أ. د. ابواليزيد الشرقاوي - التاريخ الخفي للشعر من الأصمعي والجاحظ إلى مصطفى سويف

للقصيدة تاريخان: ظاهر وخفي. أما الظاهر فهو ما تجده "قصيدة" ناجزة أمامك، وكل التعليقات والشروح والتأويلات التي صاحبتها منذ نشوئها حتى اللحظة الراهنة. وأما التاريخ الخفي فهو خاص بالمبدع منذ أن أتاه "هاجس" أوعز إليه أن ثمة "قصيدة" سوف تتخلق، وما صاحب ذلك من "مخاض الكتابة" بتعبير الرمزيين، وهو التاريخ الذي يلي من "الهاجس" إلى أن يستقر شكل نهائي للقصيدة يرتضيه المبدع ويدفع به إلى قارئه. أما التاريخ "الظاهر" فهو معروف، عكس "الخفي" فهو مسكوت عنه لأسباب عدة أهمها صعوبة الوقوف عليه، برغم أن الصورة المتحققة للقصيدة (الظاهر) لا تزيد عن كونها مرحلة متأخرة من هذا التاريخ (الخفي).
أتاحتْ لي الظروف رؤية شعراء يمرون بمخاض القصيدة، وعاينت ذلك وشاهدت "ولادة القصيدة" والتحولات التي تطرأ عليها وراجعتُ مسودات بعض من القصائد، واقترحت على أصحابها إجراء تعديلات، بعض هذه التعديلات لاقت استجابة، والكثير منها لم يأبه به الشعراء. عاينت مراحل تخطيط بعض القصائد وكتابتها على ورق "مسودات"، وكيف تم تعديل هذه المسودات، وفي أحيان كثيرة تستمر هذه التعديلات فترة زمنية، وقد تنتهي بحجب القصيدة ومنعها من النشر، أما القصائد التي مرت بهذا التاريخ وساعدها الحظ على الظهور للقارئ فقد مرت بتحولات وتغييرات، تصل في بعض الأحيان إلى أن تكون الصورة النهائية المنشورة غير أول مرة تم تخطيط القصيدة في مسودة، ولو أتيح لقارئ لم يشاهد "التاريخ الخفي" لهذه القصيدة لأنكر وجود علاقة بين أول مسودة والنسخة المنشورة، وقد عاينتُ ذلك بنفسي في الشعر والرواية، وثمة روايات منشورة لم تكن هكذا في النسخة الأولى، بعد أن خضعت لضغط ومط ودمج وحذف في مواطن منها، إلى أن خرجت بصورة رضي عنها المؤلف، ومن المدهش أن واحدة منها حققت رواجا جماهيريا وفازت في مسابقة مرموقة.
لاحقتُ طويلا هذا التاريخ الخفي للإبداع وتحاورت مع كثير من أصدقائي المبدعين حول هذه "الحالة"، واكتشفت أن أغلب المبدعين لا يعون هذه المرحلة باستغراقهم فيها، ولا يحسنون وصفها، أو كشف غموضها، لكنهم يؤكدون وجودها، وأنها حالة "لا واعية" يبدو المبدع فيها مدفوعا إلى القول، بعن أن ينتابه "شعور" هذه الشعور يأتيه مرارا، وفي كل مرة يتم التخلص منه بنشاط ما. كالمشي أو الخروج أو تفريغ التوتر بالأكل أو التدخين، ولكن تأتي مرة من نوبات هذا الشعور يجد المبدع أنها "حالة كتابة"، وعجز كل أصدقائي عن تمييز هذه الحالة، ولماذا لا يتم تفريغ هذا الشعور كما يحدث غالبا من خلال نشاط آخر غير الكتابة.
راجعتُ التراث النقدي والبلاغي عندنا. وجدت كلاما كثيرا حول "الطبع والصنعة" يقترب من تخوم هذا العالم. ومن المدهش أن الحديث عن "الطبع" يشغل حيزا لا بأس به من كتابات القدامى، ولكنه لا يظهر في المراجعات النقدية للتراث البلاغي والنقدي، كما أنه لا يظهر في النقد الحديث، فمن زمن متقدم، ربما في نهايات القرن الأول الهجري يظهر مصطلح الطبع وتتابع ألفاظ في التعبير عن معنى الطبع فتجد في التراث البلاغي والنقدي: الطبع والإلهام والحظوظ والغرائز والموهبة والارتجال والقول على البديهة وحسن التأليف، وألفاظا أخرى، كلها تعني: الطبع.
في بدء ظهور مصطلح الطبع تفهم أنه لا يوجد أي تاريخ خفي خاص للقصيدة، وأن هذا هو الأصل، ففي لحظة ما، ولسبب ما، يقف شخص وينطق بالشعر كما هو عليه، وأشهر تعبير عن ذلك ما قاله الجاحظ في البيان والتبيين: "وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام وليست هناك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكرة ولا استعانة وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام وإلى رجز يوم الخصام أو حين يمتح على رأس بئر أو يحدو ببعير أو عند المقارعة أوالمناقلة أو عند صراع أو في حرب فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب وإلى العمود الذي إليه يقصد فتأتيه المعاني أرسالا وتنثال عليه الألفاظ انثيالا ". هذا كلام عجيب وغريب، ملخصه: أن الشاعر يريد أن يقول فيقول، وتأتيه المعاني والألفاظ. بهذا لا يوجد أي تاريخ خفي للقصيدة، فهي بنت لحظتها، يرتجلها الشاعر من فوره. ومن المدهش أن هذا الكلام يناقض ما يروى عن سيد شعراء الجاهلية، زهير بن أبي سلمى صاحب الشعر المحكك والحوليات، وتلميذه الحطيئة، لذلك يتحدث عنهما الجاحظ بطريقة مريبة، فيصف أصحاب هذا المسلك بأن "الشعر استعبدهم واستفرغ مجهودهم" ولا يخفى ما في العبارة من التعريض بهما، وسبب هذا التعريض أنهما من "المتكلفين" في الشعر، والتكلف عند الجاحظ ومن شايعه تظهر له ألفاظ مرادفة مثل: الروية وإعادة النظر وإجالة الفكرة والمعاناة والمكابدة والجهد والكد والمطاولة ورشح الجبين والتمهل. ومن الواضح أن هذه الألفاظ المندرجة تحت التكلف، تؤكد وجود تاريخ خفي للقصيدة تعرضت فيه للتنقيح والتهذيب والروية وإعادة النظر وإجالة الفكرة ... الخ. وهذا يستغرق حولا عند زهير، من المؤكد أن الصورة التي ارتضاها لنصه الذي وصل إلى مستمعه بعد سنة قد تعرّض للكثير من التعديلات وكانت له "مسودات" لم تصلنا.
ما الذي يدفع بالجاحظ إلى هذا الرأي، وأغلب الظن أنه يعلم أنه خطأ، فهو كاتب ومن المؤكد أنه مر بحالات عقلية تسبق أي مشروع كتابي مقدم عليه، فلماذا ينكر ذلك على الشاعر؟
هذه الفقرة السابقة أتت في معرض المقارنة بين العرب والفرس في موضوع الشعوبية، وكانت الشعوبية تعيب على العرب أمورا كثيرة منها كيفية قولهم الشعر وطقوس القول وعلله، فأراد الجاحظ أن ينتصر للعرب بأرن ربط بين التكلف والتمهل والروية والفرس من جانب والطبع والارتجال والعرب من جانب آخر، وابتدأ بالفرس فقال: " وفي الفرس خطباء إلا أن كل كلام للفرس وكل معنى للعجم فإنما هو عن طول فكرة وعن اجتهاد وخلوة وعن مشاورة ومعاونة وعن طول التفكر ودراسة الكتب وحكاية الثاني علم الأول وزيادة الثالث في علم الثاني". إن وَضْعَ العبارةِ في سياقها التاريخي يوحي بأنها ملاحاة وجدل لدحض آراء الشعوبية، ولكن الغريب أنك تجد هذا المعنى متداولا لدى كتّاب القرنين الثاني والثالث وعلماء اللغة والنحو في هذين القرنين فستجد لهم عبارات ملغزة في هذا الصدد، خلاصتها أنه مما يعيب الشاعر أن يحتفظ بنصه زمنا يعيد النظر فيه وينقحه، لأن ذلك معدود عندهم من "التكلف" وهو أمر –بدوره- يُخرج الشاعرَ من الطبع ويسلمه إلى التكلف، وعلى سبيل المثال ستظهر آراء الأصمعي مَعْلَما في هذا السياق وسينقلها الجاحظ مؤمنا بها، وستنتقل عن الجاحظ مَنْ أتي من بعده، وعلى سبيل المثال، يقول الجاحظ "عاب [الأصمعي] شعره [=الحطيئة] حين وجده كله متخيرا منتخبا مستويا لمكان الصنعة والتكلف، والقيام عليه"، وينقل ابن جني هذا الرأي في خصائصه ويعيد صياغته فيقول: "كان الأصمعي يعيب الحطيئة ويتعقبه، فقيل له في ذلك. فقال: وجدت شعره كله جيدا. فدلني على أنه كان يصنعه، وليس هكذا الشعر المطبوع"، وهو تبرير عجيب ومريب، فالأصمعي –في رواية ابن جني- ينتقص الحطيئة لأن "شعره كله جيد"، وليس لأنه رديء، وهذا وجه العجب في التبرير، ويشرح ابن رشيق سبب انتقاص الأصمعي لشعر زهير والحطيئة بقوله: "يريد أنهما يتكلفان إصلاحه ويشغلان به حواسهما وخواطرهما"، وواضح أن ما يعيبه الأصمعي هو وجود "تاريخ خفي" للقصيدة، وهو نفس الرأي الذي تبناه الجاحظ واعتبر هذا الصنيع من علامات التكلف والسخافة في الفرس، وبالتالي كان من اللازم أن يكون العربي ابن لحظته، يأتيه الخاطر فيجري لسانه في نفس الثانية، ولأن الكلام ابن لحظته فمن الطبيعي أن تتفاوت حظوظ الأبيات من الجودة وأن يقع في بعض الأبيات خلل لفظي أو عروضي أو معنوي، وفي هذه الحال فإن وجود هذه الهنات في القصيدة مما يرفع من شأنها ويعلي من قيمتها لأنه يدل على أنه شعر الطبع الذي جال به الخاطر في ذهن الشاعر فانطلق لسانه من فوره بما عنّ له، فخرج "على هيئته" دون تنقيح أو تهذيب، وستجد الأصمعي سيد هذا الرأي ومَنْ أتى من بعده ينقلونه عنه ويؤيدونه في القرنين الثاني والثالث، وعلى رأسهم الجاحظ، ولعل ذكر بعض آراء الأصمعي يكشف هذا الموقف، يقول مادحا شعر أبي العتاهية إنه "كساحة الملوك يقع فيها الجوهر والذهب والتراب والخزف والنوى" وكلامه مفضلا شعر النابغة الجعدي لأنه "مختلف الشعر" وبتعبير الأصمعي "مِطْرَف بالآف وخمار بواف"، أي فيه الغث والثمين، ويعلق الجاحظ على ذلك فيقول: "وكان الأصمعي يفضله من أجل ذلك" والأصمعي نفسه كان معجبا بشعر بشار لأنه مطبوع –على طريقة فهم الأصمعي للشاعر المطبوع-، وهي الطريقة التي تتضح من وصف بشار لشعره، وقد سأله سائل عن تفاوت المستوى في شعره فقال: " إنما الشاعر المطبوع كالبحر، مرة يقذف صدفة ومرة يقذف جيفة" ومن المدهش أن وجود الجيفة في الشعر مما يرفع من قيمة الشاعر لأنه "مطبوع"، وكلما تفاوت المستوى الفني لشعر الشاعر دل ذلك على أنه مطبوع لا يعاود النظر فيما يقول، بل يقذفه لسانه من فوره، وفي تفضيل الفرزدق لسرّ تميز النابغة الجعدي ما يؤكد هذا الفهم الغريب، فيقول مادحا له: "مثله مثل صاحب الخُلقان، ترى عنده ثوب عصْب وثوبَ خزّ، وإلى جنبه سَمَلُ كِساءٍ" أي عنده الجيد والرديء والوسط، ووجود هذا التفاوت هو العلامة على أصالة الشاعر وأنه كان يقول ما تجيش به خواطره.
ومع ابن قتيبة وكتاباته المريبة، والتي يجمع في نفس الكتاب منها بين الرأي وضده، ويدافع عن كليهما، ولعل مقدمة "الشعر والشعراء" وعلو حجته فيها وصدقه وإخلاصه وسلامة منطقه، وهي مقدمة تناقض الكتاب كله، الذي كان يؤمن فيه بعكس ما قاله في المقدمة تماما – لعل مثل هذه المقدمة تصلح شاهدا سريعا على ازدواجية ابن قتيبة النقدية والبلاغية، ومنها موقفه من "الطبع والصنعة" فله آراء تساير ما سبق، وآراء أخرى ضد ما سبق تماما، ويبدو ابن قتيبة فيها مدركا –بحق- للطبع والصنعة، وهذه الآراء سوف تزدهر منذ القرن الرابع الهجري وتعمل على تغييب التصور القديم الذي قدمه الأصمعي وأبو عمرو بن العلاء والجاحظ وابن جني ومجموعة من علماء اللغة والنحو المتحدثين –عن غير قصد منهم- عن النقد الأدبي.
تطورت آراء ابن قتيبة عن الطبع والصنعة مرورا بالآمدي والقاضي الجرجاني والقرطاجني، حتى صار مفهوم "التكلف" يختلف جملة وتفصيلا عما كان عليه لدى أبناء القرنين الثاني والثالث، ولعل في شرح القرطاجني للتكلف ما يفي بالغرض، والذي ذهب فيه القرطاجني إلى أن "التكلف يقع إما بتوعّر الملافظ، أو ضعف تطالب الكلم، أو بزيادة ما لا يحتاج إليه، أو نقص ما يحتاج إليه. وإما بتقديم وتأخير، وإما بقلب وإما بعدل صيغة عن صيغة أحق بالموضع منها، وإما بإبدال كلمة مكان كلمة هي أحسن موقعا في الكلام منها، وإما بتكرار، وإما بالحيدة عن معنى تقصر العبارة عنه إلى معنى مؤد عن مثل تأديته تطول العبارة عنه".
تغيرت الأمور تماما، مع حدوث إضافة دلالية مهمة، وهي أنه أصبح الحديث عن التكلف موجها "للكلام" وليس "الشاعر"، فالموصوف بالمتكلف هو الشعر، وهذه صفاته التي أوردها حازم القرطاجني، وبذاك غاب الحديث الحقيقي عن "الشاعر" وبالتحديد عن "التاريخ الخفي" للشعر من التراث النقدي والبلاغي من بعد القرن الثالث، ومهما وجدنا كلاما عن "التنقيح والتهذيب" جيدا، كالذي ذكره النواجي في كتابه "مقدمة في صناعة النظم والنثر" فإن الحديث يكون عن "الكلام" متجاهلا "التاريخ الخفي" للشعر تماما.
سيظهر هذا التاريخ الخفي للشعر في الثقافة العربية في القرن العشرين على يد شعراء الرمزية متأثرين في ذلك بالرمزية الأوربية التي تحدثن عن "الأحوال النفسية"، وفيها ظهر الحديث عن "مخاض القصيدة" ولعل أشهر نص عربي في هذه الحقبة هو "زيارة" لبشر فارس، وهو نص معروف ومتداول.
إن حديث الرمزيين ومن سايرهم عن "التاريخ الخفي" للشعر، هو كلام شاعري غامض يوحي أكثر مما يقول، ويشي بالضجر والملل والمعاناة النفسية والضغط النفسي، وهذه كلها أمور يستشعر القارئ مدى ضغطها على الشاعر وهو يبدع هذه النصوص الشعرية، لكنها نصوص لا تقدم معرفة حقيقية بهذه اللحظة.
يتزامن مع الرمزية في اللغة العربية ظهور حديث شخصي مكتوب عن "الشعر" كما مارسه الشاعر، وهو أمر انتقل إلينا من الثقافة الأوربية، وأشهر كتاب أوربي معروف لدينا هو "سيرة أدبية" لكولريدج، إضافة إلى عشرات الكتب الرائجة مثل كتاب "الشعر والتجربة" لأرشيبالد ماكليش و"الصورة الشعرية" لسيسل دي لويس، وبالتالي تظهر كتابات عربية مبكرة مثل (أنا والشعر) لشفيق جبري، تليها كتابات ناضجة أهمها كتاب صلاح عبد الصبور (حياتي في الشعر) وعبد الوهاب البياتي (تجربتي الشعرية) وتتكرر هذه التجربة، وستجد عشرات الكتب التي تحكي السيرة الذاتية للشعر من خلال الشاعر.
هذه الكتب تجعلك أكثر "وعيا" بتاريخ الشعر الخفي، لكنها لا تجعلك أكثر "علما" بل هي تفتقد –غالبا-إلى هذا الجانب، وتتحدث عن التصورات العقلانية حول هذا التاريخ، ولعل في كتاب صلاح عبد الصبور خير مثال، وهو يحاول ربط التجربة الشعرية بالتجربة الصوفية، مستعينا بمصطلحات التصوف لتقريب هذه الحالة الغامضة والملتبسة.
في هذه السياق ستبدو كتابات مصطفى سويف مهمة جدا، ومطلوبة وتجربة فريدة غير مسبوقة، وكان من حقها أن تستمر وتتوالى لكن ذلك لم يحدث، ومن ثم فإن الصفحات القليلة التي كتبها مصطفى سويف في كتابه الرائج (الأسس النفسية للإبداع الفني الشعر خاصة) وهي (63) صفحة من حجم الكتاب البالغ (428) صفحة، ستجد فيها دراسة غير مسبوقة على الإطلاق لفهم "التاريخ الخفي للشعر" من خلال محورين: الاستخبار والمسودات.
والاستخبار هو أسئلة موجهة إلى الشعراء تدور حول خطوات عملية الإبداع، واستجاب لهذه الأسئلة سبعة شعراء، ثلاثة من سوريا (خليل مردم بك و ورضا رصافي ومحمد مجذوب)وثلاثة من مصر(محمد الأسمر وعادل الغضبان وأحمد رامي) وشاعر عراقي ( بهجة الأثري)، وهو عدد لا يكفي لبناء تصور جازم حول عملية الإبداع لدى عموم الشعراء، لكن إجاباتهم تكشف عن وعي عميق وجاد بالعملية الإبداعية، كما أن هذا العدد يكشف عن غياب هذا النوع من الدراسات، وحتى في الدراسات التي استكملت هذا المنحى، مثل دراسة شاكر عبد الحميد والمصري حنورة، فلم تكن بهذا العمق، وعلى سبيل المثال فإن دراسة الدكتور شاكر عبد الحميد ذات العنوان المطابق –تقريبا- (الأسس النفسية للإبداع الفني في القصة القصيرة خاصة) توهم بأن المؤلف يستعرض ثقافته –وهي غزيرة- على حساب موضوع الدراسة، لذلك تتوه الدراسة العلمية خلال الاقتباسات والشواهد والاستدلالات بآراء العديد من المؤلفين الأجانب، ومن ثم تظل دراسة مصطفى سويف وحيدة في هذا الباب، غير مسبوقة وغير متلوة بعمل جاد وحقيقي يكمل هذا المشروع الذي لو استمر لقدم "حقائق" عن عملية الإبداع وما يرافقها والتاريخ الخفي للقصائد المنشورة.
وفي المسودات نجد ثلاث مسودات، اثنتين للشاعر عبد الرحمن الشرقاوي وثالثة لمحمود أمين العالم، وهو عدد لا يفي لتأكيد "حقيقة" حول التاريخ الخفي للشعر، لكنه يظل عملا رياديا لم يستثمر المختصون بالدراسات النفسية هذا الفتح من بعد مصطفى سويف.
وفي نتائج الإجابات تتفق خمس إجابات بصريح اللفظ على الشهادة بأن معظم القصائد لا تبزغ دفعة واحدة دون أن يكون لها مقدمات، والإجابتان الأخريان لا تشذان عن هذا الرأي ولكنهما توضحانه. كما أن الشاعر لا يقصد إلى إبداع قصيدة على أساس "مخطط" ثابت موضوع من قبل.
ثمة إحساس بأن بعض القصائد تشبه الإلهام وتكون سلسة بالنسبة للشاعر وربما يفرغ منها في ليلة، وبتعبير محمد الأسمر: إن من الشعر ما يؤاتي في بعض الأوقات من غير إجهاد نفس، فأفرغ منه وكأنما كنت أحلم حلما هادئا جميلا". لكن هذا النوع من الخلق الفني في اعتراف الشاعر قليل، ومحمد الأسمر يصف هذا الضرب من الخلق الفني بقوله" "والذي مر عليّ من هذا قليل، وأكثر شعري لاقيت في نظمه ما كنت أشعر معه أني أحترق كما تحترق الشمعة". وهذا النوع الهادئ من الإبداع كما يقول الشعراء عنه يحتاج إلى ليلة أو يوم، وهذا واضح من إجابات عادل الغضبان عن "قصائد النوع الأول أفرغ منها في ليلتها يساعدني على توليدها تدخين اللفافة وراء اللفافة، وكلما تقدم لي مقطع أو عدة أبيات أعدتها على سمعي بصوت عال".
أما الوضع الطبيعي في إبداع الشعر فهو "الصنعة" أو "التكلف" بلغة التراث النقدي والبلاغي، وهو معاودة النظر والتنقيح والتهذيب، وهذا أمر ذكره كل الشعراء السبعة، وقاله كل واحد بطريقته، فذكر أحمد رامي " أنا لا أفهم أن يقال إن القصيدة تبزغ وقت النظم فحسب، بل على العكس من ذلك إن بعض القصائد تعيش معي فكرتها عدة سنوات قبل أن أنظمها". وقال محمد مجدوب عن آخر نص له كتبه قبيل الإجابة على أسئلة الاستخبار، إن آخر قصيدة له "هي خطرات قديمة أحسها كل يوم وتكاد تغلب على كل ما أنظم من الشعر منذ أكثر من خمسة عشر عاما، فهي إذن لم تنبثق بصورة مفاجئة وقت التأليف، بل تمخضت عنها النفس طويلا، فكانت مضغة ثم علقة ثم جنينا، حتى إذا جاء ميقات وضعها كانت مخلوقا سويا". وهو كلام قريب من كلام خليل مردم بك عن آخر قصيدة له "إن صورها عاشت في نفسي قبل الكتابة طويلا". وستجد نفس المعنى في إجابات بهجة الأثري ورضا صافي.
إن إجابات الشعراء تنسف كلام الأصمعي الذي بنى عليه الجاحظ تحيزه للعرب ضد الفرس، وردده الدارسون من بعده، فلا يمكن الوثوق بأي رأي يذهب إلى أن الشاعر يقرر الكلام فيقول، ومن ثم سننظر إلى أخبار تتردد كثيرا في التراث بعين الريبة، كما في خبر إنشاء معلقة عمرو بن كلثوم، الذي لم يك شاعرا ولا يقول الشعر، ولما حدث ما حدث من الحكاية الغريبة التي تنتهي بمقتل عمرو بن هند، وقف عمرو بن كلثوم وأنشد القصيدة ارتجالا كما هي الآن بنفس الترتيب والكلام والصور، فهي بنت لحظتها. إن مثل هذا الخبر لا يزيد عن كونه أسطورة من أساطير كثيرة عاشت في التراث العربي القديم، لا أساس لها من الصحة.
وسنجد إلحاح الشعراء على ترديد الصورة الشعرية التي غرستها الرمزية في الفن، وهي "مخاض القصيدة" وتشبيه إنشاء الشعر بحالة ولادة، وقد مر بك كلام محمد مجدوب، وهذا وصف محمد الأسمر: "حال الشاعر في معاناته للشعر أشبه الأشياء بحال التي تلد، فمعاني الشاعر وصياغته اللفظية التي تتمخض عنها انفعالاته النفسية أبياتا من الشعر ليست في الحقيقة إلا ميلاد بنات أفكار الشاعر، ولعل هذا هو السبب الأكبر لتعصب الشاعر لشعره، وحبه إياه، أيا كان هذا الشعر، كما هو شأن الأم والوالد مع أولاده".
فكرة "الولادة" هي في حد ذاتها دليل على "المعاناة" والتنقيح والمكابدة وإجالة الخاطر، وهي معان تؤكد ما ذهبنا إليه من اعتماد المنتج الشعري على "الصنعة" والمعاناة، وذكر كل شاعر وصفا لهذه المعاناة، والفكرة تتشابه لكن التعبير عنها مختلف، وسنكتفي بوصف واحد لها وهو للشاعر عادل الغضبان، يتحدث عن إنشاء قصيدة: "أبتدئ بنظمها في مكتبي وأستأنف نظمها في ضميري، سواء كنت ماشيا أو راكبا، ولقد يبرز لي معنى من المعاني أو قافية من القوافي وأنا أعمل عملا ليس بينه وبين الشعر سبب أو أحدث أحدا حديثا لا علاقة له بالشعر، فإن لم أتمكن من تقييد خواطري في وريقة أو ظرف أو رسالة أو على لفافة، أثبتها في ضميري إلى حين، وكثيرا ما استيقظت من رقادي وأنا أردد آخر بيت نظمته أو أنطق بما يتلوه". فإذا أعدنا ذكر كلام الجاحظ وأن كل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال ... وكأنه إلهام وليست هناك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكرة ولا استعانة وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام .... حتى تأتيه المعاني أرسالا وتنثال عليه الألفاظ انثيالا ". سندرك على الفور أن هذا الكلام جانبه الصواب، ولا يزيد عن كونه جدلا للرد على الشعوبية.
ستظهر "المعاناة" من خلال النظر في المسودات، وسيبدو فيها المحو والشطب والتعديل والحذف وإعادة الترتيب والإضافة، فما فعله عبد الرحمن الشرقاوي في قصيدته، وما فعله محمود العالم الذي كتب المسودة بأكثر من قلم وأكثر من خط وعلى أوراق مختلفة، مما يؤكد أنها "جلسات" وليست في "جلسة واحدة"، ويظهر ذلك من تعديل ترتيب الأبيات والتصحيح والتغيير والحذف.
إن دراسة المسودات –على قلتها-تؤكد نفس الفكرة السابقة وهي أننا بحاجة إلى دراسة هذه النقطة من جديد دون الالتفات إلى ما تردد قديما حول الإبداع ولحظته وظروفه، ومن ثم تكون القيمة المعرفية العميقة لدراسة مصطفى سويف، تلك الدراسة التي لو قدر لها الاكتمال والاستواء لأجابت على الكثير من الأسئلة التي تكشف التاريخ الخفي لكتابة القصيدة، وهو تاريخ يساهم في كشف رموز القصيدة بعد نشرها، فلا شيء يأتي من فراغ.


أ. د. ابواليزيد الشرقاوي / مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى