د. خالد محمد عبدالغنى - مقال العمر أو مقال لا يؤتى مرتين (الأستاذ: حسين عبدالقادر)

في بهاء الصحبة:

صحبت العلامة الأستاذ الدكتور حسين عبدالقادر منذ 22 يناير 1995 ومن المفارقات أني كتبت هذا العنوان دون الإطلاع على ما كتبه هانز ساكس حين وصف فرويد في أكثر من موضع بالبروفيسور "الأستاذ" كان "فرويد" الأب بالنسبة للأطفال و"سيجي"اختصار سيجموند بالنسبة للسيدتين "يقصد زوجته وأختها"، وكان "البروفيسور"في دائرتنا من الأصدقاء والأتباع -. وعاصرت أحداثا كثيرة وقعت له وأحداثا أكثر اختصني بها حتى حفظت سيرته الذاتية عن ظهر قلب، وقرأت كل حرف كتبه طوال تاريخه العلمي، وحدثني الأستاذ قائلاً : " أن المحلل النفسي العلامة سامي علي - إبان عودته من باريس - عرض عليه العمل معه في آداب الإسكندرية معيداً في النصف الأول من الستينيات من القرن الماضي وأنه رفض ذلك العرض مفضلاً العمل في المسرح القومي، ولعل هذا ما دفع العلامة مصطفى زيور ليعلق على ذلك لاحقاً "كنت أعرف موقفك الفن قبل العلم". وذكر كيف ناداه زيور بعد أن فشلت محاولة دراسة الأسرى الاسرائيليين بعد حرب أكتوبر 1973 أسوة بما فعله هيركابي – المحلل النفسي ورئيس المخابرات - مع الجنود المصرين بعد 1967، يا "حسين" الربيع الذي كنا نحلم به غادرنا إلى شتاء عاصف".وكم حدثني عن دوره الفاعل في اعتصام نقابة الفنانين عام 1987 ، وعن دوره في تأسيسها وتولي مهمة سكرتير النقابة، وعاصرت جهوده وإعداده لمشروع تأسيس نقابة للمهن النفسية، ودوره في تأسيس ورئاسة الجمعية المصرية للتحليل النفسي وشاركت في المؤتمر الدولى حول العنف والارهاب عام 2008 والذي نظمته الجمعية برئاسة شرف مصطفى صفوان ورئاسة المؤتمر كانت للأستاذ بالطبع، وعاصرت تأسيسه لمجلة التحليل النفسي الصادرة عن الجمعية، وعرفت اهتمامه بالتمثيل منذ نعومة أظافره إذ قام بأداء دور عمر بن الخطاب في مسرحية "عمر والعجوز" وهو لما يزل دون السادسة وبلغ اهتمامه ذروته في مرحلة الدراسة بمدرسة على مبارك الثانوية بالقاهرة، ومشاركته في المظاهرات الطلابية ضد الملك قبل عام 1952، وأعماله في المسرح القومي وقت ازدهار المسرح في الستينيات وجوائزه كممثل أيام دراسته بالجامعة ،وكمخرج في مسرح الجامعات لسنوات متتالية، ودوره الرائد في تكوين فرقة الغد للعروض المسرحية التجريبية، وحضورى لأنشطة وفعاليات وعروض الفرقة والتي حضر بعض عروضها المحلل النفسي العلامة مصطفى صفوان في أواسط التسعينيات، وجهده في التدريس بأكاديمية الفنون وجامعة عين شمس والمنصورة والزقازيق بل وأكاديمية الشرطة، وطريقته الفريدة في مناقشة أطروحات الماجستير والدكتوراه التي تعد درسا لمن يريد أن يتعلم كيف تكون المناقشة، وصحبته لمؤتمرات الجمعية الفلسفية المصرية وحديثه عن الأجواء التي كتب فيها كتاب "بوش الصغير من إدمان الخمور إلى إدمان الحروب"، ومؤتمرات رابطة الأخصائيين النفسيين، والمؤتمر الدولى الثالث حول العنف الإرهاب والذي نظمته الجمعية المصرية للتحليل النفسي وكيف أنفق من ماله وجهده وصحته وانتقاله لبلدان عدة كي يعقد المؤتمر ، ومعاصرتي ومرافقته في برنامجه التليفزيوني "اللهم اجعله خيرا" والذي استضاف فيه كل اساتذة علم النفس في مصر تقريبا، وكيف حقق أعلى نسبة مشاهدة؟.وهنالك أمران فقط لم أتمكن من معرفتهما وهو أن أجلس في مدرجات الطلاب أمامه لأتعلم منه وأحدد معالم طريقته في إلقاء الدرس، وكيفية إشرافه على الأطروحات الجامعية فهذا مما فاتني ومما آسى عليه في آن ولكنها الأقدار .لكن الحظ أسعدني بحضور دورة تدريبية نظمتها الجمعية المصرية للتحليل النفسي، وألقاها الأستاذ حول "العلاج الجماعي والسيكودراما"، في الفترة من 7 إبريل وحتى 13 مايو 2015 ، ويالها من محاضرات وطريقة عرض وأداء وحضور ذهني ومعرفي، لقد تجلى فيها الأستاذ كما كنت أستمع إليه منذ أكثر من عشرين عاماً في ندواته العامة ومناقشاته الجامعية وأحاديثه الخاصة.

بين الهمة والهمود:

كنت من تلك القلة التي وضعتها الأقدار في صحبة رجال عظماء سواء في مجال الفكر والعلم والأدب والثقافة والفن والدين، فمنهم من صحبته سنوات ومنهم من كانت صحبته لقاءات عابرة وسريعة ولكنها تركت أثرها في نفسي وامتد فيما بعد، وكنت على يقين أن الأستاذ الحق هو من يحرص على أن يقف تلاميذه بجواره لا خلفه، وبخاصة أني رأيت تلك الصفة – الحرص كل الحرص من أساتذة الجامعة على أن يقفوا وحدهم، ويقف تلاميذهم على مبعدة منهم بحيث تنمحي كل فرصهم في الظهور أو حصد القليل من الشهرة والإنتشار بل ويكادون أن يقفوا حجر عثرة في طريقهم إذا ما بدت منهم أمارات النبوغ والإبداع، ولكن أن يحرص الأستاذ – أي أستاذ – على أن يقف تلاميذه أمامه فهذا ما قد صدمني وبدَّل ما عشت أعتقده لسنوات فلقد أتيحت لي فرصة تلبية دعوة الأستاذ لي لحضور ندوة بجماعة الرواد، وقدم دفتر تسجيل الحضور ولما كان الأستاذ سيكتب البيانات فقد كتب اسم كاتب هذه السطور أولا، وصفتهأستاذ جامعي، ويليه حسين عبد القادر – هكذا بلا ألقاب ويشغل الأستاذ منصب نائب رئيس الجمعية التي تأسست عام 1929. وكانت الندوة في تمام الساعة الخامسة بعد العصر من يوم الجمعة الموافق 13 مارس 2015). - ومنذ أن تعرفت على الأستاذ وأنا أدفعه دفعاً - لكتابة سيرته الذاتية - يصل لحد تجاوز الممكن من فروق المكانة والعمر والعلم و,,,وو– وهو بسماحة الأب ورهافة حس الفنان وعمق رؤية العالم وحدس الصوفي يقبل مني هذا التجاوز الذي لا يقف وراءه غير الحب وحده -.. لكي يكتب لنا سيرته الذاتية التي أراها مليئة بالأحداث والذكريات التي تتصل بهموم الوطن والعلم والفن وذاته المبدعة، فهو المناضل الذي يؤثر الكتمان عن البوح ويخفي دوراً كان من الممكن أن يدفع حياته ثمنا لهمنذ ان كان طالبا بالتوجيهية – الثانوة العامة الآن- ، وهو الفنان الذي آمن بالفن وبقدرته على تغيير الذات والواقع لما هو أفضل، والمسرح تحديداً كان وجهته الذي إلتحق به في بداية الستينيات من القرن العشرين، وهو المحلل النفسي الذي صنع نفسه بنفسه وقدم أطروحتي ماجستير ودكتوراه غير مسبوقتين ولا ملحوقتين وثلاث بحوث ميدانية لفاعلية استخدام السيكودراما في علاج الاكتئاب والجناح والمدمنين، ودراسات في التحليل النفسي والدين والسينما والمسرح والسياسة والتاريخ، فهوالإنسان في صورته المتعالية عن الصغائر، المجامل لأقصى درجات المجاملة حتى مع تلاميذه، دمث الخلق والمعطاء بلا حدود ، وكان دائماً ما يرى بأنها سيرة عادية ليس فيها ما يستحق أن يقال، وإذا قيل فلمن ينقال؟ - بحسب تعبيره هو-، وهذا كله من معالم تواضعه لا أكثر، ومرت السنوات وإذا بي ألح عليه في أن يكتب كتاباً عن التحليل النفسي عارضاً فيه للنظرية وما لها وما عليها وفعلاً تحددت بعض اللقاءات لكي أقوم بالكتابة في حين يملي الأستاذ عليَّ ما يريد، ولكن ظروف محل إقامتي منعتني من تنفيذ تلك المهمة،وخلال المؤتمر الدولي الثالث حول العنف والارهاب والذي نظمته الجمعية المصرية للتحليل النفسي، بزغت في نفسي الدعوة لإصدار كتاب تذكاري تكريماً للأستاذ ولكن حالت دون تنفيذه موقفه الرافض لصدور مثل هذا العمل وهو بين ظهرانينا، وبعد عدد من السنوات جمعت كل ما كتب من دراسات وبحوث وتقديماتللكتب ومقالات عن سير أعلام علم النفس والتحليل النفسي ليضم "الأعمال المجمعة للأستاذ"وكان الإتفاق على صيف عام 2013 لتنفيذ المهمة والانتهاء منها ولكن الفكرة توقف تنفيذها أيضا.
وظلت فكرة الكتابة عن الأستاذ بين الهمة والهمود تذهب وتعود خلال أكثر من عشرين عاما وهو دائم الرفض لأي نوع من الإحتفاء به وتكريمه ما دام حياً – طبعاً موقفي ضد هذه الفكرة -، وهو الذي كان حفياً بأستاذه مصطفى زيور فجمع تراثه العلمي ونشره في حياته بمناسبة بلوغه الثمانين، وبمقدمة زميل آخر آثره على نفسه وظل مخفياً دوره وزاهداً في إبراز جهده هذا ( مصطفى زيور: في النفس "بحوث مجمعة" دار النهضة العربية. بيروت. 1986. تقديم : أحمد فائق.)، وليس هذا فقط بل كتب العديد من مقدمات الكتب لعدد من التلاميذ والزملاء بل والأساتذة منهم صلاح مخيمر: في إيجابية التوافق.1981.خالد السيد : الحياة على إيقاعات الموت. 1996.، أحمد فائق : مدخل إلى علم النفس: 2002. فرج أحمد فرج: التحليل النفسي وقضايا العالم الثالث. 2007. ونيفين زيور: النرجسية من فرويد إلى لاكان. 2005، خالد عبدالغني : الذكاء والشخصية. 2007، قيس جواد العرادي: رايش والتحليل النفسي. 2014. كرمن سويلم : سيكولوجية الأزواج والزوجات العقيمين، 2015، وكتب أيضاً محتفياً بعدد من الشخصيات الذين كانوا له بمثابة الأساتذة والزملاء ( مصطفي زيور، وعبد العزيز القوصي، ولويس مليكة، وصلاح مخيمر، ومصطفى صفوان، وسامي علي، وفاروق عبد القادر.وفرج أحمد فرج). ولما كان بين يدي عدد من المؤلفات حول حياة وأعمال مؤسس التحليل النفسي سيجموند فرويد سواء من ينتقده بشدة أو يذكره بكل الخير(هانز ساكس: فرويد أستاذي وصديقي. ترجمة سعد توفيق. الهيئة المصرية العامة للكتاب. القاهرة. 1985. لجنة الرواد ومشاهير بدار ومطابع المستقبل: فرويد حياته وتحليله النفسي. مراجعة أحمد عكاشة. دار ومطابع المستقبل. القاهرة. ب ت. إريك فروم : فرويد. ترجمة مجاهد عبدالمنعم مجاهد. مكتبة دار الكلمة . القاهرة. 2008.وكتاب بيرنارد مولدورف حول فرويد وأعماله الصادر في بارس عام 1976). وكذلك كتاب عن زيور والتحليل النفسي في مصر- (مصطفى صفوان وسامي على وأحمد فائق وحسين عبدالقادر: مصطفى زيور في ذكرى العالم والفنان والإنسان. معهد اللغة والحضارة العربية / المركز الثقافي المصري. باريس. 1997ً).وكتاب عن المحلل النفسي "فيلهلم رايخ"– (قيس جواد العزاوي: رايش والتحليل النفسي أضواء على سيرته العلمية والعملية. القاهرة. دار أفاق للنشر والتوزيع. 2014). وأيضاً ما كتبه فرويد عن حياته والتحليل النفسي– (سيجموند فرويد: حياتي والتحليل النفسي. ترجمة جورج طرابيشي. دار الطليعة، يروت. 1981).
ولابد إذن من الكتابة عن الأستاذ وإبراز دوره باعتباره حق للاجيال الجديدة من دارسي علم النفس ومحبي الفن والأدب. وأني لمسرور بالكتابة الآن عن الأستاذ ولعل ذلك الإنتظار المتأرجح بين الهمة والهمود كان مؤرقا لي، ولعلي تأكدت أيضا مما يشير إليه هانز ساكس أن فرويد قال له مازحاً :" ما عرفت شيئا أكثر سرفاً من كل ذلك الفحم اللازم لإذكاء نار الجحيم. كان الأفضل إجراء المحاكمة المعتادة مباشرة والحكم على المذنب بالشئ مئات الألوف من السنين، ثم يساق إلى الحجرة المجاورة ويترك لينتظر فحسب إذ سرعان ما يصبح الانتظار عقاباً أسوء من الحرق بالفعل".

في الطريق إلى 22 يناير 1995:

أنهيت الدراسة الجامعية الأولى بقسم علم النفس بآداب بنها في مايو 1992 ضمن أعضاء الدفعة الثانية، فقد كان القسم وليداً يومذاك، وبه عدد لم يتجاوز أصابع اليد الواحدة من المدرسين، ولم يحظَّ خريجوا القسم بمعرفة عن التحليل النفسي تتجاوز فصلاً واحداً في مواد تاريخ علم النفس أو الإرشاد النفسي أو نظريات الشخصية، وكانت مكتبة الكلية فقيرة فيما يتصل بكتب علم النفس بعامة، وكانت أشد فقراً فيما يتصل بكتب التحليل النفسي، وقادني قدري للإلتحاق بقسم علم النفس بكلية الآداب بجامعة عين شمس لأدرس السنة التمهيدية للماجستير وبعدها دبلوم علم النفس الكلينيكي أعوام (1994 – 1995 – 1996) وكانت مادة التحليل النفسي يدرسها العلامة خالد الذكر المرحوم فرج أحمد فرج في الشهادتين وكان المحتوى يدور حول إسهام جاك لاكان ومدرسته في التحليل النفسي. ودرست مقال مرحلة المرآةوجدل الإنسان بين الوجود والإغتراب. وكتاب ريتشارد بوثبي "الرغبة والموت"، وكتاب مالكولم بوي "فرويد ، بروست ولاكان– قصة نظرية -".
وذات يوم في معرض القاهرة الدولى للكتاب كنت أتجول بين صالات عرض الكتب، وقاعات الندوات والأمسيات، وبعد الظهر بقليل، تدفعني قدمايَّ للمشي أمام المقهى الثقافي فإذا بلوحة إعلانات مكتوب عليها "احتفالية عن مصطفى زيور" وعلى الفور أتطلع للباب، وولجته بسرعة فائقة وكان الحضور متوسطاً فتقدمت الصفوف لأجلس بالصف الأول من جهة اليمين،وأمامي المنصة، ومقدم الندوة في المنتصف وعن يمينه أحد المتحدثين رجل يقترب من الستين عاماً يرتدي بدلة بنية اللون وكوفية قريبة من ذلك اللون، ربعة لا هو بالطويل ولا بالقصير ولا بالسمين ولا النحيف، أبيض البشرة في حمرة قليلة كأنها اللون الوردي، ولعل ذلك يعود لأصول شامية هكذا ظننته، قصير الشعر نصفه أبيض اللون تقريباً، يفرقه جهة اليمين، أفلج السنتين الأماميتين العلويتين، عريض الجبهة، واسع العينين - لقد دخلت الندوة ومقدمها قد عرفه فلم أتبين اسمه، وأخذ يتكلم، فظننته أحد الذين كانا مكتوبين على اللافتة – وما إن انتهى من حديثه إلا وأخذت أصفق له مستمتعاً بحديثه المنساب في يسر جدول الماء العذب الذي خبرته طفلاً في حقول القرية، وما بصوته من طلاوة كنت قد تعودت عليها من كثرة استماعي للإذاعة لسنوات طويلة، وبلاغة في مفرداته وصوره وتشبيهاته كنت قد خبرتها في الأدب والشعر، ودقة في ضبط مخارج الحروف والألفاظ وإعرابها كنت قد خبرتها في دروس التجويد وقراءة القرآن وسماعي لكبار القراء ، وإيقاع صوتي كما في ألحان الموسيقا – سنعرف بعد حين في تسجيله على جهاز الرد الآلي في التليفون كم في هذا الصوت من جمال ! - وتعبيرات وجهه ويديه وابتساماته خلال الحديث مما يجعلك تحس بقربك منه وكأنه يوجه الكلام لك وحدك دون الحضور جميعاً، وانتهت الندوة وعلى الفور قادتني خطواتي المتثاقلة نحوه، فها هو قد غادر المنصة ليصبح في منتصف المقهى الثقافي تقريباً، واقفاً ظهره للباب ووجهه للمنصة،،
- السلام عليكم
- فرد وعليكم السلام
- "لا فض فوك" ما كل هذا الجمال؟!!
- حضرتك د.فلان..
- بابتسامة ...لا..
- الزميل من أين؟ - تبينت أن المقصود بأين ؟ جهة العمل وفي أي جامعة أو أي قسم لعلم النفس أكون.
- أنا لا أعمل بالجامعة، ولكني أدرس تمهيدي الماجستير بقسم علم النفس بآداب عين شمس هذا العام (1994- 1995).
- حسناً..- وأخرج كارت من جيبه، وأعطاه لي ماداً يده وابتسامته في آن .. "لازم نلتقي....... يسعدني ذلك" -.
أخذت الكارت – كان صغير الحجم على غير المعتاذ ومكتوباً فيه "حسين عبدالقادر .. رقم هاتف المنزل.. وكان من الممكن أن يكتب فيه يومها ما يلي" - كما عرفت فيما بعد - "أستاذ التحليل النفسي بجامعة المنصورة، فنان قدير بالمسرح القومي، محلل نفسي، أستاذ التحليل النفسي بجامعة عين شمس وأكاديمية الفنون وسكرتير نقابة الفنانين سابقاً. كل هذه الألقاب هي بعض حقه، ولكنه تنازل عنها طواعية واكتفى باسمه فقط، وله الحق كل الحق في ذلك، فما هو بمن يحتاج للقب وظيفي يستتر وراءه، ولعلها صفة التواضع والاقتراب الحميم من الناس دون النظر لوظائفهم.
كان هذا هو اللقاء الأول الذي جمعني بالأستاذ، وبعد أن كتبت مسودته قرأت ما كتبه هانز ساكس عن لقائه الأول بفرويد فتعالوا نقرأ ما كتبه لعلنا نقف على أوجه للشبه أو المفارقة: "أما الآن فالنوافذ معتمة والضوء الوحيد ينساب من مصابيح قليلة استقرت على منضدة المحاضر، وخلعت صفوف المقاعد المتصاعدة الخاوية على القاعة مظهراً شبحياً، ولما كنت أعرف تمام المعرفة حيائي وتخاذلي أمام أية مغامرة جديدة، ولو كانت مغامرة متواضعة مثل هذه، فقد اصطحبت معي ابن عمي، آملاً أن يزودني وجوده بالشجاعة اللازمة، ولكني شعرت في هذه الظروف بخوف يتزايد كل لحظة، وعندما دخل سيد نصف واضح أنه أستاذ، اتجهت صوب الباب، هامساً لابن عمي في اضطراب أننا قد أخطأنا المكان، فماذا كان عساه يحدث لو نجحت محاولتي في الهرب؟ يقيناً، كان دخولي مجال التحليل يتأخر سنة أو أكثر، لكن كان من المستحيل أن تأخذ حياتي كلها مجرى مغايراً. ولحسن الحظ لم أفلح. كان السيد النصف الواضح، والملتحي لحية بلون القسطل، نحيلاً متوسط الحجم، وكانت عيناه عميقتين نفاذتين وجبهته ذات ارتفاع ملحوظ عند الصدغين. قال بألطف طريقة، مشيراً لصف من ثماني أو عشر مقاعد في نصف دائرة بمقدمة المقاعد، قرب منضدة المحاضر، حيث جلس نفر من الناس: "هلا ازددتم اقتراباً وتفضلتم بالجلوس أيها السادة؟". واستجبنا لدعوته وعندما بدأ محاضرته فقدت حالاً كل أثر للحياء أو "الكف" فقد تحللت وذابت كلها في اهتمامي الشديد بما كان يقوله وبإعجابي بالطريقة التي قالها بها وكان التأثير يزداد امتداداً وعمقاً كلما ازددت إصغاءً وتعلماً. وتبدد حيائي الذي أزاحه جانباً عند لقائنا الأول وتلاشت معه موانع أخرى كثيرة وعقبات داخلية كانت تعترض طريقي، كانت الكراسي قد صفت في مقدمة المقاعد الخاوية لأن فرويد كان يكره أن يعلي صوته الذي كان ينقصه ما يدعى بالرنين "المعدني" في هذه الأصوات".
وعندما تفضل الأستاذ وكتب لي مقدمة كتابي "الذكاء والشخصية "عام 2007 قال عن لقائنا الأول : "في يوم زمهريري ما كان له أن يبدد دفء سويعات كانت يومها بعض نذرٍ للوفاء لمن كان له عليَّ وعلى غيري فضل النشأة العلمية والتكوين "العلامة خالد الذكر مصطفى زيور "كان اللقاء مع الزميل والابن الدكتور خالد محمد عبد الغني، فيومها ومنذ ما ينيف عن عقد من الزمان كان اللقاء.... شابٌ طُلْعَةٌ يقبلُ في نهاية لقاء بمعرض الكتاب المصري السنوي بأرض المعارض حيث كنتُ والعلامة فرج طه نتحدث عن أستاذنا "المصطفى" (مصطفى زيور)، وما أن انتهينا من الشجن المتجدد إلا والبرودة تسري من جديد بالأجسام، لكنها لا تبدد الأفهام, وإذ بهذا الشاب يندفعُ لتحيتي منادياً اسمي بزميل عزيز كان مقدراً أن يتحدث معنا، لكن حالت دون حضوره ما حرمنا من متعةِ حديثهِ، ولم يشأْ منظموا اللقاء أن يغيروا اللافتة المعلنة عن اسمه، وهنا كانت المفارقة: مديحٌ يتداعىَ به خاطرُ ابنٍ مسكونٍ بالشعرِ والأدبِ (وخالد سيكون له بعد ذلك قصائدَ منشورةٍ، ومذاعةٍ، وقلمِ أديبٍ إذ يكتبُ عِلماً)، لكن المفاجأةَ تولدتْ من المفارقةِ، إذ ناداني باسمِ الزميل الأعز، وكان في البسماتِ ما يبدلُ حَرَجَهُ، لتتآصر المشاعر، وتتأجج علاقةٌ أحسبُها تحملُ – في البدءِ على الأقل - ملمحاً لنبضٍ طرحيٍ، والطرحُ لمن يعرفُ التحليلَ النفسيَ، ليس بعداً فحسبْ بين المحلل ومريضهِ باعتبارهِ جوهرَ كلِ علاجٍ سواء أقره المعالج وعياً بهِ، أم غابَ عنهُ دورهُ، فهو وجودٌ بالقوةِ - بأيٍ من شِقَيْهِ الموجب (حباً) أو السالب (كرهاً) في كل علاقة إنسانية -. وتتعدد اللقاءات مع طالبِ علمٍ نابهٍ من أولئك القلة من عطشى المعرفة.
هذه كانت رؤية الأستاذ لما نشأ بينه وبيني من علاقة، لا أود أن أعيد شرحها ولكن رؤيتي لها بعد كل تلك السنوات والأحداث أحسبها قامت منذ اللحظة الأولى على ما يمكن أن أسميه الإستبصار بالذات والمصير وإسقاطه على شخصية الأستاذ ، وبناء عليه فقد وعيت / أدركت منذ اللحظة الأولى بأني أحب أن أكون مثل هذا الرجل الذي أراه وأسمعه للمرة الأولى في حياتي، وأنا يومئذ عاشق للفن والأدب والمعرفة بكل أشكالها، وأستطيع وبكل دقة أن أميز الغث من الثمين، وأقدر العلماء كل بقدر ما قدم من علم ومعرفة وإلى هنا يكون الوعي "الشعور" قد حدد معالم طريق للمستقبل.

في بيت الأستاذ:

مرت الأيام بعد ذلك اللقاء الأول ومعي رقم الهاتف وتدعوني أشياء لكي أتصل بالأستاذ الذي لم أعرف عنه غير ما ظهر لي في اللقاء،، وفعلاً يتحقق الإتصال ولكن ماذا أسمع... مقطوعة موسيقية أغلب الظن أنها من التراث العالمي.. وصوت ندي يأثرك دون أن تدري يقول :"من فضلك أترك اسمك ورقم هاتفك ويقيناً سيسرني الإستماع لصوتك". ومن حلاوة تلك الإيقاعات الصوتية كنت أكرر الاتصال لسماعها.
وأخيرا كان الحوار التالي :
متى تحب أن أزور سيادتك؟
قل أنت فأنت من ستأتي وأنا موجود دائما.
وفعلاً تحدد الموعد للقاء في البيت، وأخذ السؤال يلح على ذهني ما الذي يدفع أستاذ بجامعة المنصورة – هذا كل ما أعرفه ساعتئذ - أن يرحب بزيارة طالب بالسنة التمهيدية بآداب عين شمس له في بيته؟ .
ولم أستطع أن أسأله هذا السؤال حتى الآن، وعبرت الطريق ودخلت العمارة وصعدت السلم وتعثرت قدمي ووقعت فالسلم دائري والمصباح مطفئا وضغطت على الجرس وفتح الباب نصف فتحة تقريباً بحيث تدخل بجانبك، كان يكفيني أقل من ذلك بكثير فقد كنت نحيفاً للغاية، وعندما ولجت قدمي وقعت عيني على الجانب الأيسر لمدخل البيت فإذا به ردهة طويلة تملؤها الكتب من الأرض وحتى السقف وهذا هو السر في فتحة الباب الضيقة، وعندما تعبر تلك الردهة تقابلك السفرة ومن فوقها ومن أسفل منها الكتب المصفوفة في كل الجنبات وفي آخرها باب البلكونة المليئة بصناديق الكتب، وعن يسارك وأنت تقف أمام البلكونة حجرة الصالون المليئة بالكتب في جهاتها المختلفة - أعرف فيما بعد أنها تلك الحجرة الذي يستقبل فيها الأستاذ مرضاه - ، فيطلب منك الأستاذ بعد الترحيب والكلمات الرقيقة أن تجلس فلا يسعك إلا أن تستجيب له، وأنت مبهور بكل تلك الكتب التي وضعت على الرفوف بطريق يجعلك من العسير الوصول لما تريد بسب كثرتها، ثم تأخذ عينك بعض اللوحات المبثوثة هنا وهناك لتقرأ فيها عبارات أعرف أنها من أشعار المتصوفين وموقعة باسم سامي علي- سأعرف بعد ذلك أنه أد.سامي محمود علي الاستاذ بجامعة باريس 7 ومؤسس وحدة الأمراض السيكوسوماتية بها وترجماته لمؤلفات فرويد وغيره وكتبه المؤلفة سواء بالعربية أو الفرنسية وعلاقة الأستاذ به منذ أن درس على يديه في دبلوم علم النفس الإكلينيكي عام 1965 بآداب عين شمس. فهو الفنان الذي رسم تلك اللوحات ولابد أنها من إهدائه، وكتب بالفرنسية لمصطفى صفوان - مصطفى صفوان علم اللاكانية في العالم وأنه مقيم في باريس منذ ما يزيد عن خمسين عاماً وأقرأ له بعض الأعمال وليحكي لي الأستاذ عن تلك العلاقة الطيبة التي تجمع بينهما وتلك الزيارات السنوية لباريس وحواراته ولقاءته مع أعلام التحليل النفسي هناك وجهوده في التعريف بالتحليل النفسي في مصر وموضوعات أخرى كثيرة حدثت على مدار السنوات الطويلة التي بلغتها تلك الرحلة الصيفية الباريسية، وليتحقق لي في عام 2008 رؤية العلامة صفوان عندما كنت في شرف استقباله في مطار القاهرة لكي يكون رئيس شرف المؤتمر الدولي الثالث للمحللين النفسيين العرب حول العنف والإرهاب والذي نظمته الجمعية المصرية للتحليل النفسي بالقاهرة . - وبالإنجليزية لفرويد وغيره، وما إن تجلس على المقعد وأعلاك شباك الغرفة وتنظر إلى يسارك حتى تطالع صورة أبيض وأسود للأستاذ في صدر شبابه، ويسألك الأستاذ ماذا تشرب وماذا تأكل؟ ولابد أن تصيب من كليهما حسب استطاعتك إذا ما أردت أن يبدأ اللقاء . فتقول لا أريد شيئاً فيرد عليك لا ..لا .. لابد يا سيدي، فيغيب لحظات ويعود عارضاً عليك ما جاء به ومتسائلاً كم ملعقة سكر ليضع بنفسه السكر ويقلب الشاي ويدعوك لتتناوله مع غيره مما هو متاح لديه وهو كثير بالطبع، وليبدأ الترحيب والسؤال للإطمئنان والحفاوة والتقدير، وأسأله أين تعمل سيادتكم؟ فيرد في جامعة المنصورة قسم علم النفس. ويقص علي كيف ترك عين شمس؟ وكيف عمل بالمنصورة؟ فأسأله ألم تدرس في عين شمس؟ بلى ولمدة 14 سنة تقريباً. ويحاول معرفة كيفية التدريس يومذاك ومن يقوم بالتدريس فأخبره بما علمت، حتى علم أني من خريجي كلية الآدابجامعة بنها فيستطرد عن علاقته ببعض أساتذتها ممن كانوا تلاميذه يوما ما.
وماذا أيضاً؟ فيقول عرضوا علي حالياً منصب مدير فرقة الغد للعروض التجريبية. ويمد يده ويعطيني كل ما يتعلق بالفرقة من المقالات والأفكار والتدريبات والعروض المسرحية الخ. وينتهي اللقاء.. ويتكرر مرة ومرات وفي كل واحد منها يهبني بعض أعماله حتى كان أول كتاب يُكتبْ عليه إهداءً لي من أحد وهو كتابه "انحراف الأحداث والسيكودراما" 1994. وذلك في العشرين من أبريل 1995. جاء فيه " الزميل العزيز الأستاذ ..... عاطر الأمنيات لإبحار دائم لشطآن التفوق " - أي تواضع هذا الذي نراه ، وأي دفع للأجيال الجديدة، وأي نموذج يحتذى ، ومثل أعلى يقتدى به ، وأي أفق نرنوا إليه، إذ يخاطب تلميذاً لم يتجاوز الخامسة والعشرين من العمر ويناديه بالزميل، حتى كانت الذكرى العشرين لصحبتنا فكتب في إهدائه – لي - لكتاب رايش والتحليل النفسي(قيس جواد العزاوي: رايش والتحليل النفسي "أضواء على سيرته العلمية والعملية". تقديم : حسين عبدالقادر. القاهرة. دار أفاق للنشر والتوزيع. 2014). والذي كتب مقدمة رهيفة ومهمة له:" الزميل العزيز ........لعشرين عاماً سعدت فيها بمفكر وعالم موسوعي المعرفة كسبه واقع أبحر في شطآنه لتخوم لا يقربها غيره،،". ألا ما أبهاك أيها الأستاذ!، وكان عندما يحب أن يعرض لقضية ما تجده وقد انتفض ليسحب كتاباًً أو عدة كتب من أماكن يعرفها بكل دقة، وبعد سنوات بلغت العشرين اصطحبني للدخول إلى الغرف الداخلية للبيت لأجد الغرف مليئة بالكتب حتى تلك الردهة الواصلة بين المطبخ والحمام وتلك الحجرات لم تسلم من وجود الروفوف عليها، وحتى دواليب الملابس مليئة بالكتب، ووجدت فيها ألواناً شتى من المعارف الإسلامية والفلسفية والفنية والأدبية والسياسية والاجتماعية بل والمخطوطات العريقة أيضاً مما تعد كنزاً حقيقياً، ولما صارحته بشعوري بأن بيته يذكرني بالجاحظ صدرت منه ابتسامة قليلة في هذه الأيام، وقال :"ولكن الجاحظ وقعت الكتب على رأسه فمات"، وأكمل قائلا:"لكن هل تعلم أن الثلاجة كانت هنا مشيراً إلى جهة من الصالة ووقعت الكتب فوق أحد الزائرين ذات يوم".
ولما ذهبت لزيارته لأعرض عليه خطة أطروحة الماجستير حول اضطرابات النوم ولأقول له :"إنها أول رسالة في الموضوع" فإذا به يقف ويصعد عدة درجات على أرفف المكتبة ليأتيني بكتاب أبو مدين الشافعي حول الأرق، والكتاب صادر في الأربعينيات من القرن العشرين، وكتب أخرى، ولما طلبت منه أن يحكم مقياس اضطرابات النوم ، قومه بكل دقة عارضاً أن تكون العبارات مفتوحة النهايات ليصبح في صورة شبه اسقاطية، وتمنيت لو أنه شارك في الإشراف أو المناقشة ولكن كل هذا لم يحدث لا في أطروحة الماجستير ولا الدكتوراه.
القراءة زاده اليومي:
فعادة القراءة التي شب عليها الأستاذ دفعته لإقتناء هذا الكم الهائل من الكتب في تنوعها واختلافها وكان في أيام مضت صديقاً وعارفاً لكل باعة الكتب القديمة والحديثة في مصر، وفي أحد الأيام فقد نسخة الدكتوراه عندما نزل لشراء بعض الكتب من سور الأزبكية ليفقد جهد سنوات من العمل والمشقة وليبدأ من جديد مرة أخرى فلم يكن لديه نسخة أخرى وكان في طريقه لأستاذه زيور للقراءة عليه .
ورأيته يقتني الكتب مهما كانت لغتها أو ثمنها أو مكان نشرها ولم أخبره عن قضية أو موضوع إلا ويحيطنى بمعارف شتى ومؤلفات عديدة، فقد صنع عالماً خاصاً به يلوذ به كلما ألمت به الملمات ويقضي مع تلك الكتب الساعات والساعات، فها هي الطبعات الأولى لمجلة علم النفس التي أصدرها يوسف مراد ومصطفى زيور، ومجلة الرسالة لأحمد حسن الزيات، وغيرهما الكثير والكثير، وها هي الكتب النادرة في علم النفس مثل "كتاب علم النفس للشيخ محمد شريف سليم"، وغيره، وكتب التراث العربي في طبعات نادرة تزين رفوف تلك المكتبة التي تحتاج جهداً فائقاً لتبويبها وفهرستها لكي تسهل عملية العثور على ما تريد منها، فهناك واقعة تشير بذاتها لذلك ففي أحد الأيام كان الأستاذ يعد مناقشة لإحدى الأطروحات حول الأب الرمزي في الثلاثية لنجيب محفوظ وكان يحب أن يراجع بعض صفحاتها ولما تعثر عليه الوصول إلى نسخة الرواية من المكتبة، خرج لشراء نسخة من الرواية، ومن المؤكد وجود نسخ عديدة لكتب بعينها في تلك المكتبة العامرة. وفي هذا كان الموعد ان أمر عليه والذهاب معا للمناقشة وعندما دخلت وكانت الكتب التي رجع إلها تملأ المكان بما فيها الكراسي إلا كرسيا واحدا تم انقاذه من هجوم الكتب لكي أسترح عليه ريثما يستعد الأستاذ للخروج ، وكان يحمل معه بعض المراجع في أثناء المناقشة ليراجع الباحث فيها وكانت أحيانا ما تكون كبيرة العدد وثقيلة الوزن ولكنه أبدا ما كان يقبل أن يحملها أحد عنه وهم يومذك كثير ، وبعد المناقشة كثيرا ما يلتف المريدون والتلاميذ حوله لاستكمال جوانب المناقشة التي يقرر دوما عنها أنه لم يقل إلا أقل القليل ويبدأ في استعراض بقية الجوانب والمناقشات التي قد تمتد لأوقات تقترب من زمن المناقشة الأصلي.
ولكني رأيته ذات يوم آسفاً حزيناً على فقد نسخة من الطبعة الأولى لتفسير الأحلام ترجمة مصطفى صفوان والتي درسها بالجامعة وفيها تعليقات بخط يده ومجلدة تجليداً خاصاً به، حيث أخذها أحد أصدقائه ولم يردها له، ولما سألته عن ترجمة أخرى صدرت لتفسير الأحلام لعبدالمنعم الحفني وكتب عنها أنيس منصور في جريدة الأهرام ، أجابني بإحاطة وشمولية عن الفارق بين الترجمتين وصاحبيهما منتصرا بالطبع لترجمة أستاذه وصديقه. وحينها شعرت أن الكتاب بالنسبة للأستاذ قضية فهو يعيش معه بعض الذكريات، ولم أر أحداً حريصاً على متابعة الجديد والنادر مثلما رأيته فما من كتاب أحدثه عنه إلا ويقول لي "ممكن نحصل على نسخة أو نصور نسخة" وربما كان لذلك بعض أثر في تكويني العلمي حيث حرصي على اقتناء الكتب والمقالات والبحوث التي كتبها الأستاذ خلال مسيرته العلمية.
إنها ليست مكتبة ولا بيت فهو بيت في هيئة مكتبة ومكتبة في إهاب بيت ، عموماً فهو يسكن فيه / فيها / ويجد فيه راحته ومتعته، أتمنى أن أجد أعماله الكاملة تأخذ حظها في تلك الرفوف فتكتمل بهجة مشاعري، وهذه أمنية شخصية أرجو تحقيقها.

ملامح من شخصيته في أعماله:

في أطروحة الماجستير للأستاذ (1974) كتب ثبت المراجع على النحو التالي: "قديماً حين كان المرء يستشهد بالقرآن – كان يذكر اسم السورة والآية، فكان كل مسلم ، كما هو الواجب، يشعر براحة الضمير والهيبة والطمأنينة، ولا يستطيع الدراويش المحدثون أن يفعلوا خيراً من هذا ..." ____ أيها القرآن الكريم أيتها الطمأنينة الخالدة. ثم يبدأ بالمراجع العربية ليبدأ الترقيم (حسين عبدالقادر : الفصام بحث في العلاقة بالموضوع كما تظهر في السيكودراما . رسالة ماجستير. كلية الآداب. جامعة عين شمس . 1974. ص 392)، ولعل سبب ذلك هو تكوين ديني آثر منذ الطفولة حيث قراءة القرآن وتدبر معانيه ومحاولة التمسك به سلوكاً في الحياة وأحسب أن ذلك التكوين الديني وإن لم يعلنه الأستاذ حياءً منه قد مر به مبكرا، وأنا الملازم له فقد سمعت منه كثيراً الإستشهاد بآي القرآن الكريم في مواضع مختلفة، وعندما يرتفع صوت الآذان من المسجدالمقابل لبيته يتوقف الأستاذ عن الحديث ، ويضعساقه اليسرى الت كانت على اليمنى إن كانت كذلك أو العكس إجلالاً وتعظيماً لكلمات الآذان، وكذلك الحال عند ذكر القرآن أو الأحاديث النبوية الشريفةففي واحد من لقاءاتي المبكرة معه جاء الكلام عن الجنسية الطفلية - وكنت أظن في نفسي فهماً ومعرفة كبيرة بالإسلام يومذاك – ثم استطرد الأستاذ في حديثه عن الباءة باعتبارها القدرة الجنسية، وعندها قلت :"إنها القدرة المادية"، فما كان من الأستاذ إلا أن أمسك بأحد معاجم اللغة العربية ليشكف عن المعنى الذي يعرفه جيداً ولكن ليعلمني ألا أتعجل في الرد. ولعلنا لا نذهب بعيداً فهو الذي كتب "الشك واليقين بين الدين والتحليل النفسي"، و"إشكاليات حول المشروع الحضاري والإنسانياتوقفة حول تخوم التحليل النفسي"، و"صفحات للنفس في التراث العربي بين بصائر السلف وإبداع الخلف وتعثر المعاصرين"، وفي كل تلك الأعمال نجد القرآن حاضراً وبطريقة ميسرة للفهم ومكملة للنص .
كما درس الأستاذ على يد أد. لويس مليكة في نهاية الخمسينيات وما بعدها، ولم يكن بينهما كثير من الود لأسباب عرفتها، ومع ذلك يقر الأستاذ دوماً بفضل الرجل ومكانته في تاريخ علم النفس والقياس النفسي وقال عنه : "علمنا ما لم يستطع غيره أن يعلمنا إياه"، بل وأكثر من هذا إذ تحدث عنه في حفل أقيم لتكريمه بجامعة عين شمس بعد رحيله. وهذا دليل على موضوعيته واعترافه بفضل أساتذته وإن اختلف معهم.
وعندما أهدى الأستاذ أطروحة الدكتوراه لأستاذه مصطفى زيور قائلاً " إلى العلامة الطلعة المحلل النفسي ووو...مصطفى زيور ولك العتبى حتى ترضى" (حسين عبد القادر : العلاج الجماعي والسيكودراما دراسة لجماعات من مرضى فصام البارنويا. رسالة دكتوراه. كلية الآداب .جامعة عين شمس. 1986) فهذا أيضا دليل آخر على احترامه وتقديرهلأساتذته، وعندما كتب عن عبدالعزيز القوصي وصلاح مخيمر مقالين ضافيين كان أيضا متسقا مع ذلك التقدير لهم.
ويقول الأستاذ "أنني – مع ولع بالتاريخ أعرفه في نفسي – أراني بصدد مبحث إذ أتجاوز فيه مع التاريخ، تاريخ التراث العربي للنفس، فإنني أستشرف المستقبل الذي يتحقق بالرجوع إلى الوراء لأصول فكرية هي على صلة بنا في بعضها. ولذلك وجدناه يكتب عن شخصية عباس الأول كتاباً لما يزل قيد النشر، وثلاث دراسات حول السينما التاريخية. وهو بهذا أيضا ممتد الجذور في ثقافته التاريخية والتراثية.
كان اعتقادي دوما أن الأستاذ يجمع بين بلاغة الجاحظ وعمق ثقافة وفلسفة أبي حيان التوحيدي، "والتوحيدي فيلسوف نفساني يتمتع بعين بصيرة نفاذة وروح نقدية ممتازة، فهو يفطن إلى عيوب الناس الخفية ، ويدرك حقيقة بواعثهم ولعل هذا هو السبب في أننا كثيراً ما نراه يغوص في طوايا النفس البشرية(زكريا إبراهيم: أبو حيان التوحيدي أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء . الهيئة المصرية العامة للكتاب . القاهرة. ط2 . 1974)، والأستاذ يكاد ينطبق عليه الوصف السابق الذي وصف به التوحيدي تماماً وكأننا أمام التوحيدي المحلل النفسي، أو المحلل النفسي العلامة وعالم الفلاسفة وفيلسوف العلماء حسين عبدالقادر، وقد بنيت هذا الاعتقاد على قراءة كل ما كتبه الأستاذ من مقالات أو كتب أو بحوث أو مسودات لمحاضرات ، ولكنى وجدت– ذات يوم - في مكتبة الأستاذ نسخة من كتاب مصطفى زيور "في النفس" مهداة إلى الأستاذ هكذا :"إلى فيلسوف مصر الأول حسين عبدالقادر... التوقيع مصطفى زيور". ففرحت جدا لهذا الإهداء لأنه صادف اعتقادا لي ، وهكذا وقع الكف على الكف،ووجدت فيه سنداً قوياً لما اعتقدته من بلاغة وعمق ثقافة وفلسفة وموسوعية الأستاذ.
نما إلى علمي أن هناك كتاباً للأستاذ صدر حول التحليل النفسي (حسين عبدالقادر ومحمد أحمد النابلسي: التحليل النفسي ماضيه وحاضره. دار الفكر العربي. دمشق. 2002). وحاولت الحصول على الكتاب ولم أفلح في حينه بسبب عملي خارج مصر يومذاك . وفي الصيف من عام 2005 حصلت على الكتاب واستمتعت بقراءته وأجريت معه حواراً مطولاً حوله، وفصَّل لي سيادته بعض أجزائه، وأكمل حديثه قائلا: "لقد أخذنا موافقة الجهات المختصة لإشهار الجمعية المصرية للتحليل النفسي وكم كابدنا لسنوات من أجل تكون الجمعية التي تأخرت لعقود طويلة منذ الرعيل الأول للمحللين النفسيين الذين كان عليهم القيام بهذا الدور، ولو كنتَ موجودا لكنتَ أحد المؤسسين الثلاثة عشر ولكن عملك خارج مصر كان مانعا ". فقلت:" فلا أقل من أكون العضو الأول بالجمعية وليكون ترتيبي رقم 14.ولا تزال الجمعية تقدم خدماتها وتفتح أبوابها لراغبي العلاج ودراسة التحليل والمشاركة في ندواتها وقبل سنوات كان اقتراحه بدخولي لمجلس ادارة الجمعية وإقامة العديد من الندوات لمناقشة أعمال روائية وشعرية والعمل على ضم أعداد أكبر للجمعية الوحيدة في العالم العربي للتحليل النفسي.

24 يناير 2011

أعلن المجلس الأعلى للثقافة عن حفل تأبين بمناسبة ذكرى الأربعين للناقد فاروق عبدالقادر أحد أبرز خريجي قسم علم النفس بأداب عين شمس والأول على دفعته ، وكان موعدها هو الإثنين الموافق 24 من يناير في السادسة مساء ، وكنت حينها مديرا لتحرير مجلة الرواية الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وقد عزم الناقد المرحوم عبدالرحمن أبو عوف مؤسس المجلة ورئس تحريرها أن نحضر الندوة وفعلا ذهبنا في الموعد وطبعا كان الأستاذ من ضمن الحضور المتحدثين عن الراحل فاروق عبدالقادر فقد كانا صديقين وصحبه في فترة مرضه الأخير حتى تم دفنه في مثواه الأخير وبالتالي فقد ألقى شهادة مهمة عنه في حفل التأبين وبعد ذلك صحبت الأستاذ حتى بيته، وكان النقاش يدور عما يعتزمه الشباب وما أعلنوه عبر الفيس بوك من الخروج والتظاهر بعد ساعات فقد انتصف ليل القاهرة ونحن نتكلم في تحليل ما يمكن أن يحدث، وما يمكن للسلطة أن تفعله من هؤلاء الشباب الغاضب من أجل موت صديق لهم، وكان استفاهمه الأكبر عن عدم مشاركة الإخوان في التظاهر ، وأخيرا ودعت الأستاذ منصرفا ومترقبا لما سوف تسفر عنه الساعات المقبلة من صباح يوم الثلاثاء الموافق 25 يناير 2011، وكان ما كان.

خاتمة:

وبعد تلك المسيرة الطويلة والزاخرة سألته كيف احتمل هذا الواقع المؤلم في العلم والفن والحياة؟.فأجابني قائلا :"إنها قبض الريح يابني... فلا أحد يأخذ مجداً معه ، ولقد وطنت نفسي منذ زمن بعيد على ذلك فلم تغريني الدنيا ولقد خبرت عالم الفن وعالم العمل الأكاديمي والعمل العام ونجوت من سلبياتهم".
إنه الأستاذ رعدٌ في أفق السيكودراما وناسكٌ في محراب الفن ومتبتلٌ في رحاب التحليل النفسي وعلمٌ من أعلام التنوير.هذه كانت رؤية إجلال.. واقتفاء خطى.. وصلوات "دعوات" في هيكل إسهاماته سبق أن كتبت عنها في قائمة الشكر في رسالتي لدرجة الماجستير (اضطرابات النوم لدى الراشدين والمسنين . 1998).



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى