د. خالد محمد عبدالغني - علماء الاسلام الذين عرفتهم - 2- محمد الغزالي

- 2-

في عام 2017 مرت المئوية الأولي للإمام الغزالي – محمد الغزالي السقا المولود في 22 سبتمبر 1917 – هذا الإمام الزاهد – الزهد الإيجابي ذلك المصطلح الذي صككناه للتعبير عن الفهم الحقيقي للدنيا حين يتفق مع الفهم العميق للاسلام – رجل ربعة أقرب إلى القصر منه إلى الطول ، أبيض البشرة المشربة بحمرة خفيفة ، ذو لحية بيضاء خفيفة وقصيرة جدا لا تكاد ترى إلا عن قرب ، أصلع شعر الرأس لا يخلع عمامته الأزهرية إلا نادرا ، وقور هادئ الصوت ناعمه ، قوي الحجة المسندة بالدليل من الفهم والعقلانية والعلوم الانسانية والمادية والشرعية ، حين سلمت عليه للمرة الأولى وكنت في العشرين أو على مشارفها من عمرى وكنا عقب صلاة المغرب إذ كانت الندوة ستبدأ بعد الصلاة سرت في جسدي قشعريرة لم تتكرر مرة ثانية في حياتي وربما كان هذا الروح هو ما بقي معي بعد ذلك لسنوات طويلة ، كانت يده طرية ناعمة ، وبعد تلك الندوة تكررت الندوات واللقاءت في كل المناسبات وبخاصة في صلاة العيدين بمسجد محمود بالمهندسين لسنوات طويلة حتى رحيله للرفيق الأعلى، زرته في بيته واهداني العديد من مؤلفاته بطبعاتها الاولى التي كان يقرأ فيها أو يراجعها ، سألته وكنت في ندوة برابطة التربية الحديثة بالقاهرة وكانت حول مفهوم التزكية / التربية في الاسلام ، بما تنصحني فأنا أدرس علم النفس بالجامعة فقال :" لا نريد دعاة فعندنا ما يكفي نريد علماء نفس يقولون لنا لماذا يضعف الإيمان وينقص؟ وكيف نربي الابناء على الفضيلة والاخلاق ؟ وكيف نزكي نفوسنا تزكية طيبة؟ ومن ساعتها كانت وجهتي في علم النفس دراسة بمفهوم "فرض الكفاية" التي يجب ان يقوم به البعض نيابة عن الكل ، ولم تعد دراسة بهدف البحث عن عمل او منصب او مكانة بقدر ما هي دراسة يغلفها الوعي بقيمتها الدينية والانسانية ،،، وبعثت إليه وكان ينشر مقالا ثابتا بجريدة الشعب وكان يرد على تلك الاسئلة في مقالاته، ولما نشر يوسف القرضاوي في التسعينيات كتابه "الشيخ محمد الغزالي كما عرفته" تناول حياته وكان على حلقات في جريدة الشرق القطرية " اتصلت به ووجهني لكيفية القراءة خاصة وأن الشيخ يوسف كما قال عنه ولقبه حينها اجتهد في هذا الكتاب ولم يذكر الكثير من الأشياء وكنت يومذاك اخاطبه "فضيلة الإمام حياكم الله " وكانت النية تتجه لتأليف كتاب بعنوان "المحاور الخمسة في فكر الغزالي " وقد عرضت عليه مسودة وفكرة الكتاب فأثنى عليه ، وفي صباح أحد أيام عام 1995 ياتي عبر الهاتف في مكان عملي بالقاهرة صوت يقول لعامل التليفون معكم الشيخ محمد الغزالي يريد السيد – وذكر اسمي – يا الله كيف هذا ؟؟؟ وماذا حدث؟؟ فأرد في وجل لا يعلمه إلا الله "السلام عليكم .فيرد وعليكم السلام . أخي خالد يسعدنا امتداد مدرستنا الفكرية فيك.. فأرد بل الواجب ان تمتد المدرسة في الاجيال اللاحقة وما علينا الا ان نحسن فهمها وتوصيلها لهم . وذات يوم وقد اعلنت الدولة فوزه بجائزة الدولة التقديرية وليلتها كنا معه في ندوة بمركز شباب حلوان وهو قد تجاوز السبعين بسنوات ويذهب للشباب ليحاضرهم في غير تأفف ولا زهد فيهم فشيمة العلماء اصحاب المبادئ أن يذهبوا بعلمهم في كل مكان يمكن أن يصلوا إليه، وبعد العودة نسمع خبر الفوز فأهتف في نفسي لابد وأن يظهر الحق ويذهب لأهله مهما طال الزمن،، وها هو في نقابة الصحفيين يتحدث وبجواره الصحفي محمد عبدالقدوس زوج ابنته وقد دعا للندوة بمناسبة المولد النبوي الشريف ويتحدث الغزالي عن عالمية الرسالة وعن النبي الأعظم وينفي تعرضه للسحر ، فقال طالب يبدو عليه أنه من دارسي الأزهر أو من معتنقي الفكر السلفي الوهابي – لم تكن هذه المسميات موجودة يومها كنا في منتصف التسعينيات من القرن العشرين – إن الحديث يقصد حديث السحر موجود في البخاري ، فغضب الغزالي من فوره وجحظت عيناه وكان سريع الغضب وشديد الانفعال ورد بقوة وبصوت مرتفع وقال مستهجنا :"وإيه يعني في البخاري ،،، يهودي كلب يسحر النبي ... دا ما يقدرشي يسحرني أنا ... وفي إحدى الندوات الكبرى - بعد اتفاق اوسلو بين الفلسطينيين واللاكيان الصهيوني – بنقابة الأطباء تمتلأ القاعة عن اخرها وأطلب من المنظمين للندوة الدخول للقاعة فقالوا لي لا يمكن الدخول فاجلس هنا خارج القاعة ولسوف نذيع الندوة على شاشة كبيرة او مكبر للصوت ،، فقلت لهم ممكن تبلغوا الشيخ الغزالي إني موجود وأريد مقابلته ..فنظروا الي باستخفاف وقالوا حاضر يا سيدي ، وذهب احدهم وعاد بعد قليل ليقول :" تفضل هو يريد رؤيتك ... ودلفت خلفه عدة طرقات ومداخل حتى كانت الحجرة التي يجلس فيها المحاضرون وكبار الحضور – طبعا اذكرهم جميعا – وقال لي الغزالي مشيرا تعالى اجلس هنا بجواري ،، فذهبت إليه ورفضت الجلوس بجواره بل جلست بين قدميه احتراما واجلالا،،بعد قليل بدأت فعاليات الندوة ، وعندما قادم ليدخل القاعة الكبرى بدار الحكمة أمسك بيدي وقد حاول بعض الفتية والشباب منعي من الدخول وبعد ان مررنا من الباب إلى المسرح تركته ونزلت للقاعة ودونت المحاضرة خلفه كلمة كلمة وهي بي يدي الآن ربما انسخها وأنشرها ذات يوم، وفي ندوة بالمقر العام لجمعية الشبان المسلمين بشارع رمسيس وبجواره د.عبدالصبور مرزوق وقد صعدت للسلام عليه بعد الندوة ومن شدة الارتباك ضربت يدي كوب الماء فسكبته على المنصة ، فما كان منه إلا ان ابتسم وضرب موعدا لمنحي بعض كتبه في الايام التالية لهذا اللقاء . وبعد انتهاء الحرب في افغانستان وفي ندوة بجمعية دعوة الحق سمعته يقول لمحدثيه – وكانوا د.مصطفى عبدالرحمن والسفير محمد عزالدين ود.السد رزق الطويل - عن النظام الحاكم في افغانستان ممن ادعوا انهم حكومة اسلامية وقاتل بعضهم البعض أقول سمعته يقول "قبح الله وجوههم" ،،،
وفي المناظرة الأشهر في تاريخ مصر الذي عاصرته شخصيا في معرض القاهرة الدولي للكتاب وكانت بعنوان "مصر بين الدولة الدينية والمدنية وقد أدارها د.سمير سرحان" تقدم محمد أحمد خلف الله وفرج فودة فحاولا اثبات ان الاسلام دين وليس دولة واجتهدا في ذلك اجتهادا كبيرا مرهقا ، ورد عليهما الغزالى في بساطة وهدوء بقوله :"ما سمعنا بهذا ولا قرأناه ولا قال به أحد في الاولين ولا الأخرين ، وهذه المناظرة التي حضرها الاف الشباب والشيوخ فيومها امتلأ معرض الكتاب عن بكرة أبيه، وبعد المناظرة رأيته يستقل سيارته وسط حفاوة الجماهير وتحيتهم له.
وفي أوائل خطبه التي سمعتها منه في خطبة العيد بمسجد محمود ولا زالت كلماته ترن في أذني بل أصبحت قانونا فيما بعد في حياتي " إن دينا يقبل بأن تضم حجرة واحدة رجل مسلم وامرأة مسيحية لن يضيق بهم في الكون الفسيح من التعايش في سلام ".
وفي ندوة أخرى يشير الى استحالة دخول الجان جسم الإنسان فيذكر ان شابا فتيا قويا جاءه يشكو أن الجن قد لبسه فرد عليه بقوله "اراك قويا فتيا فلماذا لم تلبسه انت؟.
هناك مواقف وذكريات وأحداث كثيرة وقراءات متعددة لمؤلفاته ومواقفه وحواراته ولقاءته التليفزيونية ومقالاته في الصحف يضيق المقام بذكرها وقد يأتي اليوم الذي تخرج فيه كاملة في مؤلف عنه بأمر الله اتمنى ذلك .. اما كتبه وحياته وسيرته الذاتية فموجودة على مواقع الانترنت المختلفة فما عليك إلا تكتب اسمه وستجد ألاف المواقع والروابط التي تحدثك عنه وعن اعماله المصورة وخطبه النادرة.


د. خالد محمد عبدالغني


1624046252755.png




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى