د. سيد شعبان - أنا ويحيى حقي!

لا أكتمك سرا قاريء الكريم أنني لست ممن ولدوا وفي أفواههم ملعقة من ذهب؛ ذلك حديث قد يطول عن فتى درج في الحياة منذ أن أبصرها تصخب بأمواج من البشر يبحثون عن كسرات الخبز؛ غير أن أبي رحمة الله تعالى عليه كفاني في زمن الصبا وأوائل الشباب مؤونة السعي وأخلصني للقلم أسطر به ولمقاعد الدرس أتنقل بينها، فعرفت أدباء العصر قراءة تنبيء عن وعي، ومن هؤلاء أديب امتاز منهم بعذوبة لفظه وبراعة سبكه وحلاوة نسجه، أول ما كان من سطور سرده: خليها على الله، تلك الجملة الأمرية التي تترك في النفس راحة وفي الزمن امتدادا ولعل أثرها انطبع في أفعالي ومجمل أحوالي إذ درجت على رمي الأحمال على الله لا ألوي على شيء مما يعنت الناس ويتعبهم، كيف وأنا ممن ينتظرون الفرج على أبواب الرضا وحسن التوكل، ثم كان "البوسطجي" يأتي بسرد مغاير وكتابات تؤرخ للحياة بلغة غير ماهي عند طه حسين بله العقاد، تستطيع أن تقول عنه:ابن بلد صنائعي يجيد السبك والحبك في خفة مدهشة كأنه ساحر يراقص الحروف لا كاتب يرصف الكلمات.
شأن كثيرين لايحفلون بغير جمل من هنا وهناك تحسبها علما وهي خاوية الوفاض مما يثري العقل ويريح الخاطر، تعجب منه وهو الرجل عاش في أروقة الحكم وسفر بين الدول وتزي بالطيلسان إن تقل أميرا فما تجاوزت قدره أو سفيرا فما أعليت من مكانته، يكتب عن القاهرة وأحيائها كأنما لقف الجمل من الباعة في العتبة الخضراء او لعله استملح خفة دم أولاد البلد فأتى بارعا بحكايات ومسامرات تسطر الحياة الأدبية وتؤرخ لها بعد،، كيف يتفق له أن يجالس محمود شاكر عقاب العربية فيأتلفان أخوي محبة لا ندان يتصارعان، هذا يهب العربية معجما مختزنا وذاك تسري به الحياة أنفاسا فيما حولهما،
لقد كان أول القرن العشرين قدر الثقافة والأدب في بلد كان ومايزال واسطة الشرق وملتقى الحضارة، نوابغ في الفكر والسياسة والأدب
إذ يندر أن تجد في وطن العقاد والرافعي وشاكرا وطه حسين والزيات تيارات شتى والنيل واحد. فلا تعجب من رجل لم تقعده وجاهة وهي تقصر على أصحابها مكانة دونها تطلع الشداة.
فيترفعون مظنة مخالطة العامة وهم أرق قلبا وأخلص انتماء ممن درجوا في سلك وظيفي يقتصرونه على من يظنون به الرفعة.
فالرجل في مجمل كتاباته ابن طرفة تتخلل قوله، يرى المرأة البدينة فيخالها قاطرة تتماوج لكنها لايشبعها سخرية بل يبسط من خفة ظلها ما يظن بأنها طائر الأيك يشدو.
لعل كاتبا يخص أصحاب النوادر شأن كتابات أبي حسام محمد رجب البيومي في شذرات الذهب وقد كانت سطور من عجب يؤرخ لهؤلاء المبدعين كالشيخ عبدالعزيز البشري وما تندرج من تلك الطائفة من صفحات مبهرة، هب أن يحيى حقي انزوى بركنه مكتفيا بحقيبة السفراء أتراه يترك أثرا في الحياة الأدبية.
يمسك بكناشة دكانه فلا يترك قصاصة إلا استبقاها ولا محبرة إلا غمس سنان قلمه فيها.
كان حلو المفردة لايغرب فيها، يختار للعصر ما يناسبه من سرد، تستطيع حين تتصفح كتبه أن تجد روح مصر ماثلة بين يديك، وجه مشرب بالحمرة وقصر باد في بنيته لكنها الخلقة حين تستوي في أحسن تقويم، لاغرو فقد اجتمعت فيه أعراق من كرد وترك وعرب أتقن الفارسية والإيطالية والفرنسية والتركية مع عربية آسرة تنفذ إلى القلوب وتلك أدوات السفراء في عالم البيان والسياسة.
ولعل طبيعة مصر تصهر من مر بها من أجناس تسمهم بسمتها فتكون أمشاج خلق مؤتلف.
ولعل من نافلة القول أن نذكر بقدرة الأديب على رسم صورة لعالمه يطالعها الآتون فيرونها أكثر تعبيرا مما يؤرخه كتبة السير والأحداث.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى