وليد منير - تقنيته أنقذت القص من الغنائية ..

مقالة نقدية

في مجموعته القصصية الصادرة عن سلسلة مختارات فصول الهيئة المصرية العامة للكتاب نيسان ( أبريل ) 1992م بعنوان ( إذعان صغير ) يحاول القاص السعودي فهد العتيق أن يصفي نسيج السرد القصصي من كل ما يمكن أن يعلق به من تشويشات تنتمي إلى مواقف الخارج ، على رغم كونه لا يعزل الواقع الخارجي عن الأعماق الداخلية للانا عزلاً تاماً ، فهو يصر على تقليب تربة الباطن تقليباً دائباً في مواجهة حدث بسيط جداً ، قد يكون ملموساً أو غير ملموس تثيره بشكل منفصل ومكثف دواعي العلاقات الخارجية ، أنه يقوم بما يسميه منظرو الدراما فعل التصدر وهو ترجمة للمصطلح المعروف ( Foregrounding ) ويعنى التركيز المتعمد على عنصر بعينه من دون بقية العناصر وتقديمه في ضوء جديد يلفت النظر إليه ، وما أشير إليه هنا هو عنصر الداخلية بما ينطوي عليه من دلالة نفسية بارزة ، ويسبق هذا العنصر كل وجود خارجي ويتأكد على حسابه ، لمثل هذا الوجود الخارجي مساحة من الضوء تعطي الداخل مظهراً جديداً ومعنى طارفاً.

الحدث الخارجي ليس سوى مناسبة مواتية لانفجار التداعي الباطني وتدفقه في غير مجرى الواقعة الحياتية مثير أولي فقط للمشاعر والعواطف والانفعالات الوجدانية المتشابكة التي تفصح عن نفسها في لغة أقرب إلى صورة المونولوغ ومن ثم لا يشغل الحوار القصصي إلا مكاناً ضئيلاً من عالم القصة.

يقول في ( شروق البيت ) ( رأيت أن أمي مشغولة فركضت إلى باب الشارع لأرى كيف تأتي شمس الصباح على شارعنا الصغير ، فتحت الباب ، وكما لو أنني أراه لأول مرة ، بدا لي لأول وهلة أنه شارع أخر لا أعرفه ، وجدت أن الشمس تأتيه من الجهة الأخرى ، من الشرق ، أليفة طازجة وجميلة ، وأدركت بعمق الإحساس كم أنا غائب عن أشياء رائعة ولها طعم خاص ).

هذا هو النموذج التعبيري الشائع في قصص المجموعة كلها: لغة تجهد في صيد اللحظة الشعرية وتتحدث عن حالة ، وغالبا ما تتجسد هذه الحالة عبر تأمل الراوي ذاته ، وينطوي هذا الفعل على اكتشاف ما: أن الذات تستعيد وجودها البكر حين تنجح في رأب الصدع بين شقيها المنفصمين ، الذات تثبت زمن اغترابها في المرآة لكي تستطيع أن تجاوز محنة الاغتراب وتنفي ثنائيتها ، وتؤدي هذه الثنائية التي تكشف عنها الذات إلى تعميق النغمة المريرة في وصف حالة الاغتراب ، أنها الغيمة الداكنة التي تمطر في قصص فهد العتيق وتنقذ منحى القص من الوقوع في شرك الغنائية بالكامل.

يقول في ( فصل غامض ): ( عدت إلى البيت في الثالثة ظهراً لأجده كالعادة في انتظاري ، صامتا ، بوقفة مهيبة ، وضعت الصحف جانباً ولم أجلس لأكل ، مضيت إلى غرفتي بسرعة ، لم أخلع ملابسي ،ولم أدخل الحمام ، اتجهت رأسا إلى السرير ، رميت جسدي وفتحت جهاز التسجيل ، كما لم أكن معتاداً ، وأثرت هذا اليوم أن أنام على ظهري ، ويا لله أية راحة تكشف عنها هذه الطريقة في النوم) ؟!

الصمت والوحدة ، والتساؤل والفرح بكسر العادات البسيطة والتأمل الذي يتأرجح بين اللذة والاكتئاب ، تجليات مكتملة لتجربة فردية ذات طابع وجودي حاد بالغ الاستبطان.

ولنتذكر معا السمات النفسية الشبيهة التي ميزت لغة فرانز كافكا في يومياته التي تنضح اغترابا وحسرة ، لنقرأ من كافكا: ( للمرة الأولى منذ وقت طويل اعتراني شعور البهجة هذا الصباح لأنني تخيلت صورة السكين تتلوى داخل قلبي. نظرت إلى وجهي في المرآة بإمعان شديد ، وكنت أرغب في إخافة نفسي في ما كنت أراقبها. الآن ، في التاسعة والنصف مساء ، ثمة شخص في الشقة المجاورة يدق مسماراً في الجدار الذي يفصل بيننا ).

عالم فهد العتيق هو عالم الهزيمة الشخصية ، والحلم ، والتفرد والانطواء على التيار الباطني للأفكار ، ورفض الخارج بما يحتويه من انكسار وقسوة معاً ، والإرهـاص ، والتوجس ، والخوف ، والشفافية الموجعة للروح ، وهو ينكر ، في بساطة أن يكون غير ما هو عليه ، وأن يذعن لقهر السلطة الاجتماعية التي تتمثل في الناس والوظيفة والعادة والأعراف المسبقة . بيد أنه يميل في كل ذلك إلى نوع من التحدي الرومانسي، المبطن ، وهو ما تكشف عنه اللغة في شعريتها ، وفي احتضانها أسرار الرؤى الذاتية المحض ، وفي انفلاتها من وصف التفصيلات الدقيقة لآليات القمع الإنساني داخل الواقع الذاتي شديد الصلابة والخشونة ، لنقل أن لغة فهد العتيق في هذه المجموعة تحن إلى المثال الأخلاقي الفردي كما صاغه الوجوديون ، وأنها تؤسس استعادتها الواسعة انطلاقاً من المقابلة الحادة بين الجدب والخصب ، بين الصحراء القديمة والينبوع ، دالة بذلك على ذوق مرهف إلى مجاوزة الضرورة ، وامتلاك ما خلفها من إمكانات الحرية واحتمالاتها.
* وليد منير : ناقد وشاعر مصري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى