مفيد فهد نبزو - فلسفة القصيـدة المحكيّة

لماذا الشعر؟ لماذا القصيدة؟ سؤال يسأله الكثيرون من أبناء جلدتنا في الإنسانية، وكأنهم لا يدركون أو لا يريدون أن يدركوا أنه التجسد والتماهي بحالات فريدة مبتكرة تقتنص الإعجاب وتثير الدهشة بعناصر التشويق حين تتجدد بالعطاء الصرف، وتنتصر بالديمومة حتى حين يحل الانحلال، ويحين الزوال والفناء، لأنها لم تكن للموت والتلاشي كبقية الأحياء الموجودة
بحركة الوجود في دائرة ضيقة محدودة المجال، فما هو الشعر؟!.

هو كما قال أرسطو: الأقدر على إدراك أسرار القلب الإنساني، ومن هو الشاعر؟!. إنه ذلك الفارس المتمرس بخبرته وطاقاته التي يحارب فيها القبح بالجمال، والشر بالخير، والجهل بالمعرفة، والباطل بالحق، والجفاف بالمطر، فلا يشرع سيفه إلا في الظلمة وهو على صهوة فرسه ليكتشف غابات الخوف ووديان الجن في رحلة انخطافه إلى ما وراء المجهول باحثاً عن -مملكة الشتي- هذه المملكة التي عبر عنها الشاعر اللبناني الكبير طلال حيدر في مقدمته قائلاً: أتى إياد قحوش من مملكة الشعر إلى مملكة الشتي ليكمل الناموس، ويرفد الفصحى بلغة محكية تتسع لكل مساحات الروح، ولم يكتفِ بهذا في مقدمته لديوان الشاعر الدكتور إياد قحوش «مملكة الشتي»، (الصادر بطبعته الأولى 2015، عن مؤسسة أرواد للطباعة والنشر والتوزيع في طرطوس، بصورة غلاف معبرة بعدسة جورج حنا أبو إسبر) بل راح يحلل شاعرية الشاعر الصيَّاد، الذي يعرف كيف يصطاد الرؤى بحذق وموهبة ومهارة من أعلى قمم الجبال، ومن فضاءات الحدس والخيال حين قال: لم يأخذ إياد مفرداته، مداميكه، من لغة كتبت بل قطف عن اللسان، وهام فصار للغة كلام، رصد المعاني عند بوابة الحدس فكان الأنيق الشفاف الحنون، ولأن صاحب «وحدن بيبقوا متل زهر البيلسان» و«لبسوا الكفافي ومشوا» والكثير من الروائع الخالدة والمغناة بإحساس سفراء الفن وعمالقة الطرب يخشى على الشعر المحكي من الموت في زمن اختلطت فيه الأوراق، واتسعت المساحات، واحترف الكثيرون لعبة الرقص على الحبال البهلوانية، فها هو يبشر بولادة شاعر جديد لا تذوب معانيه إلا بذوبان الثلج الذي يتغلغل في حنايا الأرض العطشى، ولا تهطل فراشات غيومه مع المطر إلا في مشاتل الضوء لتبشر بموسم ربيعي جديد، وهنا قال: كلما ولد شاعر باللغة المحكية، تصبح الدنيا أحلى وسكنى الأرض أجمل وأطمئن أنا. ثم يتحدث عن المقاربة بين الشعر المحكي والشعر الفصيح عادّاً الشاعر الدكتور إياد في قصيدته المحكية لا يهدم نظاماً شعرياً بفوضوية المخرِّب للموروث بل يعمر نظاماً جديداً هو أساس لفصحى الأيام الآتية، ويسأله شاعرنا الكبير طلال حيدر في ختام مقدمته: هل تكمل الطريق يا إياد؟!. وما هذا السؤال إلا تأكيد أيقن فيه الأمل الذي فيه يكون
الاستمرار والنمو بالتفتق والتبرعم لرفد القصيدة المحكية بنسغ جديد وهو أحد أهم ينابيع الشعر والإبداع .

هذا هو الشاعر المجلي الدكتور قحوش الذي عرفناه منذ كان طالباً في كلية الطب بجامعة حلب، حيث حقق جماهيرية واسعة بقصائده المحكية ذات البعد الوطني الصادق، وكذلك سحر الإلقاء الذي يلوِّن إيقاع الكلمة، وحضوره الآسر العجيب، أما قصائده الغزلية فمميزة بموضوعاتها المبتكرة، وتعابيرها الرشيقة، وصورها الخلاقة، وعذوبة انسيابها، وكنا على موعد في دمشق الفيحاء عاصمة الياسمين يوم كان يسافر بعيداً بأجنحة الشعر اللاهوتي الديني الذي يقرع أبواب السماء بتراتيل وترانيم تفتح آفاق الوجدان بالكلمة الروحانية، والمعبرة عن اختلاجات النفس وتهويمات الروح فإذا به يأخذنا إلى ذلك العالم المقدس الذي لم تدنسه أدران الخطيئة، ولم يكن ينحاز إلا للسرمدي الخالد خلود الزمان. وكذلك كان يتألق بحضوره في حمص وريفها، الريف الذي هو من واديه الجبراني الذي هو ابنه وراعي غيومه ورفيق طبيعته الخضراء التي لم تفارقه في مهجره النائي البعيد.

من هنا كان تساؤلنا دائماً: لماذا لا يضم شاعرنا الدكتور إياد هذه الفرائد في أضمومة تكون واحة تستظل بظلالها الوارفة الأجيال المعتنقة مبدأ الفجر وعقيدة المساء بالغزل والعطر والحب والسهر؟ وقد استجاب شاعرنا المسكون بهاجس الإبداع لهذه الرغبات، فأصدر باكورة أعماله بعنوان «بيتين وتنور» ثم تلاه ديوانه الثاني «كرم السما» وها هو اليوم يهدي لنا «مملكة ىالشتي» التي هي قصائد تتغنى بالمحبة في الحياة، وتعلن الانتماء للوطن، تؤكد رسوخ القيم النبيلة السامية، قصائد منسابة عفو الخاطر بسلاسة وممتزجة بالعاطفة المشبوبة بالحس، ومحلقة مع طيور الخيال، ومنسجمة مع إيقاع الشعر وموسيقاه فتجعلك تتفاعل معها فتتأثر بفلسفة بسيطة واضحة يندرج أسلوبها تحت مُسمَّى -السهل الممتنع- المتسم بألفاظ ومعانٍ بعيدة عن الرمزية المغرقة بالغموض، وإن كانت متواشجة بائتلاف وتناغم فتؤدي دلالاتها بالاستقراء والاستنتاج المعبر بعمق عن جوهر المضمون .

لقد أهدى الشاعر مملكته بهذه العبارة قائلاً: «هالكتاب بهديه لريحة عيونك وقت الصبح بعدو سخن»، ثم كتب تحت عنوان «بوابه»: طوفة هالعتمة ما في وديان تشربها يا سوريَّة ناعوستك أكبر من النوم.. في حزن كتير بس ما في يأس.. أنا ما عندي غير الشعر بحملو ترس وبمشي.. وما بخاف هالكتاب رح يكون معي بيوم القيامة منشان اقرا فيه بين ما طلع اسمي»، وبعدئذ قصيدة بعنوان «قصر السما» وفيها رؤيا للطبيعة والتكوين حيث قال فيها: «الشمس غال بهالسما، معَّلق ع باب الريح.. وفوق الجبل غابة فيها السجر علاقة مفاتيح». كم هو جميل رائع هذا التصوير! وكم هي جذابة فاتنة هذه التشابيه وهذه الحالة من التجلي! أما في قصيدته «روزنامة آخر المطاف» فيعلن النتيجة المؤلمة:

«بآخر المشوار فتحت هالدفتر وعديت هالأيام ليل نهار طلعو الليالي بهالعمر أكتر». ومن عناوين قصائد الديوان: دعسة فرس، غابة البخور، طقس بيزنطي، سجرة صوت، كيس النعس، كرّيجه، قجة ستي، حمْص، جنون الشعر، حواش المرايي- خيال ملوّن، خواتم ميّ، الموت، نسيان، خبز ونبيد. إنه الشاعر الدكتور إياد قحوش الحائز جائزة شربل بعيني في أوستراليا للإبداع المهجري والمتعلق بكل ذرة من تراب وطنه الحبيب، والذي لم تكن هجرته إلا بالجسد، لأنه يذوب بلوعة الاشتياق، ويكتوي بنيران الحنين، فيتمنى وهو في غربته: «ياريتني عا مفرق الوادي سجر زيتون ويقطفوني هالصبايا السمر، يا ريتني كفرون بالكفرون ياريتني مجنون ما بشتاق». ثم يتذكر حمص التاريخ.. حمص العاشقة زهوة الحياة فيتجمد ويغص بالدموع لما جرى لها، وما أصابها فيقول بأسى وشجن: «يا حمص جمدني البكي يا حمص وعم اسحب دموعي متل خيطان من جوات عينيِّ ياريت تفضى الذاكره قبل الدني ما تهبِّط عليِّ». ولأن أبناءه يحملون مورثات أب شاعر مفعم بالحساسية والنقاء وشفافية الانتماء، فهاهو يبحث عن القادم من الوطن عسى أن تصله الأمانة التي سيهديها لهم، وما أجملها من هدية، وما أحلاها من ذكرى:

«شفلي حدا يجبلي معو شي صوت من بياع عا بسطه بيبيع ميّ ونار يجبلي تلات حجار من مفرق الواديعندي تلات ولاد ورح اهْدِيُن بالعيد لولادي».

وباعتبار الشام -أم الدني- هي الصوت الأعلى الذي لا يغيب منذ الأزل، وماؤها المقدس بركة لابن آدم وحواء من بدء التكوين، فهاهو شاعرنا الخبير بمزج الألوان والقادر المؤمن بشريعة الخلاص يتعمد بجرن الحقيقة وماء اليقين وهو بهذا يقول: «بريق السمع صبيت منو شوي عادييِّ وغسَّلت وجّي
كيف شفت السما قدَّام عينيِّ سرحت زمان رخام يمكن ع ديِّ سكبت صوت الشام.» أجل إنه الشاعر الذي بصوته الشام، وبوجهه الشام، وبقلبه وجوارحه خفقات الشام وخلاياها، فبوركت يداك وعاش صوتك لأننا نعتز ونفاخر بك شآمياً أصيلاً، ونتباهى ونكبر بلهجتك في عالم الشعر المحكي الواسع .

بقي أن نؤكد أن هذه الرحلة ما هي إلا تعريف بعالم رحب لإنسان دكتور يعيش في بلاد الاغتراب، ولكن هويته لم تزيَّف لأنه شاعر، وهذه الرحلة لا تغني عن قراءة ديوان «مملكة الشتي» للفائدة والاستمتاع بكل ما يحتويه بين دفتيه من وحي ونبوغ يتجلى في قصائده المحكية، بأسرار كلماته، وانعتاق خيالاته حين تعانق السماء والغيوم، فيقطر الغيث، وتلوِّح المناديل لموسيقا الشتي، وتعلن عرس المطر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى