حيدر العايب - الفلسفة الأخلاقية عند الوضعية المنطقية

مقـــدمة:

إذا كانت الأخلاق في صورتها التقليدية تتجه إلى الإطلاق، وتجاوز نسبية الزمان والمكان لأنها وليدة الضمير الإنساني العام، أو العقل البشري كله. فإنها عند الوضعيين تختلف، إذ يقصرون مهمة عالم الأخلاق على دراسة العادات والعرف والتقاليد والآداب العامة والمثل العليا الجماعية التي تعارفت عليها المجتمعات.. كذلك يرى الفلاسفة أن للأخلاق طابعًا عقليًا وأن الحقيقة الأخلاقية "واقعة ذهنية" ولكن دعاة المذهب الوضعي يرون أنها - بخلاف ذلك - "ظاهرة موضوعية" يمكن ملاحظته. لذا نتساءل عن الخلفية اتي ينطلق منها الوضعيون في تصورهم للأخلاق؟ وأهم مبرراتهم لذلك؟
للوقوف على الرؤية الوضعية للأخلاق، فإننا وقفنا في بحثنا على النقاط التالية:
- التعريف بالوضعية المنطقية وأفكارها الفلسفية.
_ الوضعية المنطقية كنظرية غير معيارية.
- الوضعية المنطقية وأسئلة ما بعد الاخلاق.
- الوضعية المنطقية وموقفها من الأحكام القيمية.
- الأخلاق من منظور راسل و جورج دوارد مور.
ثم الخاتمة التي ضمناها أهم الانتقادات التي يمكن توجيهها للوضعية المنطقية .
أولا: التعريف بالوضعية المنطقية وأفكارها الفلسفية:
تندرج الوضعية المنطقية أو ما يعرف "حلقة فيينا" ضمن ما يعرف فلسفيا بالاتجاه التحليلي، أو "الفلسفة التحليلية". وان كان من الصعب ايجاد تعريف ضابط للفلسفة التحليلية ؛ نظرا لأن فلاسفتها لا يشكلون نسقا متماسكا فيما بينهم، بل وحتى من ناحية اسم عام يشكل توجههم، فعادة اسم "التحليل اللغوي"، "التحليل المنطقي"، "مدرسة كيمدرج" أو "فلسفة أكسفورد"، أو كذا "فلسفة اللغة العادية" بعد التطور الأخير[SUP][1][/SUP] الذي شهدته مع فيتجنشتين الثاني.
وعلى الرغم من أجميع فلاسفة هذه الحركة متفقون على أن "التحليل" هو الهدف الرئيسي من الفلسفة بالمعنى الخاص الذي يقدمونه لهذا اللفظ ، فهم يمارسونه لدوافع متباينة تماما، إلى الحد الذي يمكن أن يدفع أحد إلى القول بأنهم لا يشتركون في موقف فلسفي بعينه ، بل بالأحرى مرتبطون بخط معين لتطور الأفكار عن طبيعة الفلسفة ودورها ، وهو الخط الذي بدأه "مور" و "راسل"، واتجه به "فتجنشتاين" وجهة جديدة، وانحرف به "آير" عن طريقه...[SUP][2][/SUP]
وللفلسفة التحليلية ثلاث اتجاهات رئيسية: الاتجاه الواقعي، والاتجاه الوضعي المنطقي، ثم فلسفة اللغة العادية.
وان كان الاتجاه الواقعي؛ جاء ليقوض أركان المذهب المثالي الذي ساد الفكر الانجليزي منذ القرن التاسع عشر، ويعد راسل أهم ممثل لهذا المذهب، وكانت أهم اشكالية تدور حولها فلسفة هذا الاتجاه؛ هي العلاقة بين العلم والفلسفة، إذ كانوا على اعتقاد كامل بأن تصير الفلسفة علما على أساس واقعي، فيمكن للفلسفة باعتماد المنهج التحليلي أن تحقق وظيفة أساسية وهي توضيح وتنظيم المبادئ التي يقوم عليها العلم.
فإن الاتجاه الوضعي المنطقي؛ وهو الذي صدر عن حلقة فيينا ، تلك التي تشكلت عبر مجموعة من الرياضيين التفوا حول "موريس شيليك" عندما ذهب إلى فيينا سنة 1922 ، وكان من أعضائها البارزين "رودولف كارناب" و"فرديريك فايزمان" و "هربرت فايجل"و "اوتونوارث"، فضلا عن جملة من علماء الرياضيات. وقد انحلت الجماعة وتشتت أعضاؤها أثناء الحرب العالمية الثانية، فقد هجر بعضهم إلى الوم أ وبعضهم إلى انجلترا، حيث عملوا على نشر مبادئهم هناك.[SUP][3][/SUP]
وقد تبنى الوضعيون المناطقة نظرية المنطق التي قال بها الواقعيون، ولكنهم اختلفوا عن هؤلاء الواقعيين في موقفهم من الميتافيزيقا، حيث وقفوا موقف الرفض القاطع لها، فقد كان الواقعيون يعتقدون بإمكان الاستعاضة عن الكوزمولوجيا التآلفية التي قال بها الفلاسفة القدماء بميتافيزيقا علمية. إلا أن هذا الأمر قد بدا للوضعيين أمرا غير مشروع، وذلك بناء على مبدئهم المعروف باسم "مبدأ التحقق" الذي أظهر أن الميتافيزيقا لغو لا معنى له، وأصبحت مهمة الفلسفة عندهم محصورة في توضيح الأقوال التي يستخدمها العلم وذلك عن طريق التحليل المنطقي.[SUP][4][/SUP]
ومهما يكن من أمر فإن السمات المشتركة بين المناطقة الوضعيين والمناطقة التجريبيين، يمكن أن تتلخص في أربع نقاط رئيسة: أولا؛ في اعتناق نزعة تجريبية متطرفة تؤيدها مصادر المنطق الرياضي الحديث، ويخفف من غلوائها احترام من الممكن أن يكون مبالغا فيه لمآثر العلم وقدراته. ثانيا؛ في رفض متطرف أيضا للميتافيزيقا على أسس منطقية، لا على أنها زائفة أو لا جدوى منها فحسب، بل على أنها خالية من المعنى. ثالثا؛ في تضييق لنطاق الفلسفة بحيث تقتصر مهمتها على إلغاء مشكلاتها الخاصة عن طريق توضيح اللغة المستعملة من وضع تلك المشكلات. رابعا؛ في تحليل مصطلح العلوم وتوحيده، بإرجاعه إلى مصدر مشترك في لغة الفيزياء.[SUP][5][/SUP]
هذا الموقف المتشدد من الميتافيزيقا سيجعل كل المباحث الفلسفية التي لا تخضع إلى مبدإ التحقق، خاصة اللاّهوت، وكذا العلوم المعيارية، وبالضبط علم الأخلاق، مهمشا ولغته خالية من المعنى باعتبارها تنشغل على مفهومات ميتافيزيقية؛ كالخير والحق والشر....، وكما أن العلوم المعيارية تحدد ما ينبغي أن يكون لا ما هو كائن كالعلوم الوضعية، فهي ميتافيزيقا لا جدوى ترجى من خلالها.
ثانيا: الوضعية المنطقية كنظرية غير معيارية:
في النظريات غير المعيارية يتم تحليل القيمة، والتقويم، والخير. ولا تستعمل أحكام القيمة في تحليلها، ولا تخبرنا بما هو خير أو ما هو حاصل على القيمة، فهي تقوم بالتحليل وحسب، وتعرفه ما تكونه الخيرية، وما تكونه القيمة، ومعنى أن نقول أن شيئا ما خير أو حاصل على القيمة.[SUP][6][/SUP]
ان هذه النظريات ترفض المعيار وتستعمل التحليل باحثة في طبيعة الخير والفضيلة وعن معانيهما.
وقد يكون مجال القيمة متسعا شاملا، وقد يكوم محدودا، ولكن في كل الأحوال تتعلق الأسئلة المطروحة بواسطة النظريات غير المعيارية بطبيعة القيمة والسؤال عما تكونه القيمة والخيرية، وما معنى أو استعمال الخير؟ ما هو التقويم؟ وماذا نفعل أو نقول عندما نقوم بحكم قيمة؟
ويندرج تحت هذه الأسئلة السؤال عما تكونه القيمة الأخلاقية، وما يكونه التقويم الأخلاقي، وكيف تميز عن القيمة اللاأخلاقية، والتقويم اللاأخلاقي؟
ثم هناك مجموعة من الأسئلة تدور حول أحكام القيمة، والنظريات المعيارية، هل يمكن لهذه النظريات أن تبرر، أو تقدم أساسا ليقين ما، أو نوعا من التحقيق العقلي أو العملي؟ وهل في وسعها أن تظهر امكانية موضوعية بأي سبيل؟
واذا كان هذا ممكنا فكيف؟ وما هو منطق العقل في هذه الموضوعات ؟، وما هو منطق التبرير الأخلاقي اذا كان هناك ما يقدم هذا التبرير؟[SUP][7][/SUP]
ان الذين يمثلون الاتجاه غير المعياري [بما فيهم الوضعية المنطقية] يرون أن مصطلحا مثل القيمة، يشير إلى خواص الموضوع لأننا في أحكام القيمة نعزو خواصا معينة إلى الموضوعات التي نحكم عليها، بالرغم من أننا نتخذ موقفا سلبيا أو ايجابيا تجاهها. فأحكام القيمة تعد أحكاما وصفية أو واقعية؛ بمعنى أننا ننسب خواصا حقيقية أو زائفة للأشياء. وقد اضاف الطبيعيون الى ذلك أن الخاصية المتضمنة في الأحكام خاصية طبيعية أو امبريقية. كما رآها البعض خاصية عقلية مثل "رالف بارتون بيري"، بينما رآها البعض الآخر تمثل خاصية القدرة على اثارة انفعال ما.
وهكذا نجد أن النظريات غير المعيارية، تؤكد على أن القيمة لا تشير إلى حكم معياري. بل تشير إلى سمات وخواص وكيفيات محددة موجودة في موضوع الوصف أو التقرير. أي أننا إزاء موقف تحليلي، وليس موقفا معياريا. ويتساوى في ذلك كون الخاصية خاصية عقلية أو طبيعية.... أو غير ذلك.[SUP][8][/SUP]
ولقد أكد ألفريد آير، أن أحام القيمة، وشتى الاحكام الأخرى التي تنص على الواجبات، لا يمكن أن تعد أحكاما صادقة أو كاذبة، بل هي مجرد أقوال تعبر عن مشاعر المتكلم، بمعنى أن أحكام القيمة تمثل تجسيدا، أو تعبيرا كليا أو أوليا عن موقف أو انفعال أو رغبة، أو وسائل لتكريس ردود أفعال أخرى.[SUP][9][/SUP] حكام أقوال تعبر عن مشاعر النتكلم

ثالثا: الوضعية المنطقية وأسئلة ما بعد الأخلاق :
تتميز ما بعد–الأخلاق (الميتا أخلاق) عن الأخلاق المعيارية في كونها لا تهتم بما هو خير، بل تهتم بدلالة كلمة " خير" نفسها أو كلمات من قبيل " عادل " " أمين " .... الخ ، غير أنّ اهتماماتها ليست لسانية محضة، ولا تستطيع أن تكون كذلك، نظرا لان تحليل دلالات المفردات الأخلاقية المركزية يؤدي حتما إلى تفحص مشاكل ليست لسانية، لأننا أمام أسئلة مفهومية وابستمولوجية معرفية ودلالية نفسانية وانطولوجية ، لذا فإن الأسئلة التي تحظى بأكبر قدر من المناقشات هي التالية:
-هل يمكننا أن نشتق أحكاما تقييمية معيارية انطلاقا من أحكام وقائعية ؟
-كيف يمكننا أن نبرر أحكامنا الأخلاقية؟
- ما معنى الخير؟
-هل يمكن لبياناتنا الأخلاقية أن تكون صحيحة أو خاطئة؟ ... وغيرها من الأسئلة
أما عن السؤال الأول ، أي كيف يمكننا ا نشتق أحكاما تقييمية انطلاقا من أحكام وقائعية ؟ فلا بد من الإشارة الى التفرقة بين الأحكام الواقعية وبين الأحكام المعيارية ، وقد تمت على يد كل من دفيد هيوم و هنري بوانكارييه الذين تحدثا عن " ما هو كائن " –واقعة – " وما يجب أن يكون" – معيارية – وتم صاغتها بنصين منطقيين: نص بوانكاريه : " إن استنتاجا أمريا لا يمكن أن يشتق من استدلال ليس فيه أي مقدمة أمرية". ونص لدفيد هيوم: "لا يمكن أن نستنتج حكما مرتبطا بالرابطة " يجب "من غير أحكام مرتبطة بالرابطة "يجب"[SUP][10][/SUP]
أما عن السؤال الثاني ، أي كيف يمكننا ان نبرر أحكامنا القيمية؟ مثل قولنا – الرق شر – أو – الديموقراطية خير-... فإنه حسب الوضعيين المنطقيين لا يمكن تبرير مثل هذه الأحكام، لأنه لا توجد هناك أيه عملية إجرائية تسمح لنا بالتحقق من صحتها " تجريبيا " ، كما يمكننا أن نتحقق من صحة أحكام وقائع مثل قولنا : الرق كان موجودا في روما القديمة[SUP][11][/SUP].
أما عن المفهومات الأخلاقية كالخير والشر فهو امتداد لرؤية الوضعية فيما يتعلق بالفصل بين الواقع والمعيار .
فنجد جورج ادوارد مور في كتابه مبادئ الأخلاق رفض فكرة وجود تطابق مفهومي بين الخير ومختلف تحديداته ، لماذ؟ ، لان فلاسفة الأخلاق حسب مور قد اقترحوا التعريفات التالية للخير :
التعريف النفعي : " الخير هو ما يسهم في السعادة الأكبر للعدد الأكثر "
التعريف الطبيعاني: "هو ما اصطفاه التاريخ الطبيعي لنوعنا – أو ما ساهم في إبقائه-"
التعريف الميتافيزيقي :" الخير هو ما تريده إرادة حرة – الله –"
تعريف مبدأ اللذة :" الخير هو ما يمدنا باللذة"
حسب مور لو كان هناك تطابق مفهومي بين الخير وهذه التعريفات لكان هناك تناقض في نفي أي منها، فمثلا تعريف "العازب" نحن نقول بـأن هذا التعريف يقيم علاقة تطابق مفهومي بين " عازب " و " غير متزوج " لأن هناك تناقضا ان نؤكد " هذا عازب متزوج ...
كل هذه التعريفات التي تقترح وجود تطابق مفهومي بين الخير وبين بعض المفردات الأخرى التي تحاول تحديده ، في حين أن ليس هناك وجود لشيء من هذا القبيل ، هي في الواقع سفسطات طبيعانية[SUP][12][/SUP].
إن دلالة المفردات الأخلاقية العامة مثل : الخير " ولفترة طويلة وبسبب تأثير الوضعية ظلت النظرية السائدة إنفعالانية أو تعبيرانية، فخلافا لمفردات من قبيل " ازرق ، كبير ، مغنطيسي ..." فإن المفردة " خير " لا تصف شيئا على الإطلاق ، ولا أي خاصية في العالم، إنّها فقط تعبر عن القبول آو بالأصح إنها نوع من الهتاف ... – بلى، مرحى، أحسنت... – فأنا حين أقول " هذا خير " بخصوص عمل آو آخر لأني لا أصف أي شيء محدد لهذا العمل ، ولا أي سمة مختلفة عن ميزاته الطبيعية آو تأثيراته .. أي لا أفعل شيئا غير قبوله[SUP][13][/SUP]

رابعا: موقف الوضعية المنطقية من أحكام القيمة:
فلاسفة الوضعية المنطقية من أمثال كارناب وآير لا ينكرون الطابع المطلق للأحكام الأخلاقية فحسب، بل يقروا أنه ليس ثمة " قضايا أخلاقية" أصلا، والحق أن الفلسفة الأخلاقية التقليدية - فيما يقول كارناب – لا تنطوي على أي بحث في الواقع ، بل هي بحث مزعوم فيما هو خير وما هو شر، أي فيما يصح عمله وما يجوز عمله.
ولو اننا نظرنا إلى " العبارة الأخلاقية" على أنها " قضايا" لكان علينا أن نقول إنّنا هنا إزاء " قضايا زائفة " لا تعبر عن أي شيء قابل للتحقق تجريبيا[SUP][14][/SUP].
والحق أننا هنا إزاء أقاويل لا تعبر إلا عن بعض الرغبات أو الأوامر أو الوصايا ، فالعبارة الأخلاقية التي تقول مثلا : " إنّ القتل جريمة" لا تزيد عن كونها مجرد وصية أو أمر يشبه قولنا " لا تقتل " صحيح أننا هنا بصدد وصية مستترة ، ولكننا لا نستطيع أن نقول بأية حال أننا هنا بصدد قضية منطقية تقبل الصدق أو الكذب . في حين أن الأوامر لا يمكن أن تعد صادقة أو كاذبة ، وبالتالي فإنها لا تمثل " قضايا " أصلا .
نجد أن فلاسفة الأخلاق قد توهموا أن الأحكام القيمية هي قضايا حقيقية، فراحوا يجهدون أنفسهم بالبرهنة على صدقها أو كذبها، وفات هؤلاء أن أي "حكم قيمة" لا يزيد عن كونه وصية أو أمر مستترا خلف صيغة لغوية خداعة، ومعنى هذا أن العبارات الأخلاقية لا تقرر شيئا، ولا تشير إلى أي شئ، فلا سبيل إذن الى تقديم أي برهان إثبات أو برهان نفي ، إن على صحتها آو كذبها، ويمضي فلاسفة الوضعية المنطقية الى حد ابعد من ذلك فيقولون أنّ الأحكام الأخلاقية" هي مجرد تعبيرات عن بعض العواطف أو الانفعالات، فليس لقضايا الأخلاق أي معنى نظري أو عرفاني، بل هي أوامر أو وصايا عامرة بالشحنات الوجدانية آو العاطفية [SUP][15][/SUP].
هذا وان أقر الوضعيون المنطقيون بوجود أحكام قيمية، فإنها لا تكون إلا باعتبارها "موضوعية" فقد كتب "ج إ مور" في كتابه "مبادئ الأخلاق" [ فلنتخيل عالما جميلا بشكل فائق للعادة، تخيل أنه جميل بأكبر ما تستطيع التخيل، أو أن جميع الجبال والانهار والبحار والشجر والنجوم... تعمل معا، وتسهم في زيادة الجمال. ثم بعد ذلك تخيل عالما شديد القبح بأقصى ما بوسعك أن تتخيل، وكل شئ فيه يعمل من أجل تكديس هذا القبح. وأخيرا تخيل الآن أنه ليس هناك أي وجود انساني، يعيش أو يمكن أن يعيش في كليهما ، أو يستطيع أن يرى أو يستمتع بجمال الأول، أو يبغض قبح وبشاعة الآخر ... ومع أنهما بمعزل تام عن تأمل الموجودات الانسانية ، أليس من اللامعقول أن نرى أن وجود العالم الجميل أفضل من وجود العالم القبيح؟].[SUP][16][/SUP]
إن "مور" إذ يؤكد أن العالم الجميل يكون موضوعيا أفضل من العالم القبيح على الرغم من غياب الوجود الانساني، بمعنى غياب من "يرى" ومن "يستمتع" بل ومن "يتأمل"، وان القبول الظاهري لما يقدمه لنا "مور" يعتمد على مغالطة من الصعب تجنبها. فإذا ما طلب منا أن نتخيل الجمال المفرط لعالم ما، ثم القبح المطبق للآخر.. فإننا طالما نتخيل فليس في وسعنا أن نتجاهل ذواتنا أو أن نلغيها، وليس في إمكاننا أن نتجنب ميولنا الخاصة.[SUP][17][/SUP]
إننا عندما نسأل عن القيم التي يمكن أن توجد عندما لا يكون هناك من يقومها، أشبه بالتناقض عندما نسأل ماذا تشبه هذه الموضوعات عندما لا يوجد الشخص الذي ينظر إليها." على العموم، بدون وميض الوعي، لا وجود للظواهر أو القيم "[SUP][18][/SUP] .
خامسا: الفلسفة الأخلاقية من وجهة نظر راسل، وجورج إدوارد مور:
برتراند راسل:

ولد راسل عام 1872 وتوفي عام 1970، وهو يعتبر أن الإنسان ما هو إلا جزء ضئيل من الطبيعة، وأفكاره تحددها العمليات التي يقوم بها الدماغ، فهي إذا محكومة بقوانين الطبيعة.
أما العمل فهو المصدر الوحيد لمعرفتنا، فإنه لا يقدم أي تأييد للاعتقاد في الألوهية أو في خلود النفس، عقيدة الخلود في رأي راسل عقيدة سخيفة وغير معقولة.. الدين يقوم على الخوف وبالتالي فهو شر، لذا يقول رسل: " عدو الطبيعة والذوق في العالم الحديث " وهو يوجد عند الأقوام التي لم تبلغ بعد نضجها[SUP][19][/SUP].
ولكن إذا كان مكان الإنسان في نظام الوجود محصورا في جزء بغير أهمية من الطبيعة إ فإنّ مكانه في نظام القيم الذي يتعدى بكثير الطبيعة القائمة، هو على الضد أهم بكثير.
إنّ الإنسان قادر على تكوين مثل أعلى "للحياة الطيبة"، أي حياة يقودها الحب الوجداني وتسير في طريقها بقيادة المعرفة، وهذا الأساس وحده كاف في رأي راسل لقيام الأخلاق ، وكل نظام للأخلاق النظرية هو بغير لازمة. ولتأييد هذا الموقف يقول راسل : إنّ ما علينا أن نضع أنفسنا في موضع أم مرض طفلها، إنّها تحتاج ليس إلى دعاة أخلاقيين، بل إلى طبيب قادر .
صحيح ان القواعد الأخلاقية العلمية ضرورية للحياة ، ولكن معظم هذه القواعد تعتمد اليوم في قسمها الأعظم على أفكار خرافية، كما نرى من القواعد التي تحكم الحياة الزوجية أو أخلاق السلوك الجنسية ، كأن يتزوج الرجل بامرأة واحدة... وخاطئ أيضا المثل الأعلى الذي يُخضع مصلحة المجتمع فوق الفرد وهو المثل الأعلى الديمقراطي، او الذي يضع مصلحة الفرد فوق مصلحة المجتمع كالمثل الأعلى الأرستقراطي. وغنما غاية الأخلاق هي السعادة عبر تحرير الإنسان من الخرافة – يقصد الدين والأخلاق العامة- التي تعوق الطبيعة/ وإنما السعادة كل السعادة في رأي راسل هي في التقدم والرقي والازدهار العلمي لأن كل ما في الطبيعة بما فيها الطبيعة الإنسانية ينبغي ان يصير موضوعا للدراسة العلمية.[SUP][20][/SUP]
جورج إدوارد مور:
ينتمي الفيلسوف الانجليزي ج إ مور، إلى مدرستين من مدارس الفكر الفلسفي الحديث، فهو من حيث المنهج يعد من رواد المدرسة التحليلية شأنه في ذلك شأن راسل، وهو من حيث مضمون فكره يمكن أن نعتبره مؤسسا للواقعية الجديدة[SUP][21][/SUP].
وفي مجال الأخلاق حاول مور تطبيق منهجه التحليلي، مستقلا بذلك عن جميع المذاهب الشاملة والآراء التقليدية. ورغم أنه لم يشيد مذهبا، فقد حاول جادا، بالتحليل النقدي الدقيق، أن يبسط أسس التفكير الأخلاقي ويكشف عن مشكلاته. وقد عبد طريق علم الأخلاق من أساسه...
والمشكلة الرئيسية عند مور في علم الأخلاق هي مشكلة تعريف الخير _الميتا أخلاق كما تطرقنا إليها سابقا_ ، وموضوعه الأساسي هو التنقيب الصحيحة التي تجعلنا نعد هذا الشئ أو ذاك خيرا. وفي كتابه أصول الأخلاق يحاول مور أن يجيب عن هذا السؤال "ماهي أنواع الأشياء الخيرة؟" وكانت إجابته غاية في البساطة إذ يقول "إن هناك صنوفا عديدة لتلك الأشياء منها ؛ مسرات الحديث الانساني، والاستمتاع بالحياة الجميلة".
بيد أن معظم عمله مكرس لتحليل "الخير"، وهنا ينصح الفيلسوف التحليلي _تمشيا مع منهجه في الفحص_، أن يتأمل في انتباه ما يقوم فعلا أمام عقله، على أمل لو أنه حاول هذه التجربة مع كل تعريف مقترح، فقد يصبح خبيرا إلى درجة تؤهله لمعرفة أنه في كل حالة ، يكون القائم أمام عقله موضوعا فريدا. وقال "مور" _متأثرا بمنهج التقسيم_ إن التعريف "يقرر ماهي الأجزاء التي تِلف دائما كلا بعينه "، وبهذا المعنى لا يكون لفكرة "الخير" تعريف ، لأنها فكرة بسيطة لا أجزاء لها". وهذا المفهوم البسيط الذي يعتقد أن لفظة "الخير" تقوم للدلالة عليه، سماه صفة "لا طبيعية "، وأية محاولة لمساواته بأي مفهوم آخر ، سماها وقوعا في "المغالطة الطبيعية".[SUP][22][/SUP]
فالخير عند مور صفة بسيطة غير قابلة للتحليلي مثل اللون الأصفر، ومعرفته تكون بنوع من الحدس البسيط، ومن ثم يمكن أن نعد مور مؤسس النزعة الحدسية في علم الأخلاق. الخير هو الخير ولا شيء غيره ، ولا سبيل إلى تعريفه لأنه خال من كل تركيب أو تعقيد. الخير هو ذاته ولا شيء غيره ، فهو يتكشف بماهيته الباطنة ، ولا يمكن أن يدرك بتحديدات مستمدة من أي مصدر آخر، فإذا حاولنا ذلك وقعنا في مغالطة "النزعة الطبيعية"، كأن نحاول تعريف الخير بأنه "ما هو نافع"، أو "ما هو مرغوب فيه" أو "مسبب للذة"..، وعلى ذلك نبغي التفرقة بين الخير من حيث هو وسيلة، وبين الخير في ذاته. فالسؤال عما هو أفضل في ذاته، والسؤال عما يؤدي إلى أفضل النتائج، هما سؤالان مختلفان تماما، ومن الواجب الابقاء على انفصالهما كاملا.[SUP][23][/SUP]









محمد مهران رشوان: مدخل إلى دراسة الفلسفة المعاصرة، ط02 ، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة،1984 ، ص 152 .[1]
المرجع نفسه: ص 154.[2]
محمد مهران رشوان : مدخل إلى دراسة الفلسفة المعاصرة ، ص 178،179 . [3]
المرجع نفسه: ص 179.[4]
فؤاد كامل: أعلام الفكر الفلسفي المعاصر، ط01 ، دار الجيل ، بيروت، 1993 ، ص 85 . [5]
رمضان الصباغ: الأحكام التقويمية في الجمال والأخلاق، ط01 ، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الاسكندرية، 1998، ص 81 . [6]
المرجع نفسه، ص 82. [7]
رمضان الصباغ: المرجع السابق، ص 83 . [8]
المرجع نفسه، ص 84 . [9]
- مونيك كانتو,سبيريبر دوفين ادجيان، الفلسفة الأخلاقية، تر جورج زيناتي ، ط1، دار الكتاب الجديدة المتحدة، 2008، ص65.[10]
- مونيك كانتو، سبيريبر دوفين ادجيان، الفلسفة الأخلاقية: ص69.[11]
- المرجع نفسه، ص 66-67.[12]
- المرجع نفسه، ص 72-73.[13]
-زكريا ابراهيم ، مشكلات فلسفية: المشكلة الخلقية، دار مصر للطباعة، د ط، د ت ص67.[14]
- المرجع السابق، ص67-68.[15]
رمضان الصباغ: مرجع سابق، ص 69.[16]
المرجع نفسه، الصفحة نفسها.[17]
المرجع نفسه، ص 69، 70.[18]
- إ. م. بوشفسكي ، الفلسفة المعاصرة في اوروبا، تر عزت قرني ، عالم المعرفة ، عدد165، 1992، الكويت،79.[19]
- المرجع نفسه، ص80.[20]
فؤاد كامل: أعلام الفكر الفلسفي المعاصر، ط01 ، دار الجيل ، بيروت، 1993 ، ص 38 . [21]
المرجع نفسه، ص 45. [22]
فؤاد كامل : المرجع السابق، ص 45 .[23]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى