سعيد فرحاوي - مصطفى ملح ؛ شاعر يأكل النار ليلد الحياة.

النار بمعنى الحياة؛ النار بمعنى الموت..
هي الحياة التي تتحول في تيه الكتابة الى ممرات بلا بوصلة.
هي كتابة ترشق الازدوجيات لتلد الدلالة المتمفصلة في لعبة الاثنانيات التي تثير فضول كتابة تبني العالم بلغز العدم.
هي الرموز التي تخرجنا من ضجيج داخلي تحركه الكلمات؛ ليصبح سكونا يفجر المختفيات في عمقنا الذي نام طويلا. هي الحركات التي تتوقف تارة؛ لنغير الوجهة بحثا عن ذوات اخرى لانعرف هويتها؛ رغم انها تعيش في تناقضاتنا.
نص قرأته في الوهلة الاولى ففهمت منه اشارات بمعاني مختلفة. تركته جانبا فعدت الى نفسي لأرثب فيها بعض شتاتي؛ ربما يسعفني لأعود مرة أخرى الى فوضى منعرجات شاءها رجل اسمه مصطفى الملح ان تولد من جديد.
لا يهم مادامت الحقيقة لها وجوه متعددة؛ والشاعر هنا كتبها بلغة الكلمات التي تتأسس وفق صيرورة تتحكم فيها حكامة المتناقضات التي تتصارع لتبنى بصيغ مختلفة.
الشاعر أعرفه جيدا. ماأعرف عنه اكثر هو كثير الانتاج. كما اعرف عنه انه جيد الصياغات. كنت أتجنبه كثيرا؛ ربما لسبب واحد مفاده انه يوما ما سألتقي به في حضرة الكتابة؛ بسواد مغاير؛ او أعانقه في رحبة الكتابة لنتصالح معا بعتاب السؤال الشائك؛المربك؛ المتعب؛ المنتهي في معنى الغياب؛ الحالم في لعبة التحولات؛ التي دوما تلزمنا ان نتعلم اسرار الفراغ الذي؛ دوما يعاتبنا بشروخ مختلفة. أو كنت أتجنبه لأعانقه في حمق النار.
كان نص النار نار بمعنى النار؛ ربما فرصة مسعفة لنتكلم معا بلغة العيون التي ترى مايغيب عن الاخرين. فخرجت منه لأتكلم بصيغتي عنه. ربما الكلام احيانا لايكفي ان نقول كل شيء. لكن اتفقنا بدون ان نتكلم اننا سنتكلم بكلام لايشبه كلام الاخرين. فكان الكلام كلام النار كما رآها مصطفى الملح بنظرات مثيرة تنقل الصدى بضجيج الصمت الذي يقول كل شيء في اللاشيء. كنت ملزما ان اعيد الترتيب؛ ربما ان أصاحبه لأجدد التأويل؛ او أخترق فلسفة اللعب بنار النار. فكانت نارا لاتحرق؛ نارا لاترحم؛ نارا لاتترك وراءها حيا إلا وحولته جملا من السراب الذي يتشظى في متاهة التعالي بشرود الهاربين من حياة العبث. لهذا نار صديقي مميزة بمنعرجات عدة؛ لها مواصفات مختلفة؛ تتحرك بمشيئة لايعرف تربتها سوى شاعر خلق من نار لاتحرق الجماد؛ كما لا تفني الحي فينا؛ فتصبح نار صديقي متحركة بتراتبية جد محكمة؛ تسير في طريق بلا ممرات؛ تنعرج في حروف الشعر؛ الذي حوله الرجل جدالا؛ يرسم الحياة على قدر الورق.
هي نار لا كالنار؛ لانها نار النار. نار تحدد مساحة الحب؛ كما ترشق وجع الموت. تقذف وسامة النور؛ فتتحول الذات المتأملة؛ الحالمة؛ المتوغلة في جنون النار؛ نارا اخرى. فيصبح الشاعر هو عينه نار النار. بالنار يكتب النار؛ في النار يصبح هو عينه نور النار؛ كما تصبح النار في نظرة الشاعر نارا؛ بها يرى الحياة كالنار ؛ فيها يغير وجه الكون ليتشظى النار في نار الشاعر التي شاءها حبا ؛ نورا؛ موتا؛ وجعا؛ حياة؛ عتابا ؛ تصورا؛ رؤية ؛ بل شعرا منها يفهم الحياة؛ وفيها يرى وجه الطبيعة التي تركها الرب اساس الوجود؛ الذي اخترقه الشاعر ليغير الحياة فيه؛ فتصبح التمثلات كلها نار في نار. تتكلم بالنار؛ تبتسم بالنار؛ وتحيا في صياغة الرؤية التي تنولد من فلسفة النار؛ فيصبح كل شيء اساسه نار في نار؛ بالنار تتشكل النار. وفي النار تكتب الغاز الحياة؛ التي عمقها أساس الحياة؛ وقيمة لاحدود لها؛ تعيد رسم الوجود على وجع النار.
فأفهم ان الرجل استطاع ان يأنسن النار؛ ليجعل منها اساس الحياة وماهية الوجود. فاستحق الكاتب ؛ بامتياز؛ ان يكون هو ذاته شاعر النار.
يقول الشاعر:
النّــــار
.
أَكْرَهُ النّارَ التي هِيَ النّارُ،
أُحِبُّ النّارَ التي هِيَ النّورُ!
.
أَكْرَهُ النّارَ التي تُحْرِقُ.
أُحِبُّ النّارَ التي تُدْفِئُ وتُنْضِجُ.
أَكْرَهُ النّارَ التي تُحْرِقُ الغابَةَ،
أَكْرَهُ النّارَ التي تُحْرِقُ القُدْسَ وتَعاليمَ إِبْراهيمَ،
أَكْرَهُ النّارَ التي تُحْرِقُ الأَمْواتَ البوذِيّينَ وحُقولَ العائِلَةِ.
أُحِبُّ النّارَ التي تُدْفِئُ البَدَنَ المَقْرورَ.
أُحِبُّ النّارَ التي لا نارَ فيها.
أُحِبُّ النّارَ التي تُنْضِجُ الطَّعامَ في مَوْقِدِ جَدَّتي.
لا أُحِبُّ النّارَ،
أُحِبُّ النّارَ!
.
في قِبابِ البَرْلَمانِ،
لا وُجودَ لِمُحَمَّدٍ ولا عيسى ولا موسى.
في قِبابِ البَرْلَمانِ،
عَناكِبُ ودُمىً وأَراجيزُ ونارٌ لا تُدْفِئُ ولا تُنْضِجُ.
في قِبابِ البَرْلَمانِ،
باعَةٌ وسَماسِرَةٌ وكومَةُ تِبْنٍ قَديمٍ يَبْتَلِعُها الضُّيوفُ.
أَنْتَ لَسْتَ مِنَ الضُّيوفِ. أَنا لَسْتُ مِنَ الضُّيوفِ.
كِلانا، أَنا وأَنْتَ،
لا نُصَدِّقُ الرُّعاةَ الذينَ يَقودونَنا إِلى الجَنَّةِ.
لا أَحَدَ يَمْلِكُ مَفاتيحَ الجَنَّةِ.
لا أَحَدَ صاحٍ والآخَرونَ نِيامٌ،
لا أَحَدَ يَرى أَفْضَلَ مِنَ الآخَرِ،
لِذَلِكَ فَالجَنَّةُ لَيْسَتْ هِيَ الغابَةَ.
الغابَةُ حَريقٌ تَنْفُخُ فيهِ الغيلانُ.
الجَنَّةُ دِفْءٌ تَجودُ بِهِ المَلائِكَةُ!
.
لا أَحَدَ أَكْبَرُ مِنْ أَحَدٍ.
الصِّراطُ أَمامَنا وأَحْذِيَةُ الجُنودِ على رُؤوسِنا.
مِنْ أَيِّ قَرْيَةٍ جِئْتَ؟
الدَّمُ في الصِّراطِ والأَحْذِيَةِ والغَسَقِ.
وفي مَكانٍ ما يَزْحَفُ البَطْريقُ على البَطْنِ.
دَمٌ في الثَّلْجِ وفي رِجْلِ البَطْريقِ وفي القُدْسِ وفي الغابَةِ،
وفي الوَرَقِ الأَبْيَضِ لِتِلْميذَةٍ سَقَطَتْ فَوْقَها قَذيفَةٌ.
التِّلْميذَةُ تَتَّجِهُ تارَةً صَوْبَ الصِّراطِ،
وتارَةً أُخْرى صَوْبَ الجَنَّةِ.
المَلائِكَةُ يَمْسَحونَ الدَّمَ مِنْ رِجْلِ البَطْريقِ.
المَلائِكَةُ يَمْسَحونَ الدَّمَ مِنْ جَسَدِ التِّلْميذَةِ.
الوَرَقُ الأَبْيَضُ يَغْسِلُهُ مَطَرٌ.
المَطَرُ يَأْكُلُهُ جوعُ التُّرابِ.
اللهُ يَأْمُرُ بِمَطَرٍ آخَرَ.
البَياضُ يَتَدَلّى كَغُصْنٍ.
هَلْ كانَ بَياضَ الثَّلْجِ أَمِ الكَفَنِ أَمِ الوَرَقِ أَمِ الجَنَّةِ؟!
.
أُحِبُّ النّارَ التي تُنْضِجُ التّينَ،
وتَجْعَلُ الصُّبّارَ عَريضاً مْثْلَ أُذُنَيْ فيلٍ إِفْريقِيٍّ.
أَكْرَهُ النّارَ التي في البُنْدُقِيَّةِ والبُرْكانِ وفَمِ التِّنّينِ،
ورُعاةِ البَرْلَمانِ العُراةِ كَظَهيرَةٍ شِرّيرَةٍ.
لا أَقْرَأُ الأُجْرومِيَّةَ ولا أَلْفِيَةَ ابْنِ مالِكٍ،
لَكِنَّني لا أَرْفَعُ الذِّئْبَ ولا أَجُرُّ الشّاعِرَ إِلى الجَحيمِ.
بَسيطٌ مِثْلَ بُسْتانِيٍّ مُتَقاعِدٍ،
راضٍ مِثْلَ نَهْرٍ ناءٍ لا تَغْتَسِلُ فيهِ الأَميرَةُ.
لَنْ يَنْقُصَني شَيْءٌ إِذا كُنْتُ نَهْراً،
تَغْسِلُ فِيَّ العَجائِزُ صُوفَ الماعِزِ الجَبَلِيِّ.
في كِلْتا الحالَتَيْنِ سَأَظَلُّ النَّهْرَ.
لا فَرْقَ بَيْنَ شَعْرِ الأَميرَةِ وبَيْنَ صوفِ الماعِزِ.
أَخيراً سَيَكونُ لي مَصَبٌّ في البَحْرِ.
صارَ لي مَصَبٌّ في البَحْرِ.
صِرْتُ ابْنَ البَحْرِ..
.
وُلِدْتُ مِنْ أَبٍ يُرَبّي الأَنْعامَ،
ويَقُصُّ أَصْوافَ صِغارِها في الصَّيْفِ،
ويَبيعُ الخَضْراواتِ في السّوقِ الأُسْبوعِيِّ.
ومِنْ أُمٍّ تَبْني الفَزّاعَاتِ لطَرْدِ البومِ،
وتُخَضِّبُ كَفَّيَّ الصَّغيرَتَيْنِ بِحِنّاءِ العيدِ،
ولأَنَّني كُنْتُ أَحْسِبُ الحِنّاءَ دَماً،
كُنْتُ أَهْرُبُ وأَحْتَمي بِتَشابُكِ أَغْصانِ الصُّبّارِ،
وحينَ كَبُرْتُ عَلِمْتُ أَنَّ الزَّمَنَ،
أَقْسى مِنَ الدَّمِ ومِنَ الصُّبّارِ..
.
الزَّمَنٌ نارٌ تَتَّقِدُ يَوْمِيّاً.
لا تَحْتاجُ حَطَباً أَوْ وَبَرَ الحَميرِ،
لا تَحْتاجُ ذُؤابَةً أَوْ عودَ ثِقابٍ،
لا تَحْتاجُ سيقانَ الذُّرَةِ ولا الأَعْشابَ الطُّفَيْلِيَّةَ،
الزَّمَنُ يَشْتَعِلُ تِلْقائِيّاً،
لأَنَّ لُحومَنا المُلْتَهِبَةَ أَضْحَتْ حَطَباً وُجودِيّاً،
وأَضْحى مَوْتُنا ميلودْراما في المَسْرَحِيَّةِ الأَخيرَةِ.
.
وُلِدْتُ قُرْبَ الفُرْنِ. في صَباحٍ ماطِرٍ.
الكَلْبَةُ نَبَحَتْ. الجارَةُ زَغْرَدَتْ.
ذُبِحُ ديكٌ. رُبَّما ديكانِ. صارَ لي اسْمٌ.
وعِنْدَما كَبُرْتُ لَمْ يَعُدْ لي اسْمٌ.
غَريبٌ في سَدومَ،
غَريبٌ في عَمّورِيَّةَ،
غَريبٌ في بَرْشيدَ..
.
دَمُ الشَّمالِ وَطَني،
أَمْ خَيالُ البَطْريقِ أَمْ مَصَبُّ البَحْرِ أَمِ الغابَةُ أَمِ الجَنَّةُ؟
لا أَعْلَمُ. لا أَعْلَمُ.
كُلٌّ ما أُدْرِكُهُ أَنَّني أَكْرَهُ النّارَ التي تُحْرِقُ الأَعْشابَ.
أُحِبُّ النّارَ التي هِيَ النّورُ.
لا يَتَعَلَّقُ الأَمْرُ بِحادِثَةٍ بَلاغِيَّةٍ في مُلْتَقى المَجازِ.
لا يَتَعَلَّقُ الأَمْرُ بِجِناسٍ لَفْظِيٍّ لَطيفٍ.
أَعْرِفُ ما أَقولُ.
أُحِبُّ النّارَ التي هِيَ النّورُ!
.
أَنا لَسْتُ ابْنَ اللهِ.
أَنْتَ شَبيهٌ ولَسْتَ الأَصْلَ.
الجيناتُ والرَّحِمُ والبُوَيْضَةُ وخُروجُ الصَّرْخَةِ مِنَ الفوهَةِ.
هَلْ كُنْتُ قَبْلَئِذٍ؟
أَيْنَ عُشُّ العَنْكَبوتِ الذي كانَ في كوخِ جَدّي مِنْ أُمّي؟
ماتَ جَدّي ماتَ العَنْكَبوتُ ماتَ النَّهارُ.
في الغَبَشِ الخَفيفِ رَأَيْتُ أَنَّ القِبابَ قَريبَةٌ.
سَمِعْتُ الباعَةَ المُتَجَوِّلينَ يَبيعونَنا في المَزادِ.
في قِبابِ البَرْلَمانِ النّارُ.
لا وُجودَ للنّورِ.
الغابَةُ هُناكَ والنَّسْناسُ ومالِكٌ الحَزينُ،
والبَبَّغاواتُ يُكَرِّرْنَ ما يَقولُهُ العَبَثُ.
أَنا لَسْتُ ابْنَ اللهِ،
لَكِنْ يَحِقُّ لي أَنْ أَعيشَ.
لِماذا أُباعُ مِثْلَ أَيِّ شَيْءٍ؟
لَسْتُ شَيْئاً. لَسْتُ أَيَّ شَيْءٍ.
لِماذا تَصيرُ جَذوعُ الأَشْجارِ صُلْباناً،
وتَصيرُ خَيوطُ الكَمَاناتِ مَشانِقَ؟!
.
أُحِبُّ الحَيَواناتِ الصَّغيرَةَ.
أَكْرَهُ الأَسَدَ. لا أَعْرِفُ لِماذا.
أُحِبُّ الفيلَ رَغْمَ أَنَّهُ كَبيرٌ.
الفيلُ كَالزَّمَنِ يَمُرُّ ولا أَحَدَ يَقْتَرِبُ مِنْهُ.
الأَسَدُ نارٌ وكَراهِيَتُهُ نورٌ.
القِرَدَةُ أَنانِيَةٌ. الذُّبابُ حَقيرٌ.
الفَراشاتُ أَخَفُّ مِنْ وُجودِها.
الوُجودُ الفَراشِيُّ هُلامِيٌّ.
الغُدْرانُ دَفّاقَةٌ كالنّورِ. البَحْرُ لَيْسَ نوراً.
الأَمْواجُ تِيارٌ كَهْرَبائِيٌّ. الدَّلافينُ أَفْكارٌ تَقْليدِيَّةٌ.
الدَّمُ لَمْ يَبْقَ في الشَّمالِ.
الثَّلْجُ والبَطْريقُ وبَياضُ الوَرَقَةِ وبَياضُ التِّلْميذَةِ.
لا وُجودَ للقَذيفَةِ.
القُدْسُ تَخْرُجُ مِنَ الغابَةِ.
قَدْ لا أَكونُ ابْنَ اللهِ. أَنا حَقّاً لَسْتُ ابْنَ اللهِ،
لَكِنَّني سَأُغادِرَ الغابَةَ وأَعْتَزِلُ نارَها،
سَأَبْحَثُ عَنِ النّارِ التي هِيَ النّورُ!مصطفى الملح ؛ شاعر يأكل النار ليلد الحياة.
النار بمعنى الحياة؛ النار بمعنى الموت..
هي الحياة التي تتحول في تيه الكتابة الى ممرات بلا بوصلة.
هي كتابة ترشق الازدوجيات لتلد الدلالة المتمفصلة في لعبة الاثنانيات التي تثير فضول كتابة تبني العالم بلغز العدم.
هي الرموز التي تخرجنا من ضجيج داخلي تحركه الكلمات؛ ليصبح سكونا يفجر المختفيات في عمقنا الذي نام طويلا. هي الحركات التي تتوقف تارة؛ لنغير الوجهة بحثا عن ذوات اخرى لانعرف هويتها؛ رغم انها تعيش في تناقضاتنا.
نص قرأته في الوهلة الاولى ففهمت منه اشارات بمعاني مختلفة. تركته جانبا فعدت الى نفسي لأرثب فيها بعض شتاتي؛ ربما يسعفني لأعود مرة أخرى الى فوضى منعرجات شاءها رجل اسمه مصطفى الملح ان تولد من جديد.
لا يهم مادامت الحقيقة لها وجوه متعددة؛ والشاعر هنا كتبها بلغة الكلمات التي تتأسس وفق صيرورة تتحكم فيها حكامة المتناقضات التي تتصارع لتبنى بصيغ مختلفة.
الشاعر أعرفه جيدا. ماأعرف عنه اكثر هو كثير الانتاج. كما اعرف عنه انه جيد الصياغات. كنت أتجنبه كثيرا؛ ربما لسبب واحد مفاده انه يوما ما سألتقي به في حضرة الكتابة؛ بسواد مغاير؛ او أعانقه في رحبة الكتابة لنتصالح معا بعتاب السؤال الشائك؛المربك؛ المتعب؛ المنتهي في معنى الغياب؛ الحالم في لعبة التحولات؛ التي دوما تلزمنا ان نتعلم اسرار الفراغ الذي؛ دوما يعاتبنا بشروخ مختلفة. أو كنت أتجنبه لأعانقه في حمق النار.
كان نص النار نار بمعنى النار؛ ربما فرصة مسعفة لنتكلم معا بلغة العيون التي ترى مايغيب عن الاخرين. فخرجت منه لأتكلم بصيغتي عنه. ربما الكلام احيانا لايكفي ان نقول كل شيء. لكن اتفقنا بدون ان نتكلم اننا سنتكلم بكلام لايشبه كلام الاخرين. فكان الكلام كلام النار كما رآها مصطفى الملح بنظرات مثيرة تنقل الصدى بضجيج الصمت الذي يقول كل شيء في اللاشيء. كنت ملزما ان اعيد الترتيب؛ ربما ان أصاحبه لأجدد التأويل؛ او أخترق فلسفة اللعب بنار النار. فكانت نارا لاتحرق؛ نارا لاترحم؛ نارا لاتترك وراءها حيا إلا وحولته جملا من السراب الذي يتشظى في متاهة التعالي بشرود الهاربين من حياة العبث. لهذا نار صديقي مميزة بمنعرجات عدة؛ لها مواصفات مختلفة؛ تتحرك بمشيئة لايعرف تربتها سوى شاعر خلق من نار لاتحرق الجماد؛ كما لا تفني الحي فينا؛ فتصبح نار صديقي متحركة بتراتبية جد محكمة؛ تسير في طريق بلا ممرات؛ تنعرج في حروف الشعر؛ الذي حوله الرجل جدالا؛ يرسم الحياة على قدر الورق.
هي نار لا كالنار؛ لانها نار النار. نار تحدد مساحة الحب؛ كما ترشق وجع الموت. تقذف وسامة النور؛ فتتحول الذات المتأملة؛ الحالمة؛ المتوغلة في جنون النار؛ نارا اخرى. فيصبح الشاعر هو عينه نار النار. بالنار يكتب النار؛ في النار يصبح هو عينه نور النار؛ كما تصبح النار في نظرة الشاعر نارا؛ بها يرى الحياة كالنار ؛ فيها يغير وجه الكون ليتشظى النار في نار الشاعر التي شاءها حبا ؛ نورا؛ موتا؛ وجعا؛ حياة؛ عتابا ؛ تصورا؛ رؤية ؛ بل شعرا منها يفهم الحياة؛ وفيها يرى وجه الطبيعة التي تركها الرب اساس الوجود؛ الذي اخترقه الشاعر ليغير الحياة فيه؛ فتصبح التمثلات كلها نار في نار. تتكلم بالنار؛ تبتسم بالنار؛ وتحيا في صياغة الرؤية التي تنولد من فلسفة النار؛ فيصبح كل شيء اساسه نار في نار؛ بالنار تتشكل النار. وفي النار تكتب الغاز الحياة؛ التي عمقها أساس الحياة؛ وقيمة لاحدود لها؛ تعيد رسم الوجود على وجع النار.
فأفهم ان الرجل استطاع ان يأنسن النار؛ ليجعل منها اساس الحياة وماهية الوجود. فاستحق الكاتب ؛ بامتياز؛ ان يكون هو ذاته شاعر النار.
يقول الشاعر:
النّــــار
.
أَكْرَهُ النّارَ التي هِيَ النّارُ،
أُحِبُّ النّارَ التي هِيَ النّورُ!
.
أَكْرَهُ النّارَ التي تُحْرِقُ.
أُحِبُّ النّارَ التي تُدْفِئُ وتُنْضِجُ.
أَكْرَهُ النّارَ التي تُحْرِقُ الغابَةَ،
أَكْرَهُ النّارَ التي تُحْرِقُ القُدْسَ وتَعاليمَ إِبْراهيمَ،
أَكْرَهُ النّارَ التي تُحْرِقُ الأَمْواتَ البوذِيّينَ وحُقولَ العائِلَةِ.
أُحِبُّ النّارَ التي تُدْفِئُ البَدَنَ المَقْرورَ.
أُحِبُّ النّارَ التي لا نارَ فيها.
أُحِبُّ النّارَ التي تُنْضِجُ الطَّعامَ في مَوْقِدِ جَدَّتي.
لا أُحِبُّ النّارَ،
أُحِبُّ النّارَ!
.
في قِبابِ البَرْلَمانِ،
لا وُجودَ لِمُحَمَّدٍ ولا عيسى ولا موسى.
في قِبابِ البَرْلَمانِ،
عَناكِبُ ودُمىً وأَراجيزُ ونارٌ لا تُدْفِئُ ولا تُنْضِجُ.
في قِبابِ البَرْلَمانِ،
باعَةٌ وسَماسِرَةٌ وكومَةُ تِبْنٍ قَديمٍ يَبْتَلِعُها الضُّيوفُ.
أَنْتَ لَسْتَ مِنَ الضُّيوفِ. أَنا لَسْتُ مِنَ الضُّيوفِ.
كِلانا، أَنا وأَنْتَ،
لا نُصَدِّقُ الرُّعاةَ الذينَ يَقودونَنا إِلى الجَنَّةِ.
لا أَحَدَ يَمْلِكُ مَفاتيحَ الجَنَّةِ.
لا أَحَدَ صاحٍ والآخَرونَ نِيامٌ،
لا أَحَدَ يَرى أَفْضَلَ مِنَ الآخَرِ،
لِذَلِكَ فَالجَنَّةُ لَيْسَتْ هِيَ الغابَةَ.
الغابَةُ حَريقٌ تَنْفُخُ فيهِ الغيلانُ.
الجَنَّةُ دِفْءٌ تَجودُ بِهِ المَلائِكَةُ!
.
لا أَحَدَ أَكْبَرُ مِنْ أَحَدٍ.
الصِّراطُ أَمامَنا وأَحْذِيَةُ الجُنودِ على رُؤوسِنا.
مِنْ أَيِّ قَرْيَةٍ جِئْتَ؟
الدَّمُ في الصِّراطِ والأَحْذِيَةِ والغَسَقِ.
وفي مَكانٍ ما يَزْحَفُ البَطْريقُ على البَطْنِ.
دَمٌ في الثَّلْجِ وفي رِجْلِ البَطْريقِ وفي القُدْسِ وفي الغابَةِ،
وفي الوَرَقِ الأَبْيَضِ لِتِلْميذَةٍ سَقَطَتْ فَوْقَها قَذيفَةٌ.
التِّلْميذَةُ تَتَّجِهُ تارَةً صَوْبَ الصِّراطِ،
وتارَةً أُخْرى صَوْبَ الجَنَّةِ.
المَلائِكَةُ يَمْسَحونَ الدَّمَ مِنْ رِجْلِ البَطْريقِ.
المَلائِكَةُ يَمْسَحونَ الدَّمَ مِنْ جَسَدِ التِّلْميذَةِ.
الوَرَقُ الأَبْيَضُ يَغْسِلُهُ مَطَرٌ.
المَطَرُ يَأْكُلُهُ جوعُ التُّرابِ.
اللهُ يَأْمُرُ بِمَطَرٍ آخَرَ.
البَياضُ يَتَدَلّى كَغُصْنٍ.
هَلْ كانَ بَياضَ الثَّلْجِ أَمِ الكَفَنِ أَمِ الوَرَقِ أَمِ الجَنَّةِ؟!
.
أُحِبُّ النّارَ التي تُنْضِجُ التّينَ،
وتَجْعَلُ الصُّبّارَ عَريضاً مْثْلَ أُذُنَيْ فيلٍ إِفْريقِيٍّ.
أَكْرَهُ النّارَ التي في البُنْدُقِيَّةِ والبُرْكانِ وفَمِ التِّنّينِ،
ورُعاةِ البَرْلَمانِ العُراةِ كَظَهيرَةٍ شِرّيرَةٍ.
لا أَقْرَأُ الأُجْرومِيَّةَ ولا أَلْفِيَةَ ابْنِ مالِكٍ،
لَكِنَّني لا أَرْفَعُ الذِّئْبَ ولا أَجُرُّ الشّاعِرَ إِلى الجَحيمِ.
بَسيطٌ مِثْلَ بُسْتانِيٍّ مُتَقاعِدٍ،
راضٍ مِثْلَ نَهْرٍ ناءٍ لا تَغْتَسِلُ فيهِ الأَميرَةُ.
لَنْ يَنْقُصَني شَيْءٌ إِذا كُنْتُ نَهْراً،
تَغْسِلُ فِيَّ العَجائِزُ صُوفَ الماعِزِ الجَبَلِيِّ.
في كِلْتا الحالَتَيْنِ سَأَظَلُّ النَّهْرَ.
لا فَرْقَ بَيْنَ شَعْرِ الأَميرَةِ وبَيْنَ صوفِ الماعِزِ.
أَخيراً سَيَكونُ لي مَصَبٌّ في البَحْرِ.
صارَ لي مَصَبٌّ في البَحْرِ.
صِرْتُ ابْنَ البَحْرِ..
.
وُلِدْتُ مِنْ أَبٍ يُرَبّي الأَنْعامَ،
ويَقُصُّ أَصْوافَ صِغارِها في الصَّيْفِ،
ويَبيعُ الخَضْراواتِ في السّوقِ الأُسْبوعِيِّ.
ومِنْ أُمٍّ تَبْني الفَزّاعَاتِ لطَرْدِ البومِ،
وتُخَضِّبُ كَفَّيَّ الصَّغيرَتَيْنِ بِحِنّاءِ العيدِ،
ولأَنَّني كُنْتُ أَحْسِبُ الحِنّاءَ دَماً،
كُنْتُ أَهْرُبُ وأَحْتَمي بِتَشابُكِ أَغْصانِ الصُّبّارِ،
وحينَ كَبُرْتُ عَلِمْتُ أَنَّ الزَّمَنَ،
أَقْسى مِنَ الدَّمِ ومِنَ الصُّبّارِ..
.
الزَّمَنٌ نارٌ تَتَّقِدُ يَوْمِيّاً.
لا تَحْتاجُ حَطَباً أَوْ وَبَرَ الحَميرِ،
لا تَحْتاجُ ذُؤابَةً أَوْ عودَ ثِقابٍ،
لا تَحْتاجُ سيقانَ الذُّرَةِ ولا الأَعْشابَ الطُّفَيْلِيَّةَ،
الزَّمَنُ يَشْتَعِلُ تِلْقائِيّاً،
لأَنَّ لُحومَنا المُلْتَهِبَةَ أَضْحَتْ حَطَباً وُجودِيّاً،
وأَضْحى مَوْتُنا ميلودْراما في المَسْرَحِيَّةِ الأَخيرَةِ.
.
وُلِدْتُ قُرْبَ الفُرْنِ. في صَباحٍ ماطِرٍ.
الكَلْبَةُ نَبَحَتْ. الجارَةُ زَغْرَدَتْ.
ذُبِحُ ديكٌ. رُبَّما ديكانِ. صارَ لي اسْمٌ.
وعِنْدَما كَبُرْتُ لَمْ يَعُدْ لي اسْمٌ.
غَريبٌ في سَدومَ،
غَريبٌ في عَمّورِيَّةَ،
غَريبٌ في بَرْشيدَ..
.
دَمُ الشَّمالِ وَطَني،
أَمْ خَيالُ البَطْريقِ أَمْ مَصَبُّ البَحْرِ أَمِ الغابَةُ أَمِ الجَنَّةُ؟
لا أَعْلَمُ. لا أَعْلَمُ.
كُلٌّ ما أُدْرِكُهُ أَنَّني أَكْرَهُ النّارَ التي تُحْرِقُ الأَعْشابَ.
أُحِبُّ النّارَ التي هِيَ النّورُ.
لا يَتَعَلَّقُ الأَمْرُ بِحادِثَةٍ بَلاغِيَّةٍ في مُلْتَقى المَجازِ.
لا يَتَعَلَّقُ الأَمْرُ بِجِناسٍ لَفْظِيٍّ لَطيفٍ.
أَعْرِفُ ما أَقولُ.
أُحِبُّ النّارَ التي هِيَ النّورُ!
.
أَنا لَسْتُ ابْنَ اللهِ.
أَنْتَ شَبيهٌ ولَسْتَ الأَصْلَ.
الجيناتُ والرَّحِمُ والبُوَيْضَةُ وخُروجُ الصَّرْخَةِ مِنَ الفوهَةِ.
هَلْ كُنْتُ قَبْلَئِذٍ؟
أَيْنَ عُشُّ العَنْكَبوتِ الذي كانَ في كوخِ جَدّي مِنْ أُمّي؟
ماتَ جَدّي ماتَ العَنْكَبوتُ ماتَ النَّهارُ.
في الغَبَشِ الخَفيفِ رَأَيْتُ أَنَّ القِبابَ قَريبَةٌ.
سَمِعْتُ الباعَةَ المُتَجَوِّلينَ يَبيعونَنا في المَزادِ.
في قِبابِ البَرْلَمانِ النّارُ.
لا وُجودَ للنّورِ.
الغابَةُ هُناكَ والنَّسْناسُ ومالِكٌ الحَزينُ،
والبَبَّغاواتُ يُكَرِّرْنَ ما يَقولُهُ العَبَثُ.
أَنا لَسْتُ ابْنَ اللهِ،
لَكِنْ يَحِقُّ لي أَنْ أَعيشَ.
لِماذا أُباعُ مِثْلَ أَيِّ شَيْءٍ؟
لَسْتُ شَيْئاً. لَسْتُ أَيَّ شَيْءٍ.
لِماذا تَصيرُ جَذوعُ الأَشْجارِ صُلْباناً،
وتَصيرُ خَيوطُ الكَمَاناتِ مَشانِقَ؟!
.
أُحِبُّ الحَيَواناتِ الصَّغيرَةَ.
أَكْرَهُ الأَسَدَ. لا أَعْرِفُ لِماذا.
أُحِبُّ الفيلَ رَغْمَ أَنَّهُ كَبيرٌ.
الفيلُ كَالزَّمَنِ يَمُرُّ ولا أَحَدَ يَقْتَرِبُ مِنْهُ.
الأَسَدُ نارٌ وكَراهِيَتُهُ نورٌ.
القِرَدَةُ أَنانِيَةٌ. الذُّبابُ حَقيرٌ.
الفَراشاتُ أَخَفُّ مِنْ وُجودِها.
الوُجودُ الفَراشِيُّ هُلامِيٌّ.
الغُدْرانُ دَفّاقَةٌ كالنّورِ. البَحْرُ لَيْسَ نوراً.
الأَمْواجُ تِيارٌ كَهْرَبائِيٌّ. الدَّلافينُ أَفْكارٌ تَقْليدِيَّةٌ.
الدَّمُ لَمْ يَبْقَ في الشَّمالِ.
الثَّلْجُ والبَطْريقُ وبَياضُ الوَرَقَةِ وبَياضُ التِّلْميذَةِ.
لا وُجودَ للقَذيفَةِ.
القُدْسُ تَخْرُجُ مِنَ الغابَةِ.
قَدْ لا أَكونُ ابْنَ اللهِ. أَنا حَقّاً لَسْتُ ابْنَ اللهِ،
لَكِنَّني سَأُغادِرَ الغابَةَ وأَعْتَزِلُ نارَها،
سَأَبْحَثُ عَنِ النّارِ التي هِيَ النّورُ!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى