حيدر العايب - تأويل النصوص الدينية بين النظر العقلي والنظر الملكوتي: أو في عدم كفاية الشروط العلمية في تأويل النصوص الدينية

يرتبط فهم النّص بالقدرات الذهنية والاستعدادات الروحية للقارئ، وكذا السياقات التّاريخية والثّقافية واللّغوية للنص والقارئ على حد سواء، فعملية التّأويل وبخلاف التّفسير، عملية مركّبة تتداخل فيها الشروط المعرفية والقيمية المتعلّقة بكل من النّص والمؤوّل، حددّها بعضهم في هذه الشروط: المُؤوِّل -بكسر الواو المشددة- وهو الشّخص الذي ينهض بعملية التّأويل. والمُؤوَّل –بفتح الواو المشددة- وهو النّص الخاضع لفعل التّأويل. والمُؤوَّل به، وهي خلفية المؤوِّل التاريخية والثّقافية السابقة في وجودها على وجوده. والمؤوَّل فيه، وهو سياق التأويل. ثم المؤوَّل له، أو لأجله، وهي مقصدية التّأويل (تجدر الإشارة إلى أنّ من مقاصد التّأويل كما وردت في القرآن الكريم هي ابتغاء الفتنة، وتزييف وعي النّاس وصرفهم عن معرفة الحقيقة، وقد يكون الغرض منه هو الإيضاح ورفع اللُّبس)، انتهاء عند عملية التأويل ذاتها، بوصفها عملية كلية مركّبة يتم بموجبها؛ تفكيك النّص واعادة بنائه، إزاحة اللّفظ عن دلالته الأصلية الظاهرة إلى دلالة أخرى باطنة أو محايثة، ثم إنتاج المعنى وإعادة إنتاجه[1].
لذلك سيُفترض التأويل كاستراتيجية لاختراق جدار "اللّغة" أو "الخطاب"، سواء ما تعلق بلغة النّص أو بلغة القارئ الذي يُفترض أن يكون مستأمنا على تبليغ مراد النّص، ولسنا نجانب الصّواب إذ ما اعتبرنا أنّ المشكلة البكر، المتعلقة بمدى استيعاب البشر للغة النّص، في تاريخ الثّقافة الإسلامية، هي تلك المتعلقة بمسألة "خلق القرآن" الكريم، فهي وبقدر ما تبدو مسألة عقدية، فإنّها لُغوِّية تَأسيسًا، فأسئلة من قبيل؛ عما إن كان كلام الله، وخطابه لعباده هو عين كلامه؟ وعما إن كان الكلام المحصور بين دفتي الكتاب، والمكتوب بالحبر أو المنقوش هو كلام الله القديم؟ والتساؤل عن طبيعة كلام الله، وما يتطلبه فعل التّكلم من تجويف الفم وأجهزة كلامية، وصوتية، و ألفاظ، ومخارج يتقدم بعضها على بعض علما أنّ الله تعالى منزّه عن ذلك وتعالى علوا كبيرا؟
[2].
هذه المسألة التي انقسمت الآراء الكلامية إزاءها على ثلاثة مذاهب؛ "فالقدرية يقولون: نحن لا نعقل إلاّ هذه القراءة وهي محدثة، والمشبهة يقولون نحن لا نعقل إلاّ هذه القراءة، وهي محدثة القرآن ثم يثبتون قدمها"
[3]. يتوسطهما فريق ثالث هو ما استقر عليه رأي الأشاعرة، حيث يميِّزون في القرآن الكريم بين مستوى كلام الله القديم غير المخلوق، أو مستوى الكلام النّفسي الذي لا ينفد ولا يفنى، من جانب، وبين وجود ذلك الكلام مكتوبا في صحيفة، أو منطوقا ومسموعا بالحواس فيكون مخلوقا أو حادثا، من جانب ثان، وهذا بالاستناد على مجموعة من الأدلة النّصية والعقلية، وحتى الوقائع التاريخية، مثال ذلك واقعة حرق "عثمان بن عفان"-رضي الله عنه- الصحف المخالفة لمصحفه، فعدّ ذلك دليلا على أنّ عثمان لم يحرق القرآن، وإنما أحرق الصحف المكتوب عليها، وهذا دليل على حدوث الكتاب. وواقعة التّحكيم الشهيرة حينما احتكم "الإمام علي" رضي الله عنه لكتاب الله، وقوله: "والله ما حكّمت مخلوقا، وإنّما حكّمت القرآن"، فكان "فعل عثمان حجّة لنا -والكلام للشيرازي- بأنّ الكتاب مخلوق، وقول علي كرّم الله وجهه حجّة لنا بأن المكتوب قديم، والاقتداء بعليٍّ وعثمان أولى، وأحرى من الاقتداء بالقدريّة والمشبّهة"[4].
ليس مهما الخوض في تفاصيل المسألة من الناحية الكلامية، بقدر ما يهم تبيان دلالتها وأبعادها اللّغوية، فأسئلة من هذا القبيل، وأخرى اُثيرت حول صفة كلام الله عزّ وجل هي في الغالب ذات طابع لغوي تتعلق بمساعي تنزيه الله الموصوف بالكمال من أن يكون كلامه من جنس كلام مخلوقاته لا في طريقة كلامهم وفقط، بل وألسنتهم، في مقابل الاعتراف بقصور كلام العباد ولغاتهم، ذلك الفارق الذي سيعمّق من احتمال أنّ تكون الإحاطة بكلام الله أمرا نسبيا، وأنّ ما يجري تبليغه من طرف المفسرين، أو المؤوِّلين يبقى أقل تفسيرية، وأقل تبليغا لمراد النّص.
كما ستطرح أسئلة أخرى تتعلق بمدى إمكانية القدرات اللّغوية، والذّهنية المتاحة للبشر، والقصور البشري الذي يلازم تلك القدرات، أمام الطبيعة النّوعية للخطاب القرآني، في أن تكون في مستوى استيعاب ما يبلغه الله لعباده، تلك الأسئلة هي ما سيفتح مجالا آخر للنقاش حول إمكانية العمل بالتّأويل.
ففي الحقيقة لم يدخر أهل العرفان في التراث الإسلامي جهدا في تنكرهم للنّظر العقلي، الـمُتوسِل بالعقل واللّغة البشريين، المعهود عند الفقهاء والفلاسفة المتكلمين، مبينين عدم وفاء ذلك الطريق، وآلياته بالكشف عن اكتناه التجربة الدّينية والحِكمة الشرعية. وبذلك استقر رأي حجة الإسلام "أبي حامد الغزالي" الذي أخذ الشّك عنده منهجا وتجربة ارتحل فيها طويلا مقتفيا العلم اليقين، فوجّه نقده للقدرات البشرية الحسية والعقلية، مبينا قصور تلك القدرات على اكتناه المعرفة الحقّة، إذ من الممكن في نظره أن تطرأ على الإنسان حالة تكون نسبتها إلى العقل كنسبة اليقظة إلى النوم، فكيف الثّقة بالعقليات؟، وكيف يمكن الحكم على المعرفة الحسيّة انطلاقا من العقل؟ وكل منهما يكذب الآخر
[5]. هذا الذي ساق "الغزالي" إلى القول بوجود قوّة فوق النّظر العقلي بالرغم من نظم أدلة الأخير وترتيب بيانه، تلك القوة ذات الطابع الإشراقي كانت بوصلته في رحلة شكّه الطويل، وهي الحدس.
فالحدس وحده القادر على البلوغ بالنفس إلى اليقين المنشود، ولولا هذا الحدس لمـــا خرج "الغــزالي" من هذا الشـــك، ولبقي على مذهب السفسطة كما قال، إذ الأدلة العقلية لم ترجع اليقين إلى قلبه، لأن الدّليل لا يكون إلاّ من العلوم، فإذا كانت العلوم غير مسلّم بها، لم يكن الدّليل منتجا، ولم يكن في المعرفة العقلية ما يطرد الشّك من النفس. يقول "الغزالي": "وعادت النفس إلى الصّحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقا بها على أمن ويقين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور، قذفه الله تعالى في الصّدر، وذلك النّور هو مفتاح أكثر المعارف"
[6].
من جهته أبدى "ابن طفيل" نقمه من قصور النّظر العقلي المتوسل ببناء البرهان ونظم البيان، معربا عن بلوغه "مشاهدة حال لم أشهدها من قبل، وانتهى بي إلى مبلغ هو من الغرابة، بحيث لا يصفه لسان، ولا يقوم به بيان، لأنّه من طور غير طورهما، وعالم غير عالمهما"
[7]، وهو الأمر الذي جعله يستأثر بالأسلوب الرمزي في التبليغ عن أحواله الروحية التي عاشها، فجاءت قصة "حي بن يقظان" ذات الأسلوب القصصي غير المعهود في نظم النصوص الفلسفية الإسلامية المعروف عنها مسلك البرهان العقلي، لتؤكّد على قصور اللغة البشرية في التعامل مع مثل هذه الحالات الإيمانية، "إذ لا نجد في الألفاظ الجمهورية، ولا في الاصطلاحات الخاصة، أسماء تدل على الشيء الذي يشاهد به ذلك النّوع من المشاهدة"[8]. لذلك "فمن رام التعبير عن تلك الحال، فقد رام مستحيلا"[9]. وهكذا فــ "الذي يقرأ "حي بن يقظان" عند كل من ابن سينا وابن طفيل والسهروردي يجد نفسه وكأن المشكل الذي استعصى حله على هؤلاء هو مشكل التبليغ: تبليغ ما اعتبروا أنه حقائق أدركوها كفلاسفة فكيف يمكن إيصالها؟ وإلى من؟ العائق أمامهم هو "اللغة" وقد سموا هذا العائق كما سماه الفلاسفة الآخرون "حجاب الألفاظ". فهناك حدود لدلاليّة اللغة، فهي لا تتجاوز المشترك العام"[10].
مثل هذه المواقف التي يغذّيها تيار العرفان بشكل خاص، تعكس حالة عدم الرضى عن الملكات البشرية، اللّغوية والذّهنية، وكذا عدم استحسان الطريقة المعهودة في التّعامل مع النّص الدّيني، وهي طريقة النّظر العقلي، طريقة جمهور الفقهاء والفلاسفة والمتكلّمين، في قصورها على اكتشاف كنه الحقيقة الدّينية، وهو ما قد ينسف مساعي الاجتهاد النّظري المعهود، وقلب الرّهان على الجهاد العملي، خاصة فيما لو جرى الأخذ بعين الاعتبار ما توصل إليه المعاصرون من أنّ دلالة النّص لم تعد تقتصر على الخطاب اللّغوي حصرا، وإنّما اتّسع مدلوله متعديا "الأفعال" كذلك، "فالفعل نص كما أنّ القول نص، إلاّ أنّ الأول نص سلوكي، والثاني نص خطابي"
[11]. ذلك ما يوجّه الرهان على غير الخطاب اللّغوي، أي صوب "التجربة النفسية"، أو "الظاهرة النفسية" عبر التّوسل بــ "الحدس"، حيث أنّ "القول قد يخفي العلاقة المباشرة بين الذات والموضوع. في حين أنّ التّحليل المباشر للظّاهرة يعتمد على الحدس، وقلب النظرة من الخارج إلى الداخل، من النّص إلى التّجربة، ومن اللّفظ إلى الشّيء ذاته. فالمعنى الذي يدلُّ عليه اللّفظ، لا في اللّفظ، ولا في المعجم بل في النّفس"[12].
لذلك فإنّ النّص التراثي عموما، والدّيني بشيء من التّخصيص، سواء كان "قولا" أم "فعلا"، تساكنه قيم يكون بلوغها بطريق الذوق والمجاهدة والمشاهدة أنجع من طرق النظر العقلي المتوسل بالأقيسة والاستدلالات المنطقية. ذلك النّوع من المعرفة هو ما يعرف بـ "العلم اللّدني"، ووسيلته ليست كأدوات النظر الأخرى، تعرف لدى بعضهم بــ "اللّطيفة الروحانية"، نجد لها إشارات في النص القرآني بمدلولات أربع، القلب، أو النفس، أو العلم، أو الروح. ودلالة تلك اللّطيفة تختلف حسب وظيفتها في السياق القرآني، أو طبقا لحالاتها الطارئة؛ "فحين تشتغل بأمور الفهم والتبصر تسمى عقلا، وحين تنشغل بشؤون التحكم على الجسد فإنّها نفس، وحين تنغمس في استقبال الاستضاءة الوجدانية فإنّها قلب، أما حينما تعود إلى عالمها الخاص بالكيانات المجردة فإنّها روح"
[13]
فما كان هذا مسلكه، فإنّه لا سبيل للظفر بكنه حقيقة النّص إلاّ بآليات وطرق من جنس ذاك المسلك، بمعنى مسلكا قيميا أو بالأحرى استعدادا روحيا تنكشف بموجبه حجب الإدراك والوصول، أي الوصول إلى المعنى المنشود. وما دام أنّ العلم اللّدني هو العلم الذي يهبه الله -عز وجل-، وهو لدى أصحاب هذا الفن أرقى مراتب المعرفة وأرفعها، فإنّ تحصيله لا يكون إلاّ عن طريق إخلاص صاحبه في العبادة، واستعداده الروحي لتلقي هذا العلم، الذي منهجه الضوء والكشف، وموقعه من الإنسان نفسه وروحه. وتحصيله يلزم الشروط الأربعة الآتية؛

الثقة التي ينالها العارف من الله عبر الولاء، والإخلاص له -عز وجل- ، لأنه لا يمكن لشخص أن يعطي معرفة عن نفسه، ويكشف عن أسراره إلا لمن يثق فيه – ولله المثل الأعلى –؛ وهو يمثل شرط الأمانة، وهو جزء من الشّرط الثّالث[14].

[1] عبد الواسع الحميري. تسييس المتعالي في تاريخ الحضارة الإسلامية، ص 67، 68.
[2] أبي اسحاق الشيرازي. الإشارة إلى مذاهب أهل الحق، ص 130 وما بعدها.
[3] المرجع نفسه،
[4] المرجع نفسه،
[5] أبي حامد الغزالي. المنقذ من الضلال و الموصل إلى ذي العزة و الجلال، ، ص 85.
[6] المنقذ من الضلال، ص 86.
[7] أبو بكر بن طفيل. حي بن يقظان، ص 5.
[8] المرجع نفسه ، ص 07.
[9] المرجع نفسه، ص 127.
[10] علي أومليل. الإصلاحية العربية والدولة الوطنية، ص 42.
[11] طه عبد الرحمن. سؤال المنهج: في أفق التأسيس لأنموذج فكري جديد، ص 44.
[12] حسن حنفي حسنين. الهُويَّة، (المجلس الأعلى للثقافة: القاهرة، ط1، 2012)، ص 14.
[13] سيد محمد نقيب العطاس. حقيقة السعادة ومعناها في الإسلام، تر: حسن عبد الرزاق النقر، (كوالالمبور: المعهد العالمي العالي للفكر والحضارة الإسلامية، 1995)، ص ص 07، 08 .
[14]سيد محمد نقيب العطاس. مداخلات فلسفية في الإسلام والعلمانية، تر: محمد طاهر الميساوي، كوالالمبور: المعهد العالي العالمي للفكر والحضارة الاسلامية، ط1، 2000، ص ص 103، 104.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى