق هاهنا..

*إلى كل من لاذ باللغة يبغيها لباسا وقناعا، فخذلته وعرته...

*إلى كل المخذولين العراة إلا من لغة تتاخم السؤال والموت..

*إلى لغة فتق حلمها ناي أسطوري يشدو مواويل أطلسية.

الإهداء كما يشير إلى ذلك – جيرار جينت – في كتابه -عتبات – تقليد عريق يتخذ شكل إهداءات سلطانية أو عائلية أو إخوانية، ويقع الإهداء في قلب العملية التواصلية والتداولية على أساس أنه يحتاج إلى مهدي dédicateur، ومهدى إليه dédicataire قد يكون خاصا أو عاما وقد يكون ذاتيا)، كما فعل -جيمس جويس في أول أعماله une brillante carrière

وبالرغم من كل ذلك تبقى وجهة الإهداء غامضة بالرغم من تحديد المهدى إليه الرسمي، لأن الإهداء يستهدف إلى جانب المهدى إليه كل قارئ يقع الكتاب بين يديه، على اعتبار أن الإهداء فعل جماهيري، تبقى معادلته صعبة ومعقدة لانفتاحها على أفق لانهائي.

وسنقف عند الوظيفة الدلالية للإهداء، وهي الوظيفة التي تبحث في دلالة هذا الإهداء وما يحمله من معنى/معاني للمهدى إليه،إلى جانب العلاقات التي ينسجها من خلاله.

مفرد بصيغة الجمع، إهداءات بدل إهداء في رواية موال أطلسي للكاتبة سعيدة عفيف، تعلن من خلالها عن أرق السؤال وتخومه، علها تستشرف الكون، وتقبض على بعض من أسراره، ينسرب الماء من بين الأصابع، وتنطفئ جذوة الوجود، ويقبل الموت.

الإهداء في صيغته وجملته الأولى بساط ملغوم وفخ أو شرك تفرشه وتنصبه الكاتبة للقارئ، وهو يبحث عن الإجابة لأسئلته المؤرقة، فلا يخرج من حبالها ومحرابها إلا وهو مثقل بوابل من الأسئلة، تضع السؤال موضع مساءلة فتتناسل الأسئلة، وتتفجر من تحت أقدامنا وهي تحدث الارتجاج وهدة الهدم. "السؤال قمة والجواب سفح قاحل. وبين القمة والسفح أدغال متمنعة من أهداف ورغبات وخلفيات مستعصية الاختراق، وأجراف ثقافات مؤدلجة مسيسة شاهقة العلو شديدة الانحدار.. ومن تغريه المحاولة، يتجاذبه ثنائي الموت والحياة..

سؤال معلق وجواب قاتل."واللي قال العصيدة باردة يدير يدو فيها" موال أطلسي ص120

"متى ندرك مواجع أنفسنا الحقيقية وأدمغتنا المصادرة، ومتى نؤمن بالإنسان كمحور لا نسعى لتشييئه أو تهميشه، نقضي في الحين نفسه على الورم الخبيث الذي ندعوه فسادا. فساد الأجساد والنفوس والعقليات والتاريخ. نحن نتآكل بهذا الشكل المريع، لأننا لم نفهم بعد آليات السوسة التي تنخرنا وتهدمنا من الداخل. وحالما نضع أيدينا على موطن الداء، حينئذ يمكن أن نتغير لنكون هذا الإنسان الجديد الذي لن يهبط علينا حتما من كوكب آخر، نحن هو وهو امتداد لنا. موال أطلسي ص 123

تعلن الإهداءات الثلاثة الموالية عن اللغة ملاذا واللغة لباسا واللغة حلما.

الملاذ اللغوي وكذلك اللباس اللغوي خذلان وتعرية، وللمخذولين العراة تهدي الكاتبة روايتها إسهاما منها في الخروج عن دائرة الخذلان تلك."مصطلحات فضفاضة نسوقها ذات اليمين وذات الشمال نقولها بشكل آلي لنخفي بها أحاسيسنا الحقيقية.

بهذا الوعي اللغوي يخاطب حمودة المختار :" أنت تعرف جيدا أنك لا تضيف معنى جديدا، وأن الاختباء وراء الكلمة مجرد تمويه عن أزمة....."ص106

أما عن اللغة الحلم، اللغة الأنثى،اللغة الأرض، اللغة المعطاء، اللغة الأم في الإهداء الأخير، وهو بالمناسبة ذاتي يهم علاقة الكاتبة باللغة، قبل أن يهم المتلقي/المهدى له بها، اللغة في الإهداء رتق والأرض الأولى تفتق بالقطر/المطر، والثانية بالنبات، أما اللغة فمفتقها ناي أسطوري (أقول مفتقها لا فاتقها لأن الكاتبة انتقلت من فتق إلى فتق، وبناء عليه فهي قائدة الأوركسترا المواويلية، خاصة إذا نحن أخذنا بالاعتبار أن الفتيق تطلق في العربية على اللسان الفصيح على وزن فعيل فصيح اللسان حديده.

للكتاب كما يقول الناقد المغربي الكبير – عبد الفتاح كيليطو – وخاصة المغاربيين منهم حكاية مع اللغة أو اللغات العربية، الفرنسية، الأمازيغية، حيث لا شيء مما يقولونه يمكن فهمه من دونها، وأنا بهذا الصدد أستأذن الكاتبة لأسقط عليها المفارقة التي وصف بها كيليطو نفسه فأقول بأنها هي الأخرى تعلمت الفرنسية لتتمكن من الكتابة بالعربية، وفي هذه المفارقة تحديدا تبدو أسطورية نايها الخارقة ناي يتمتع بالفحولة ويفترع بكرات اللغة وتجليات ذلك في نصها الروائي عديدة لن نعدم الاستمتاع بها في الجدائل التي تنسج بها الوقائع والأحداث بدءا بالمتن ومرورا بالشخوص والحوار والوصف وصولا إلى اللغة، لنستمع إليها وهي تقدم لوحة فنية واصفة "طيفان في عنفوان الشباب والحب والرغبة. يقفان متعانقين في غاية الانسجام. همس وقبلات وعناق طويل، ثم يجلسان. الفتاة في غنج أولا، ولا تزال ممسكة بإحدى يدي الشاب، ثم ينحني ليجلس ملتصقا بها. يضع يدا خلف جيدها والأخرى بتؤدة على صدرها. يتهامسان وبوداعة يستميلها بين ذراعيه ثم شيئا فشيئا يمددها على العشب الندي الذي ما فتئ يناديهما ليتبلل بجنون عشقهما. يتمدد هو الآخر... يقترب أكثر من وجهها ومن شفتيها، فتتلاصق شفاههما وتتمازج في قبلة عميقة، يداهما تتشابكان، تسرحان محمولتين على صهوة اللمس المثير.. تتوقدان بملامسة جذوات العشق في مواضعه شديدة الحساسية.. يشخصان بعدها إلى السماء. ثم تتوالى حركاتهما المتغنجة ومداعباتهما المثيرة. تثيرني فأكاد أجن... وكلي أمل أن يكون حبا حقيقيا" موال أطلسي ص 25 "

5-تصدير بمقطع لفرناندو بيسوا من أناشيد ريكاردورييس:

آخر عتبة من عتبات النص الموازي،تصدير بمقطع شعري، يمكننا اعتباره بمثابة قلادة تقوم بوظيفة تلخيصية لرواية موال أطلسي، وتوجه أو تنشط القارئ لأفق أو بنية توقعات، لتشكيل قراءة مفتوحة تفترض وجود علاقة بينه وبين النص الروائي، إنه بمثابة مقدمة ذات قيمة تداولية، نتساءل عن مؤلفه، وأسباب اختياره من طرف من اقتبسه.

نشرف من خلال المقطع الشعري على الآداب البرتغالية وعلى رمز من رموزها إنه فرناندو بيسوا الذي جمع بين الكتابة الأدبية والنقدية إلى جانب الترجمة والفلسفة والإبداع الشعري، إذ يعد من أكبر شعراء اللغة البرتغالية والذي لا يذكر اسمه في سماء الأدب البرتغالي إلا مرتبطا بأسماء ثلاث شخصيات هي: الشاعر ألبرتو كاييرو، وريكاردورييس، وألبارودي كامبوس، ويهمنا منها الشاعر ريكاردورييس ووقع اختيار الكاتبة على المقطع الشعري المجتزأ من قصيدة بعنوان لنحاول إذا.

لماذا ريكاردورييس، ولماذا أناشيده؟ وتحديدا المقطع إياه؟ وما طبيعة العلاقة بين

الأناشيد؟

ورد في التقديم الذي خص به محمد أخريف الأناشيد، أن فلسفة الشاعر تمثل ضربا من أبيقورية كئيبة، والأبيقورية نسبة إلى أبيقور مذهب فلسفي، يعتبر اللذة خيرا أسمى، والألم شرا أقصى، والمقصود باللذة في هذا المذهب هو التحرر من الألم، وليس الانغماس في الملذات الحسية، ولهذا حولت في المذهب الأبيقوري إلى مذهب في الزهد (لذة عقلية).

هل يستبطن المقطع الشعري لريكاردورييس أبيقورية المختار الشخصية المركزية في العمل الروائي؟ وإلا ما دلالة استمرارية الألم في افتتاحية الفصل الأول بقول السارد "الألم باق" أو قوله" في البدء كان الألم يدعى فراقا للذين نحبهم بعد أن يغيبهم الموت في سكونه المظلم الكسيح، وفراقا لأمكنة تسكننا.

جغرافية الألم التي تشمل كافة الفصول ترتبط بالأشخاص وفراقهم" ولسوف يأتي يوم تتمكن فيه يا مختار من كي قلب انفلت من قبضتك دائما، كي لا يتعلق أو ينتظر أبدا.. قلب قايض حلمك باليتم والفجيعة "ص7 والأماكن" "أم الثلوج" قريتنا تقع على ارتفاع يتجاوز الألفي متر فوق سطح البحر. تجثو في حضن الأطلس المتوسط العتيد، قرية كغيرها من القرى المجاورة لمدينة خنيفرة، لا ترعاها في عزلتها الجغرافية ومن طبيعتها القاسية إلا عيون جبال حارسة لا تغفو ولا تنام، جبال انصهرت وانتصبت من قسوة وقوة وفن وجمال" ص 9 والأزمنة "وهذا الزمن البالي المتآكل ليس زمننا بالمرة. وأنتم الرجال صدئون مثله." ص32 "نحن في زمن صدئ كما تقولين، فهل تظنين نفسك ناجية؟ -لم أدع ذلك يوما،أنا متورطة جدا مثلك تماما... الأمر ليس سهلا كما يتراءى لنا. إنه صدأ عالق مزمن شوه كل المعاني والقناعات." ص33 .

"لم تكن السنوات الأولى في المدرسة الداخلية سهلة بالمرة.. سنوات غربة وحرقة ويتم مبكر. فجأة وجدتني وحيدا أعزل من أم كانت حتى شهور قليلة، تغدق علي من دفء أمومتها، ثم اختفت مثل الشهاب، ومن أب، كنت وحيده، ففكر جديا في مستقبلي.. ودفع بي إلى الحياة " .ص38

" ليس كل مرور الوقت سيئا، تخف وطأة الألم وحدته بمروره، رغم أن كل ما يمر يترك أثرا ووشما في ذاكرتي التي تتمطط وتتقلص لتستوعب كل ما يأتي وما يروح". ص39

يرجع إلى الصفحات 55-67-102-132-136-136

إذا كان مقطع -ريكاردورييس - عتبة تجاوزناها (من المجاز أي الباب) وصوتا سمعناه، فإن مسار الدخول لم يكن إلا كهوفا مظلمة، وصدى مخيفا مرعبا، وجرحا غير منقطع النزيف،، وزوايا معتمة تحتاج إلى أكثر من مصباح، وارتماء وحفرا وزبى يسكنها من خلال الكاتبة سعيدة عفيف قلق الوجود، المواويل، كمواويلها والأناشيد، شلال ماء مؤلم يعم الأرجاء ولا يستثني كائنا ما كان.

المدينة هي الأخرى تردد صدى موال أطلس الكاتبة لحظة تعريتها وتقشيرها وكشف عوراتها في الفصل السابع عشر "مدننا تقدس التناقضات. تهيء فتياتها ونساءها قسرا أو عن طواعية للعهر والعبث بإنسانيتهن، دونما تعب أو ملل من هذا الوضع الذي يستمر ليل نهار ما استمر الطلب..... تكذب علينا كتب المدينة وتغرر بنا، إذ كيف تتحول المدينة الأم إلى الوطن اللباس الهوية الانتماء والتاريخ ...،إلى جرح موقع على الأجساد لا ينقطع نزيفه، وكيف تتحول إلى عري وعهر ينكص تاريخها ويشمه عار وخزيا" 138-139.

والوظيفة التلخيصية المشار إليها في البداية تظهر جلية واضحة في الفصل الأخير حيث إذا كنا مع – ركاردورييس لا نثير أكثر مما يوقعه حفيف أوراق الأشجار أو خطوات الريح، فإننا مع الكاتبة سعيدة عفيف "لا نساوي شيئا ذا بال بينهما. نساوي حيرة "ص174

"تدرين الآن، كم أن كثرة الآلام تفضي دائما إلى تغيير في الرؤى والقناعات. وإلى إسقاط كل ما تشبثنا به وحلمنا به في واد سحيق ما له قرار، وأن المواجع التي تزيد عن حدها، تؤدي إلى السخرية من كل ما عنى ذات فترة، شيئا ذا أهمية قصوى في حياتنا...." ص174 .

6-العتبة الأخيرة في ظهر الغلاف أو واجهته الخلفية:

مقطع سردي مستمد ومنتقى من الفصل التاسع تحديدا الصفحات 75- 76، السؤال الذي يطرح بصدد هذه العتبة هو لماذا هذا المقطع دون غيره من المقاطع السردية؟ إنه تصدير من نوع خاص يقوم بدور البوح أو الوشاية، قد يقتنص منه القارئ ما يسعفه على التقاط ما يضمن قراءة سليمة بعيدة عن تأويلات متعسفة أو تشويشات محتملة.

المقطع يتحدث عن معرض للوحات فنية يتبارى أصحابها في موضوع محوره وموضوعه الفم كسلطة وصوت، وبقراءة معجمية لتيمته يبدو أنها تتكرر خمس مرات: ثلاث مرات نكرة، ومرتين معرفة بأل، اللوحة الفنية التي استوقفت المختار هي التي ستفوز بالجائزة وهي للرسامة حليمة التازي التي سينغمس في حبها، ويسقى من جحيمها.

لكن المثير في المقطع هو نهايته "الفم في اللوحة لم يعد يمتلك سلطة صوته، ضيعته الألوان فتوارى في خجل"

مقابل هذه اللوحة الفنية، هناك وفي فصول الرواية لوحة طبيعية نسبة للطبيعة تأسر بفضاءاتها الأسطورية وشلالاتها الشاهقة وعيون جبالها الحارسة، وحكايات عشقها الخالدة، إنها لوحة الأطلس التي تتناص مع قصيدة الأطلسية وقسمها الثاني ص34 من ديوان – قال يانا سيدي للشاعر أحمد بدناوي. اللوحة هذه باعتبارها موالا، صرخة كما تقدم تحتاج إلى فم يردد وحنجرة تصدح وتشدو، وحبال تهتز، لكن كما غيبت الألوان فم لوحة حليمة التازي، فأصبح فاقدا سلطة صوته، ها هو الظلم في العزلة وفي انتزاع الملكيات، في حالات الغش (الانتخابات)، والتزوير وشراء ذمم المستضعفين، والوعود الكاذبة وهضم حقوق المرأة والشعوذة، يحول المواويل والأغاني الأمازيغية إلى نواح، والأهازيج (صوت التشجيع) إلى عويل والهمس إلى آهات، والزغاريد إلى صيحات، والغناء إلى نحيب، موال الأطلس كما تمت الإشارة إلى ذلك في الصفحة 114

ياك الحرف هوى وغار
في بير عميق ماليه قرار
بعد كان المعنى دفاق
ولكل خيال فاق.

هذا المهوى والقرار البعيد والعميق يحتاج إلى من يردده، لأنه هو الآخر قد اختفى وضاع في زحمة الأفواه مما أفقده سلطته، ولهذا قبل أن تكون رواية موال أطلسي تذمرا من الأصوات النشاز، هي أولا وأخيرا ومن خلال كل العتبات لعلعة وصوت حق وصرخة من جبال الأطلس الشامخة، إنها فم من لا فم له، أو حيل بينه وبين الكلام، ممن تسميهم الكاتبة بالجسور " أنا وأمثالي جسر أخرس، أعمى وأصم يا فهيم. ألا تقول الجسور شيئا هل هي خرساء دائما؟؟"ص69.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى