أ. د. عادل الأسطه - محمد نفاع : أحب الأرض وكتب حكايتها وقاوم من أجلها

في الخامس عشر من تموز رحل ابن قرية بيت جن الجليلية الفلسطينية القاص والروائي محمد نفاع ، أحد أهم الأصوات القصصية الذين نشأنا على قصصهم وتربينا على مضامينها في ٧٠ القرن ٢٠ . وما من كاتب من كتاب القصة الفلسطينية الذين بدأوا يكتبونها في حينه لم يقرأ له ولاميل حبيبي وحنا ابراهيم ومحمد علي طه وسلمان ناطور وتوفيق فياض . ولا أبالغ إذا قلت إن أكثر كتاب السبعينيات قرأوا للأسماء المذكورة أكثر مما قرأوا للجيل المؤسس ؛ خليل بيدس ونجاتي صدقي ومحمود سيف الدين الإيراني وعارف العزوني ، ولا أبالغ أيضا إذا زعمت أنهم لم يعرفوا إلى اليوم ، إلا أقلهم ، قصص الأخيرين .
لقد ترك نفاع وجيله على كتاب السبعينيات أثرا أكبر من الأثر الذي تركه بيدس وجيله ، ويعود السبب إلى توفر قصصهم وعدم توفر قصص الجيل الأول .
حتى نقاد القصة القصيرة الفلسطينية الذين برزت أسماؤهم في السبعينيات ، مثل فخري صالح ونبيه القاسم ومحمود عباسي ومحمود غنايم ، كتبوا عن نفاع وجيله أكثر مما كتبوا عن بيدس وجيله ، بخلاف النقاد من جيل الخمسينيات مثل الدكتور هاشم ياغي الذي كتب عن بيدس وجيله وجيل الخمسينيات مثل سميرة عزام وغسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا ، ولكن ما كتبه لم يصل للأسف إلى أيدي نقاد السبعينيات إلا قليلا جدا .
كان لمحمد نفاع وجيله إذن حضور لافت ، ومن عاش في ٧٠ القرن ٢٠ وتردد على المكتبات ومعارض الكتب يعرف هذا جيدا ، ويحفظ أسماء مجموعات نفاع " الأصيلة " و " كوشان " و " ريح الشمال " و " ودية " عن ظهر قلب .
من يكتب حكايته يرث أرض الكلام :
كتب نفاع حكايته ليرث أرض الكلام .
كانت الصهيونية فكرة أخذت طريقها إلى أرض الواقع ، وبدأ الكتاب الصهاينة يكتبون حكايتهم ليرثوا أرض فلسطين ، وفي العام ١٩٠٢ كتب الأب الروحي للصهيونية ( ثيودور هرتسل ) روايته " أرض قديمة جديدة : إذا أردتم فإنها ليست خرافة " وتخيل فيها الدولة المنشودة وقد تحققت بعد ٢٠ عاما ، وهو ما كان تحقق في ١٩٤٨ ، وفقدنا نحن الأرض وصرنا نكتب حكايتنا إلى اليوم .
صار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على فلسطين صراع هويات وحكايات وصراع وجود ، وهذا ما أدركه الطرف الفلسطيني متأخرا حين كف عن ذرف الدموع والبكاء على الماضي وصار يكتب حكايته ويعمل لأجل استرجاع وطنه .
محمد نفاع على مدار تجربته القصصية عبر عن علاقة الفلسطيني بأرضه وحث على الدفاع عنها ودعا إلى المقاومة . ويحضر هذا في قصصه ويتخذ شكلين :
- دفاع المواطنين عن أراضيهم
- دفاعهم عن حكايتهم وعروبة أماكنهم .
ويتجسد الشكلان أيضا في مجموعته " التفاحة النهرية " (٢٠١١ ) ، ويمكن أن نتوقف أمام قصتي " مختار السموعي " و " الجرمق " منها .
مختار السموعي :
يكتب نفاع قصته هذه عن زمن الخمسينيات حين كان الفلسطينيون الباقون يعيشون تحت الحكم العسكري .
يحتجز مختار السموعي ، وهو يهودي يمني الأصل ، عنزتين ، واحدة للسارد والثانية لجاره ، فيحتاج الفلسطيني عمي علي ، لكي يصل إلى مكان احتجازهما في قرية السموعي إلى تصريح من الحكم العسكري ، وحين يحصل عليه يذهب ويذهب معه ابن جاره الذي يروي القصة .
في أثناء سعيه للحصول على التصريح يجري بينه وبين موظف الحكم العسكري الحوار الآتي :
" - تصريح يا خواجا للسموعي ، قال عمي علي للموظف .
- كفار شماي ، قال الموظف .
- للسموعي !! إي !!
- اسمها كفار شماي .
- تصريح للسموعي ... حجزوا لنا هناك ...
- قلنا اسمها كفار شما ... ي فش سموعي اليوم .
- يا عمي السمو ... عي حد فراضة ... ولو
- كيبوتس فرود !!
- فراضي ... ولو !!
- كيبوتس كاردوش !!
- فوق كفر عنان يا خواجا
- كفار حنانيا !!! قال موظف الحاكم العسكري . "
وواضح أن كلا من الفلسطيني واليهودي الإسرائيلي يروي حكايته ، وأنهما يتصارعان على الأرض وحكايتها وهويتها . الفلسطينيون يعرفون تفاصيلها ، وهذا ما نعرفه من عمي علي الذي حين يمر بالمكان يتذكر تفاصيله الدقيقة ، والإسرائيليون عملوا في ١٩٤٨ على تسوية القرية بالأرض وأقاموا الكيبوتسات على أنقاضها وعبرنوا أسماءها العربية وهودوا ملامحها .
في أثناء مرور عمي علي بالمكان الذي هجر منه ، حيث " البيوت مكفأة مهدمة باردة وعمي علي يئن ويعن وأحيانا تخرج كلمات مخنوقة مهدمة ، تارة أحسبه يقرأ شيئا من الدين واخرى كمن يشتم أحدا " ، وتتداعى الذكريات الخاصة بالمكان في ذهنه مرارا :
" عموري ، أبو الشيا ، النبع ، زيتون دار كروم ، بستان العبد صالح ، بستان آمين درويش ، العين - مضافة دار .. " .
وحين يفك صرة الزوادة " أخذ رغيفا ملفوفا ، وفعلت مثله ، ولكنه لم يأكل .
- عمي علي أول مرة بتيجي لهون بعد الهجيج !
التفت إلي بحنق ، ويا لهول ما أرى ، سحنة سوداء وغبراء مقلوبة غاضبة ، والدموع تفر من عيون محمرة . أرجع رغيف الخبز إلى الزوادة كما هو وقرصتني موجة حزن عليه وسكتنا ."
وهذه الفكرة أتيت عليها قبل أسابيع في مقالي " تعريب الجزائر وتهويد فلسطين / عبرنتها " في روايتي الحبيب السايح " الموت في وهران " و إميل حبيبي " اخطية " .
الجرمق :
في قصة " الجرمق " يأتي الكاتب على مصادرة أراض قرب الجرمق ومقاومة الفلسطينيين للمحتلين واشتباكهم معهم .
كعادته يتغزل القاص بالأرض ويربط بين حبها وحب المرأة ، فالسارد الذي يحرس مع أهل القرية الأرض وينامون فيها يتذكر ماضيه وإعجابه بإحدى فتيات القرية رآها قبل سنوات في المكان الذي يحرسه ، وحين يتصدون للمستوطنين والجيش يراها تتصدى معهم ، فيعجب بها أكثر ويراها وهي تقاوم أجمل .
حين رآها في المرة الأولى كتب في وصفها :
" كنا نجلس في عب شجرة سنديان متدلية ، وسكت عن المحظور واللامعقول ، فازاحت يديها عن صدرها الفواح كغمر النرجس الريان ، وانغمر المكان بأنفاسها المتقطعة وعتابها وعنادها ، لها يد مقاومة تراها في كل مكان في قوامها الحي الفتي المتدفق .... " .
وحين رآها ثانية يوم اشتبك سكان القرية مع الجيش كتب الفقرة الآتية التي تنتهي بها القصة :
" وغزلت في مخيلتي خيوط الذكريات .
- " باين التقينا هون .. قلت باحترام وغيرة " .
- " معلوم .. على بالك تشرب مي ؟ تفضل !! "
- " أيوه على بالي ... نمت عطشان في عب شجرة السنديان ... "
- خذ اشرب واسكت .. هس ولا كلمة !!"
وخيال بسمة يفوح على وجهها وفي عينيها بريق وكلام . كانت اليوم أجمل وأكمل ، وهذا اللقاء أجمل لقاء " .
في قصة " المخبر . ن " يربط نفاع بين الحب والمقاومة ثانية ويرى أنه لا توجد قيمة إنسانية أسمى من المقاومة .
لقد كتب نفاع حكايته ليرث أرض الكلام ومضى .
الكتابة تطول والمساحة محدودة
الجمعة
١٦ تموز ٢٠٢١


د. عادل الأسطه

( مقال اليوم الأحد في جريدة الأيام الفلسطينية متوسعا فيه )




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى