تماضر الطاهر - "ود الشريف رايو كِمِل"

كنت أبحث للمرة الأولى بين متعلقات والدي رحمه الله، فوجدت غلافاً لاسطوانة (CD) كتب عليه عنوان محتواها بقلم أزرق (مارشات عسكرية)، فعدت بذاكرتي لأيام في الطفولة وأخر متشابهات، عندما كان يترنم بالمارشات العسكرية او الجلالات وأنا أستمع إليه في دهشة!!
وأسأل نفسي باي لغة يغني؟
كانت اللغة المستخدمة في غناء الجيش -إن جاز لي التعبير- مختلفة ومتميزة، والأصوات التي تؤدي تلك المارشات متساوية في القوة، تصرخ بالتعبير عن المعاني ولا تحرص كثيراً على إظهار جماليات الصوت وحلياته.
لم أكن أفهم مفرداتها جيداً ،لكنها كانت ذات وقع محبب، تسري عبرها روح القومية السودانية الاصيلة بأصوات تلك الحناجر السمراء، التي شكلت خلاياها حضارة قديمة عريقة تخص السودان وتنتمي لأرضه.
عُرف السودان كغيره من شعوب افريقيا بألحانه وإيقاعاته الشعبية، التي تختلف في تراكيبها وانماطها من منطقة لاخرى.
فنجد مناطق الشمال الصحراوية أو التي تقع على الشريط النهري تختلف في موروثها النغمي عن ما يستخدمه الرعاة والرحل في الشرق والوسط والغرب، اما أهل الجنوب فقد ارتبطت ألحانهم بطقوس العبادات والمواسم والاحتفالات القبلية.
تختلف الآلات الموسيقية من منطقة لأخرى وتتعدد اشكالها من آلات نفخ وطبول وإيقاعات وغيرها، إلا ان (الربابة) او (الطمبور) ، ظلت هي الآلة المحببة والمشتركة بين مختلف مناطق السودان.
وعن بداية دخول الموسيقى العسكرية لوحدات الجيش، فقد كانت خلال فترة الحكم التركي،ثم سلكت بعد زواله مسلكاً وطنياً مشبعاً بجمال الحماسة والحِكم السائدة في المجتمع، والاغنيات الشعبية بكل ما تتضمن من حكايات وأساطير و مدح وتمجيد لسير الرجال الاقوياء، و حتى السخرية والتندر الطريف بالجبناء والبخلاء
احتوت المارشات على كل تلك الفنون، اما اغنيات الشوق للحبيبات البعيدات عن (العين)، فهي صاحبة التأثير المنعش،الذي يحفز الجنود على قطع المسافات ألطويلة والشاقة، وتجعلهم يتحملون المهام العسيرة التي لا تهون إلا بالغناء.
جمعت موسيقى الجيش بين استخدام عدد من الآلات المحلية والعالمية،وتطورت بجهد القائمين عليها في أساليب العزف بعد ان تم تدريبهم بواسطة الخبراء المهرة من داخل وخارج السودان، وظهرت براعتهم في العزف فأصبح بإمكان أحدهم أن يعزف أكثر من آلة بمهارة وجودة.
تقوم فرق الجيش التابعة لسلاح الموسيقى بتقديم الاعمال الموسيقية البحتة،إذ تشكل حضوراً اساسياً في المراسم السيادية الرسمية والشعبية ايضاً.
اما الأعمال المصحوبة بالغناء فتكون غالباً في المناسبات الوطنية كالمهرجانات والاحتفالات المرتبطة بأعياد الاستقلال والجيش وغيرها.
لم يكن اختيار كلمات المارشات والجلالات بالامر الهين، بل صاحبته الكثير من المعالجات حتى ينسجم اللحن مع الاشعار المختارة،
وقد اورد الدكتور محمد سيف الدين في بحثه الوافي عن الموسيقى العسكرية في السودان، الكثير من المعلومات ، كما وثق -مشكوراً- لعدد من المارشات العسكرية بالكلمات وحروف النوتة الموسيقية.
و(مارش ود الشريف) هو شعر دارفوري حاز على إعجاب الاستاذ خليل فرح، الذي استخدمه في بداية اغنية (عازة) الشهيرة ،كما جاء في البحث:
ود الشريف رايو كمل رايو كمل
جيبو لي شالايته من دار قمر
يا عباد الله حلوني من جقود
وقد اتت قصته على لسان المساعد (حسن عبد الجليل)، وهو من قدامى عساكر الجيش، وحكى ان هناك قائد يدعى (ود الشريف)، وقد طُلب منه إخضاع منطقة (دار قمر) لحكم المهدية، فتصدى له (جقود) وهو من فرسان المنطقة وهزمه شر هزيمة، ومع هروب (ود الشريف) من ميدان المعركة، سقطت (شالايته) او ملفحته، فقامت إحدى الحكامات بتخليد ذلك المشهد.
احتوى تاريخ الموسيقى العسكرية بالسودن، على نتاج جهد مقدر بلا شك، يعيد لنا بالتزامن مع أعياد الجيش سيرة قدامى المحاربين،الذين شكلوا صفوف جيش السودان بالحرف والنغم قبل البندقية.
،
(اللهم ارحم من توفي من قدامى المحاربين، وتنعم بالصحة والعافية على من بقي منهم.
أخصهم بهذا المقال وأعنيهم)



------------------------------------
تم نشره بجريدة حكايات بتاريخ ١٦ أغسطس ٢٠٢٠م




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى