أحمد رجب شلتوت - رحلة في سير فرسان العشق الإلهي

يُدين الدكتور "عمار على حسن" في روايته "السلفي" نموذج المتطرف دينيا، ويرفض كذلك نموذج الشيخ المدجن الأداة في يد السلطة، ويطرح الصوفي نموذجا بديلا قادرا على رأب الصدع.

هذا الطرح ليس جديدا بالنسبة له، ففي استهلال كتابه "فرسان العشق الإلهي" كتب عن "رؤوس دينية جامدة خامدة، ادعت امتلاك الحقيقة، وظنت أنها هي التجسيد والتمثل الأساسي والوحيد للإسلام، وأقصرت لقب "العلماء" على حفنة من رجالها يحفظون بعض كتب قديمة، يقدسون مؤلفيها من البشر، ويعتقدون أنها العلم الصرف، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكم آلمنا أن يطلق لفظ "العالم" على أهل الرواية لا أهل الدراية، وعلى الحفظة لا على الفاهمين الناقدين المبدعين".

وهو يدرك أن هناك "حاجة ماسة ليعرف الناس الآن أن تاريخ الإسلام غنى بشخصيات أعظم بكثير من هؤلاء الحفظة المنغلقين، الذي يركزون على المنظر لا المخبر، والمظهر لا الجوهر، إنهم هؤلاء الذين حبسوا الإسلام العظيم في مجموعة من الأمور الشكلية العابرة، وها هو هذا الكتاب يضعهم في حجمهم الطبيعي، دون أن يذكر ذلك صراحة".

في مواجهة هؤلاء استعرض "عمار على حسن" تجارب اثنين وأربعين شخصية صوفية، بعضهم شهير مثل الجنيد والغزالي والحلاج والسهر وردى ومحيى الدين ابن عربي ورابعة العدوية وعمر بن الفارض وفريد الدين العطار وبشر الحافي وجلال الدين الرومي والحسن البصري وذو النون المصري والشبلي وعبدالقادر الجيلاني وابن عطاء الله السكندري وأبو الحسن الشاذلي والنفري.

بينما البعض الآخر لم ينل مثل تلك الشهرة، فظلت سيرته غائبة إلا عن الباحثين في التراث الصوفي، ومنهم إبراهيم الخواص وابن سبعين وأبو طالب المكي والحارث المحاسبي وحاتم الأصم وأبو تراب النخشبي وأبو عبد الله الجلاء والتستري.

وجاءت ترتيب فصول الكتاب بحسب الترتيب الألفبائي وليس بحسب الزمان الذي شهد سطوع نجم هؤلاء المتصوفة، ولا بحسب المكان الذي نشأوا فيه، ولم يكن غرضه من ذلك تقديم معجم لفرسان العشق الإلهي، وإنما كان دافعه الإيمان بأن نصوصهم تتجاوز زمن كتابتها، وأحوالهم تتجدد مع العارفين والواصلين من أولياء الله الصالحين.

وبالطبع لم يكن أصحاب التجارب التي استعرضها الكتاب هم كل الفرسان، وإنما اختار منهم أمثلة تؤكد متانة القاعدة التي نشأ عليها من وصفهم بأنهم "فرسان المحبة، والتسامح، والزهد، والولاية، والمعرفة الحدسیة على مدار التاريخ الإسلامي".

ويوضح الكاتب المنهج الذي اتبعه في معالجة هذه الشخصيات بقوله " لقد حاولت في سرد هذه الشخصيات أن أتْبع منهجا واحدا، وسعیت إلى أن أدقق النظر، وأزن المعنى، حتى نحیط خبرا بكل الآراء والمواقف حول الشخصية التي نعرضها. آراء ومواقف المادحين والقادحين. فلا إجماع على أحد. ولا كرامة لنبي في وطنه. والتاريخ اختيار. وما یكتب عن إنسان، صغر أو كبر، في أي زمان وأي مكان لا یخلو من هوى، ولا ینجو أحيانا من ضعف".

العشق الإلهي

ظهرت الصوفية الإسلامية في القرن الهجري الثاني، وعن أسباب ظهورها يقول ابن خلدون” فلم فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوّفة ” وهذا دفع هذه الجماعة إلى الابتعاد عن ” زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة ”

وقد عمل الصوفية على الفرار من الدنيا واللجوء إلى الله، وأفردوا مساحات واسعة من كتاباتهم لموضوع الحب الإلهي باعتباره من أجلّ أنواع الحب، فقد غلب عليهم حب الله، لدرجة أنّه لم يعد في قلوبهم مكان للكراهيّة، ويبدو هذا جليا في السير الشخصيات التي استعرضها الكتاب، وفي أشعار الشعراء منهم.

كذلك نشأ مصطلح الحب الإلهي في القرن الثاني الهجري، متزامنا مع نشأة التصوف الإسلامي، ويرجع مؤرخو التصوف لرابعة العدوية إدخال مفهوم العشق الإلهي في التصوف الإسلامي.

والعشق لغة هو الحب المفرط وقيل هو عُجْب المحب بالمحبوب، وقد فسر الإمام أبو حامد الغزالي العشق الإلهي بأنه "حالة من الحب الشديد يشتاق فيها المحب إلى لقاء الله سبحانه وتعالى، فلا ينظر إلى شيء إلا ورآه فيه سبحانه، ولا يقرع سمعه قارع إلا وسمعه منه أو فيه، فينتج عن هذا المقام أحوال من المكاشفات والملاطفات لا يحيط الوصف بها، يعرفها من ذاقها وينكرها من كل حسه عن ذوقها".

وقد فاضت سطور الكتاب بهذا العشق، إنها سطور عشق صنعتها أقوال وأفعال مَنْ وصفهم مریدوهم بالأقطاب والأبدال والأنجاب. وقد شكّلت جانبا لا یمكن إهماله من الحضارة الإسلامية على امتداد تاريخها. وأوجدتها معالم الشريعة وأنوار الحقيقة، اللتان تقاربتا وتباعدتا وتماهتا في تصنيف عجيب، أثار جدلا لن ینتهي، لكنه أنتج معرفة لا یمكن إنكار فضل حضورها.

التصوف المصري

رسم الكتاب ملامح ذاتية لرموز التصوف المصري، بدأها بابن عطاء الله السكندري، وقد وصفه بأنه "صاحب الحكم والمصنفات والفيوضات الروحية"، وذكر أنه أحد كبار مؤسسي التجربة الصوفية المصریة، كان جده فقيها كبيرا، وهو نفسه كان مشروع فقیه كبیر ینكر على المتصوفة الكثير من أفكارهم وممارساتهم، لكنه سارت في الطريق المغایر بعدما التقى شيخه وأستاذه أبو العباس المرسى، الذي ترك في قلبه وعقله علامة لا تمحى، عندما صار من طليعة مریدیه.

وكان ابن عطاء الله مثل الغزالي إمامًا في الشريعة والتصوف على السواء، وقد عالج الأحكام والسنن والشريعة بروح المتصوف، وآمن بأن أئمة الصوفية یریدون الوصول إلى الحقيقة لیس فقط بالأدلة العقلية التي تقبل العكس بل بصفاء القلب وریاضة النفس وطرح الهموم الدنيوية، فلا ینشغل العبد بغیر حب الله ورسوله، وهذا الانشغال السامي یجعله عبدًا صالحًا جديرا بعمارة الأرض، وإصلاح ما أفسده حبّ المال والحرص على الجاه.

أما "ذو النون المصري" الذي لم یكن زاهدًا وعابدًا عابرًا في تاريخ التصوّف ومسيرته، بل كان من أصحاب المواجید، وأرباب المعرفة والرأي والفقه. وكان صاحب مهارة في الكیمیاء، یقال إنه تعلمها من جابر بن حیان.

ويقول عنه الكتاب أنه حفر علامة في تاريخ التصوف المصري خصوصًا، إذ یبدأ به حديث المؤرخین عن الصوفية على ضفاف النیل، ویركَّز عليه كحالة من التصوف الفردي الجواني قبل أن تتحول الصوفية المصرية إلى ظاهرة اجتماعية تسیر في ركاب السلطة على ید صلاح الدین الأيوبي.

أما سلطان العاشقين عمر بن الفارض، فيرى عمار على حسن أنه الشاعر الصوفي الثاني بعد جلال الدین الرومي، وينقل عن الدكتور مصطفى عبد الرازق، وصفه بأنه الصوفي المصري الأول بلا منازع، هكذا تكرر الحديث عن "صوفية مصرية"، لكن منهج الكتاب واعتماده على تراجم الفرسان لم يتح الفرصة للمؤلف _ وهو صاحب معرفة ودراية كبيرين بالتصوف ومدارسه ورجاله – لأن يتوقف عند هذه النقطة مبينا ملامح المدرسة المصرية في التصوف ومدى الشبه أو الاختلاف بينها مثلا وبين المدرسة البغدادية التي ينتمي إليها أغلب فرسان العشق الإلهي، فلعله يفعل ذلك في كتاب ثان، كذلك كان الفرسان كلهم من الرجال باستثناء رابعة العدوية، أنا كقارئ لا أعرف غيرها، وربما لو كانت هناك أخرى لعرض الكتاب سيرتها، وهذا يطرح سؤالا عن سر اقتصار العشق الإلهي على الرجال دون النساء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى