أحمد رجب شلتوت - الكرامة الصوفية بوصفها نصا أدبيا

تشير الكرامات عند الصوفية، إلى قدرات خارقة للعادة يقوم بها بعض الأولياء ويعتبر الصوفيون القدرة على القيام بها هي دليلا على فضل القائم بها، ولا تثبت الولاية للولي الا بثبوت قدرته على الاتيان بالكرامات فلا ولي بدون كرامة‏. ‏

والكرامات الصوفية بما تثيره من أسئلة حول ماهيتها ووظائفها وأشكالها ودورها الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي موضوعاً في حاجة إلى تحليل ونقد، وهذا ما فعله الدكتور محمد أبو الفضل بدران، ففي كتابه "أدبيات الكرامة الصوفية" يسعى إلى دراسة هذه الظاهرة كجنس أدبي. فيحاول الوقوف على استقلاله السردي النوعي، ورصد آليات صياغاته، ووجود دلالاته، ووضع أساس معرفي "لنظرية الكرامات" من منطلق تجنيسي جديد، يرى أدب الكرامات جنساً أدبياً مستقلا بذاته، يصفه بقوله: " إن النص الكراماتي هو نص روائي لا متناه، يستطيع أن يواكب العصور كي يتجاوزها، وهو التدوين الشعبي للأحداث والدول، والتاريخ الهلامي لسيرة الأولياء أو ما يُطلق عليه (hagiographie)، حيث يبدع الشعب في تخليد حياة أوليائه وكتابة سير حياتهم وفق رؤيته لهم، ولهذا فقد أخطأ المؤرخون كثيراً عندما أزاحوا الكرامات الصوفية جانباً، إذ أهملوا بذلك جانباً خصباً من طرائق البحث في الوجه الآخر للمجتمع أشبه بالتأريخ الشعبي للحياة كما يتصورونها ويتمنونها".

مصادر الكرامات

ينقل أبو الفضل بدران عن الشيخ الصوفي محمد الطيب الحساني قوله: " لحظاتنا كلها كرامات وليس هنالك كرامة أفضل من كرامة العِلم"، وفي بحثه لم يتساءل عن مصداقية حدوث الكرامة او عدم حدوثها، بل ان يتناولها من حيث هي رؤى نقدية ابداعية ذات آفاق اجتماعية، وقد صرح المؤلف بأنه سيستعين بالدراسات الانثروبولوجية التي تعينه على فهم بعض الظواهر الغامضة في الكرامات.

وقد استهل كتابه بالحديث عن مصادر الكرامات وموقف المذاهب والفرق الإسلامية منها؛ فالكتب التي جمعت الكرامات في متونها، لا تحصى، أما موقف المسلمين منها فيختلف باختلاف فرقهم، فمثلا "المعتزلة" ينكرون وجود الكرامات، ويسوقون حجة ضدها وهي تفسير آية "عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا"، وهم يرون أن تجويز الكرامة يفضي الى السفسطة لأنه يقتضي تجويز انقلاب الجبل ذهبا ابريزا او البحر دما عبيطا، ويتفق "الأشعرية" مع المعتزلة، إلا أن بعضهم اعترف بها لإمكانية حدوثها العقلي، مفضلين ألا توضع الكرامات والمعجزات في قالب واحد.

وبالنسبة للفلاسفة فقد تباينت آراؤهم حيالها، فيرى "ابن سينا" أن الكرامات والمعجزات تدخل ضمن مجال القضاء والقدر، ويأتي ابن رشد في كتابه "تهافت التهافت" لإقرار أنه لا يمكن أن تحدث معجزة إلا عند وجود استحالة، ويذهب ابن خلدون إلى إثبات الكرامات فيقول: " وأما الكلام في كرامات القوم وإخبارهم بالمغيبات، فأمر صحيح غير منكر، وإن مال بعض العلماء إلى إنكارها فليس ذلك من الحق"، أما الصوفيون ففهم من المؤمنين بالكرامات ويفصلونها عن المعجزات فصلا تاما، فالمعجزات للأنبياء والكرامات للأولياء.

نظرية الاستبدال

في الفصل الثاني عالج الكاتب ما أسماه "نظرية الاستبدال في الكرامة"، ويعني ذلك ان الكرامة تقوم على دوال متغيرة ودوال ثابتة وهي تقوم على محاكاة المعجزات، والاستبدال يكون بتغيير الشخصيات الفاعلة لكنه لا يغير وظائفها إلا وفقا للحاجة، لذلك نجد الكرامة ذات المضمون الواحد ترد بأشكال عديدة كأن يضل شخص في الصحراء فينقذه الخضر بأعجوبة او تحاصر الافاعي شخصا ما فينقذه الشيخ، وهكذا ترد القصة بجوهرها سواء أكانت في البحر ام في الجبل، وهي لا تخضع لزمن محدد، حيث إن الكرامة ذاتها لا تخضع لزمن معين، فالكرامة فعل خارق إذن فالزمن يجب أن يكون خارقاً للدوال الزمنية المتعارف عليها، وهي تمتاز بأحادية البطل، ودائما تكون هداية الصوفي بسبب من كرامة تحول حياته من الضلال والعصيان الى الهداية والاصلاح والولاية كما جرى مع الفضيل بن عياض وعشرات غيره، ويرى الباحث أن الكرامة جنس أدبى قائم بذاته يتنامى وتختلف شخصياته دون اختلاف في الشكل أو الوظائف.

وللكرامة ثلاث وظائف رئيسية هي: إثبات الولاية للولي والتنفيس الإبداعي عن أفراد المجتمع والكرامة التعليمية، وعن عن تصوير المرأة في الكرامات تناول الكتاب أمرين أولهما المرأة كمحققة للكرامة، أي وليّة، وقد عرف التاريخ الإسلامي "المرأة الولية"، ومن أشهرهن رابعة العدوية، وتريزا التي اهتدت على يد أبي الحجاج الأقصري، وفاطمة بنت بري وهدايتها على يد السيد البدوي، واحتلت الشيخة زكية مكانة كبيرة في التصوف المعاصر بصعيد مصر، فقد ذاع عنها الكثير من الكرامات مثل أنها كانت مع زوجها في الحج، وأخرجت السمك من الرمل، وأنها تعرف كل اللغات وتتحدثها، إضافة إلى تحويلها الجدران إلى ذهب، إلى جانب ظهورها في أماكن متعددة في آن واحد. وصفات المرأة الولية كما تجئ في التراث الصوفي هي التي شُغفت حباً وأنهك العشق جسدها، وتنتهي الكرامة بموت المرأة موتا اختياريا دراميا. والأمر الثاني هو المرأة كرمز للثواب كالحور العين.

المدينة الفاضلة

قد يكون النص الكراماتي مجهول المؤلف، وقد يكون مؤلفه معروفا، ويرى الباحث أن الزيادات التي أضيفت على النص مجهول المؤلف ألحقت به ضررا فنيا كبيرا، فالمضيف لم يكن بمنزلة المبدع الأصلي، ويجمع النص الكراماتي بين الشعر والنثر، لكن بدران يلمس التباين بين النصين، فيقول بانفصالية النصين زمنا وتأليفا، ويقطع بأن النص الشعري تم إقحامه على النص النثري للكرامة.

وفي مجال العالم المثالي تحدث الكاتب عن دائرة الاولياء او الحكومة الباطنة، تلك الحكومة التي يكثر ارسال الرسائل والشكاوى برميها في اضرحة الاولياء، ولهذه الحكومة درجات ومراتب تبدأ من الاعلى، من القطب الغوث فالعرفاء فالنقباء فالأبدال فالأولياء والعدد ثابت لا يزيد ولا ينقص. اما مدينة الاولياء في التراث الصوفي فهي المدينة الفاضلة التي ابدعتها مخيلة الصوفية، انها مدينة مبنية من الذهب، اشجارها متعانقة وانهارها رائقة وفواكهها فائقة، انها حلم الصوفية، وتحدث المؤلف عن منزلة القطبية رابطا بينها وبين حديث مجدد المئة.

واختتم الكتاب بفصل عن التوظيف الأدبي للكرامة، فأوضح أن الرؤيا في الأدب جاءت كبديل للنبوءة، الكرامة، فالأدباء قاموا بتوظيف الكرامة الصوفية توظيفاً أدبياً خصوصا عند احتياج المبدع إلى التنبؤ بمصير البطل .

قد وظفت الكرامة في السير الشعبية كما في سيرة الملك الظاهر بيبرس وسيرة تغريبة بني هلال، وكان لها حضور بارز في كتابات الرحالة العرب كأبن بطوطة وابن فضلان كما كان لها حضور في السير الذاتية في ادبنا الحديث كما في اصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ وغربة الراعي لإحسان عباس.

وقد ألقى صدى الكرامات بظلاله على الرواية حيث يحدد الصوفي ميقات موته ويختفى موتاً بينما تبدع الجماعة في خلق أسطورة حول الاختفاء تتخذ من طي الأرض والمهدي المنتظر معطيات قابلة للزيادة ولكن تظل الأسطورة التي صنعها في حياته أو التي نُسجت حول حياته نموذجا للأساطير الحديثة، نظرا لانتشار قصص الكرامات وتأثيرها في الوجدان الجمعي فقد وظف الادباء العرب بعض الكرامات في ادبهم او جعلوا الكرامة جزءا فاعلا في جانب من ابداعهم وذلك اما لمحاربة الكرامة ومعتقديها بوصفها من الخرافات واما لاستغلالها لأهداف سياسية واجتماعية وجهادية، واما لأن هذا الاديب او ذاك مؤمن بها فعلا او هو متردد بشأنها، وذكر بدران امثلة كثيرة منها معالجة يحيي الظاهر عبدالله للكرامة في "الطوق والإسورة"، وعبدالحكيم قاسم في "أيام الإنسان السبعة" حيث نقل بعض الكرامات القديمة دون توظيف جديد لها، إلا أنها ساعدت في تجسيد الجو الصوفي المهيمن على الرواية.

  • كلمات مفتاحية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى