سهيل ياسين - طلقة في الفراغ

ولأنه لا يعرف يوما آخر سوى عشية العيد ، من كل عام ، كان يؤخذ بيده الغضة الى السوق ، ويقتني برغبته أو دونها أحيانا ، بدلة أنيقة أو رداء جديدا من محال الرصيف المكتظة .
ولم يتذكر ذلك الحدث الكبير الإ في تلك المناسبة الوحيدة . لذا فهو لايستطيع تصديق فكرة شراء الملابس الجديدة والخروج بها الى الناس والشوارع في أي وقت يشاء ، من دون حلول صبيحة العيد البعيد دوما ..
قد تخطر في باله أو تغيب عن ذهنه أطياف شتى للأشياء الأثيرة بطعمها البكر ، مقاعد التعلم في المدرسة الابتدائية ،قدوم الأم بسلة التبضع ، حلوى أصابع العروس اللذيذة ، لقية ثمينة على قارعة الطريق ، الإمساك بطيور بيض في صباح ضبابي ،اللعب صيفا في ظلال بيوت المحلة ، رائحة التراب والعشب عند أول المطر، ملاقاة عودة الأب بعد السفر، الجري مع الأصدقاء عبرمتاهات الأزقة المجاورة ، زيارة منزل الأجداد الكبير ،الذهاب الى العمة الوحيدة في بيتها المعزول،والإقامة بضعة أيام أو أكثر خلال العطلة الصيفية هناك، هدية النجاح في البكالوريا ،الظهور المفاجئ لإسمه في كتاباته على ورق صحيفة منسية ،أول الأنخاب في مساء شتوي مع نديم لم يعد حيّا، القبلة الاولى على جبين من يحب ، ،ليلة الزفاف ، البشارة بالمولود البكر ، طلائع غيوم وسط سماء زرقاء صافية ،تباشير ربيع مقبل ، تلقي رسالة من عزيز مجهول الإقامة ، نظرة أخيرة في فراق أبدي ،صورة التخرج في الجامعة ....
سرعان ما تختفي كل تلك القصص والحكايات والإحالات المبهجة ، ولم يدم من خيالات الذكرى الأكثر حضورا الا تقاويم العسكر وأيام الجندية الدامية في سنوات حروب البلاد الطويلة ،ونزاعات الجوار المسلحة ،كفصل لاحق وطاغ لأيام وأرقام لاتنتهي من الخيبة والإستلاب، من حياة ممتدة ، بين التاريخ المثبت سهوا أو على وجه الدقة والتحديد في بيان الولادة وشهادة الوفاة المؤجلة ...
حاول أن ينسى أو يتناسى عمدا ، لحظة الالتحاق في يوم تموزي قائظ بساحة الإعداد والتدريب ،وكآبات الثكنة العسكرية التي تفصله عن سقف البيت ودفء العائلة ، إلا ان ذلك التاريخ يظل يطارده..
- قف ،هل نسيت شيئا ؟
لم يمتلك أمام تلك العبارة الآمرة،سوى أن يتفحص بدلة الجيش النظامية ، ويتثبت من وجود قبعة الصوف أوالبيرية السوداء فوق رأسه الحليق تماما..
كانت تلك الكلمات تلاحقه ، من جهات المعسكر الأربع،مكتوبة هنا ،مدلاة في لوحة هناك، يراها في كل افق ، ساحة العرضات ،قاعة الفصيل الثاني ، رواق سرية المقر ، خيمة وسط العراء ، تلة بميدان الرمي ، فضاء منطقة الحرام ، الربيئة الثلجية بأعالي الجبل ، لحظات التمتع بالإجازة الدورية ،عشية الالتحاق بالجبهة المستعرة ، تتراءى أمامه حتى النهاية .
كمن للعدو في خنادق المعركة ، بكامل عدته القتالية ، صمد سنوات على امتداد المواجهة ، ولم يرم طلقة واحدة ، أعيد الى الخطوط الخلفية ، حارسا جوّالا في دوريات راجلة ، ولم يخط خطوة واحدة ، اذ بقي مرابطا بحسب الأوامر العاجلة ، يراقب من مكانه أو نقطة الحراسة قدوم المتسللين والعابرين الذين لم يبصرهم أو يلمح أحدا منهم ،على مدى مكوثه وتحديقه شهورا طوال وليالي لاتحصى، في الجهة المقابلة .
الا ان طالعه العاثر على الدوام أخطأ هذه المرة ، وحالفه بعض الشيء عن طريق المصادفة ، فانتقل جنديا مأمورا في سرية لحماية بهو الضباط ،وخلال خدمته في حراسة أسياده الكبار بنادي القادة بمركز المدينة الهادئة ،لم يستدعيه موقف أو تحد خطير لإطلاق رصاصة واحدة ، ضد مشتبه به في المكان المضاء بانوار ملونة ساطعة ، أوعابث في أمن المنطقة . ذات مساء بارد ،في ساعات نوبات حراسته المشددة ، وتحديدا عند الساعة الثانية والنصف ليلا ، تحسّس صمام الأمان في البندقية الأوتوماتيكية الجديدة ، ضغط على الزناد سهوا ، دّوت اطلاقة في الفراغ ، فسقط ، القائد العام والجنرال الأكبر- فجأة خلفه - حطاما منثورا ، و شظايا مبعثرة ، تهشم هنا وهناك ، هوى من أعلى الجدار، فوق البلاط الملمّع في صورته المزججة الكبيرة ، قبل أن يحين الصباح ،وبصمت بالغ ،من دون مقاومة، أقتيد الى السجن ،وعوقب بتهمة التآمر وقلب النظام ..
- قف ،هل نسيت شيئا ؟
ما زال الصوت يلاحقه مذ تلك السنين ،بذات اللهجة الآمرة ،ما أن يتناهى الى مسامعه حتى يتفقد ما فوق رأسه ،متوهما بيرية الصوف السوداء ،وقتئذ لم يلامس سوى طاقيته المصنوعة من القطن،متوّجا بها ،كأي رجل بلباس المسنين الموقّر.
وكلما يسمع صوت اطلاق ناري ، قريبا في الجوار ،أو في أطراف قصية ، يرتعد خوفا ، ويخشى أن يعاد من جديد ، فيدفع عن ذهنه المشوّش ، تلك الفكرة المقلقة دائما ، بأن هناك من سيأتي عاجلا أو آجلا ، ويقبض عليه بقوة ، ويلقى به ثانية ، ولو أمسى على مشارف السبعين .



أعلى