أ. د. عادل الأسطة - الفلسطيني والحنين إلى زمن البراءة "وطأة اليقين" للسوري هوشنك أوسي

في روايته "وطأة اليقين، محنة السؤال وشهوة الخيال" ( ٢٠١٦ ) يأتي الكاتب السوري الكردي هوشنك أوسي على نماذج بشرية من الشرق البائس ويخوض في حياتها منذ كانت في بلادها إلى ما صارت إليه في الغرب ، ومن ضمنها يكون للفلسطيني حضور أيضا ، وقد لاحظنا له في الروايات العربية التي صورت نماذج لحياته في الغرب صورا مختلفة ؛ من إيجابية في المطلق كما في " النبيذة " لإنعام كجه جي " إلى صورة وسطية تجمع بين السلبي والإيجابي كما في " سيقان ملتوية " لزينب حفني و" عواطف وزوارها " للحبيب السالمي .
يكتب هوشنك أوسي عن فلسطيني قتل أبوه ، من الخلف ، وهو يقاتل في حرب العام ١٩٨٢ ، قتل برصاصة صديقه خليل أبوالوفا ، لا لخيانته أو تعاونه مع الإسرائيليين ، وإنما لطمع الصديق القاتل في زوجته .
يلتحق درغام ابن الشهيد ، بعد أن تتزوج أمه من قاتل زوجها ، بحركة فتح ليواصل طريق أبيه ، دون أن يعرف الحقيقة.
تتحول حياة أرملة الشهيد مع زوجها الجديد إلى جحيم ، وفي أثناء الخصام والمشاحنات يعلمها أنه هو من قتل زوجها ، وتصل العلاقة بين الطرفين إلى الانفصال ، فيتخلى الزوج عن زوجته وقد تركها وأبناءها في مهب الريح ، ما جعلها ، وهي تحتضر ، تتصل بابنها درغام ليرعى إخوته ولتعلمه بحقيقة مقتل أبيه ، وهنا يقرر الانتقام والثار ، ويتمكن من خليل أبو الوفا الذي صار مسؤولا كبيرا في مخيم عين الحلوة ويقتله ،
ولكي يتمكن من الهروب من المخيم إلى دمشق لا يتردد في ترك حركته والالتحاق بالجبهة الشعبية - القيادة العامة وسرعان ما يتركها لأنها مرتبطة بالنظام السوري ، فيتصل بياسر عرفات ويحصل على شهادة براءة وعدم ملاحقة ، والتفاصيل كثيرة .
بقي درغام / أبو ياسر في مخيم عين الحلوة حتى ٢٠٠٨ وبعد أن مل من مشاكل الفلسطينيين ، بحث عن اللجوء في أوروبا . لقد ترك زوجته وأولاده وهرب إلى تركيا ، وهناك عمل في تهريب البشر ، عبر البحر والبر إلى اليونان " من فدائي ومناضل يدافع عن قضية إلى مهرب ؟! وصار يرسل قسما مما يحصل عليه من الأموال إلى أسرته في المخيم ، وقسم يصرفه على البارات والملاهي والنساء . أصيب بالقرف من هذه الحياة أيضا ، هرب إلى اليونان ، ومنها إلى ألمانيا . أعادوه إلى اليونان بسبب بصماته ، لأن اليونانيين اعتقلوه أكثر من مرة ، وها هو الآن في بلجيكا منذ ٢٠٠٨ " .
هل شعر درغام وهو في بلجيكا بالرضا والاستقرار والطمانينة ؟
في بلجيكا صار يدخن الماريغوانا وصارت الحياة له لا تساوي سيجارة ، فقد اشتاق لأولاده وزوجته وللمخيم و " لسنوات البراءة الثورية حين كانت الأغاني والقصائد وحمل السلاح يشعرنا بالهيبة وأننا نمتلك طاقة معنوية رهيبة ، بإمكانها إزالة إسرائيل من الوجود وتحرير ألف فلسطين . اشتقت إلى تلك الأوهام والخرافات والأحلام الثورية المنادية بتحرير فلسطين من البحر إلى النهر ، أمام هذا الواقع القذر . " ، ويتساءل في النهاية :
" - من المسؤول عن كل هذا الخراب الذي نعيشه ؟! من ؟! "
وتغرورق عيناه بالدموع وهو ينهي جملته الأخيرة :
" اشتقت لرؤية ولدي ياسر وتقبيله واستنشاق رائحته " .
ولا يفعل شيئا سوى الشتيمة والكفر برب البلجيكيين ، كونهم رفضوا منحه الإقامة ، بحجة أنه أتى من مخيمات لبنان لا من مخيمات غزة ، فوضع مخيمات لبنان جيد؟؟؟؟!!!!.
كان درغام ولد في الخامس من حزيران ١٩٦٧ لأب فلسطيني لجأ في ١٩٤٨ من الجليل تزوج في سن متأخرة من مسيحية لبنانية ، ما جعله وهو يقص حكايته في بلجيكا يقصها ضاحكا:
"- كان عليهم تسميتي : هزيمة ، خيبة ، فشل ، إحباط ، يأس ، استسلام ... وليس درغام " .
كان أبو ياسر يكرر حكايته بحيث حفظها اصدقاؤه عن ظهر قلب ، وصاروا يذكرونه ببعض التفاصيل التي يسهو عنها أحيانا ، إلا أنه في كل مرة يضيف إليها جديدا " وكأنها رواية تجدد نفسها ، مقدر لها ألا تنتهي ، وبإمكان جلسائه إعادة سردها ، مضيفين إليها من خيالهم ، لكثرة ما سمعوها ، ولم يملوا منها " .
يجب أن ننظر إلى صورة الفلسطيني في هذه الرواية في ضوء صورته في روايات الكاتب الأخرى ، ففي روايته اللاحقة " أوهام حفلة مفتوحة " ( ٢٠١٨ ) يختار شخصية فلسطينية مختلفة .
يذهب أحمد إلى باكستان ليواصل دراسته الجامعية ويقع في حب طالبة ، ولكنه يؤثر أن يلبي نداء الثورة على مطمحه الفردي ويصبح طيارا لياسر عرفات ، ويستشهد في أثناء سقوط طائرة الرئيس في الصحراء الليبية في العام ١٩٩٢ . كان أحمد نموذجا إيجابيا للفلسطيني المحبوب المنتمي .
وإن نظرنا إلى صورة الفلسطيني في الرواية الأولى فإننا سرعان ما نستحضر شخصية " أبو الخيزران " في رواية غسان كنفاني " رجال في الشمس " ١٩٦٣ ، فأبو الخيزران قاتل في حرب ١٩٤٨ قبل أن يتحول إلى مهرب فلسطينيين في صهريجه إلى الكويت . كما تذكرنا أيضا برواية سامية عيسى " حليب التين " ( ٢٠١١ ) ، بخاصة حين يقص درغام عن مراهقته وتلصصه على خالته وهي في الحمام وممارسته العادة السرية .
وليست شخصية درغام ، في تحوله من مقاتل إلى مدخن ماريغوانا وسكير ، استثناء في الرواية العربية ، فهي تذكرنا بالشخصية الفلسطينية في رواية السوري فواز حداد " المترجم الخائن " ، فالفدائي فيها الذي أسر قلب الفتاة السورية ، ببدلة الفدائيين ، وفضلته على غيره من أقاربها ومن السوريين ، تحول بعد الخروج من بيروت والاستقرار في تونس إلى سكير يقضي وقته في الحانات .
لقد تحول الثائر الفلسطيني حين ترك الخندق ، والأصح حين أجبر على تركه ، إلى لاجيء في هذا البلد أو ذاك ، وإلى سكير ، يعيش حياة الفراغ ، والفراغ مفسدة ، ويحن إلى زمن البراءة الثورية.
ربما ما يلفت النظر في " وطأة اليقين " أنها تأتي على شخصيات أوروبية ، وشخصيات يهودية أصولها جزائرية ، لها موقف من الثورة الفلسطينية . فاليهودي الجزائري كان يتحدث مع الفلسطينيين باللغة العربية ويقول لهم كلاما قاسيا.
يكتب الكاتب فصلا عنوانه " كاترين دو وينتر " ، وهي امرأة بلجيكية أنفقت خمس سنوات من عمرها في سوريا وأحبتها وتعلمت فيها العربية ، وتعرفت في حياتها على شخصيات عربية منها التونسي والمغربي والمصري ، بل إنها تسمع بادوارد سعيد وبياسر عرفات .
" - أليس ذلك الشخص ، هو ياسر عرفات؟!
- أين؟!
- إلى اليمين ، الطاولة قبل الأخيرة . رجل يرتدي عقالا والشماخ العربي . معه على الطاولة أربعة رجال وسيدة .
- نعم ، هو . ما هذه الصدفة ؟! ولكن ، من أين تعرفينه؟!
- ألم أقل لك إنني صرت يسارية ، وتربطني علاقات جيدة مع فلسطينيين . تعرفت على أستاذ في جامعة كولومبيا يدعى ادوارد سعيد . حضرت له عدة محاضرات ، وقرأت له الكثير من المقالات والكتب . إنه رجل مثقف ، وناشط سياسي فلسطيني ، مؤيد لحل مشترك للقضية الفلسطينية . تعجبني أفكاره ... ! "
وتطلب كاترين من صديقها التونسي أن يقدمها إلى ياسر عرفات ، وتتقدم منه وتصافحه وتشعر بالفخر لحديثها معه ولمصافحته ، فهو كما تراه زعيم فلسطيني مناضل.
ويذهب تفكير كاترين بعد اغتيال غسان كنفاني إلى الانضمام إلى الثورة الفلسطينية التي تقاتل إسرائيل ، ولكنها تجاوزت الفكرة " بسبب عمبية ميونيخ في شهر أيلول من نفس العام واحتجاز الفريق الرياضي الإسرائيلي " .
كان رأي كاترين في العرب يعتمد على تجربتها مع كل منهم ، فهي لا تتبنى في نظرتها إلى الشعوب مواقف مسبقة . إنها ذات تفكير يساري وعليه فهي لا تنطلق من نظرة وطنية متعصبة أو من نظرة قومية .
كانت كاترين مع الثورة الفلسطينية ، ولكنها ضد سياستها في اختطاف الطائرات ، فهذا الفعل يشوه القضية ولا يخدمها ويظهر الفلسطينيين كارهابيين والإسرائيليين كضحايا ، بل ويزيد ذلك من تعاطف العالم مع إسرائيل .
ما لا يجب أن يغض الطرف عنه في استنطاق صورة الفلسطينيين في الرواية الكتابة عن الفصائل وخلافاتها . إن الصورة التي قدمتها تبدو صورة سلبية تسيء إلى الفلسطينيين عموما ، وهي صورة برزت أحيانا في الأدبيات الفلسطينية في القرن الماضي.
( مقال الأحد في جريدة الأيام الفلسطينية الموافق ٢٥ تموز ٢٠٢١ متوسعا فيه )
الجمعة
٢٣ تموز ٢٠٢١






[/MEDIA]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى