د. عبدالجبار العلمي - من المكتبة الشعرية المغربية المعاصرة: ديوان "براعم" للشاعر المغربي عبدالمجيد بن جلون :

عبد المجيد بن جلون شاعر وكاتب مقالات وقصاص وروائي ـ إذا اعتبرنا ـ كتابه في الطفولة رواية سيرية . وعلى أي حال ، فالرجل كان متعدد الاهتمامات ، ولو اقتصر على كتابة الشعر ـ في نظري المتواضع ـ لأنشأ عدة دواوين ولأغنى المكتبة الشعرية المغربية بشعر مليء بالخيال والموسيقى ، للأسف أضحينا الآن نفتقر إليهما فيما نقرأ من شعر على صفحات الجرائد والمجلات أو بين دفتي ديوان. ولست أدري لماذا تم إغماط حق هذا الشاعر المبدع ؟ هل لانتاجه الغزير في مجالات أخرى يد في ذلك ؟ حيث انصب الاهتمام على مؤلفاته النثرية وخاصة عمله الرائد « في الطفولة » ( سيرة ذاتية ) أو عمله القصصي ( وادي الدماء) ، أم أن الدارس المغربي قل اهتمامه بالشعر وخاصة الشعر المغربي الذي قيل في فترة طغت فيها الرومانسية ، ولم يعد يعتد إلا بالشعر المعاصر الذي يتخذ التفعيلة أساساً لبنائه ، ويمتليء بالهم الإيديولوجي خاصة مع بروز القصيدة المعاصرة في سنوات الستين من القرن الماضي وبروز نقد إيديولوجي مواكب لها ؟.
ويبدو أن الشاعر نفسه كان في قرارته ، يعتبر أن ما كتب من شعر إنما كان مجرد محاولات أولية لأديب ناشيء ، كان ما يزال يبحث لنفسه عن الجنس الأدبي المناسب للتعبير عن همومه ومشاغله ، وأفكاره . وأنه لا يرقى إلى مستوى الأدب الرفيع . ولعل عمله في الصحافة يكون له دور أساس في إبعاده عن الكتابة الشعرية، لأن الخوض في غمار الكتابة الصحفية لمن شأنه أن ينزل بالمرء إلى نثر الحياة اليومية .
والحقيقة أن ابن جلون يعبر بنفسه في مرحلة لاحقة من حياته الأدبية عن دواعي ابتعاده عن قول الشعر و انتقاله إلى فني المقالة والقصة في مقالة بعنوان: «نظرات في القصة» ، نشرها في مجلة "المناهل " . ولولا وفاؤه لمرحلة زاهية من عمره هي مرحلة الشباب ، قضاها بين أحضان أرض الكنانة، يستنشق نسمات النيل ، ويصيخ بسمعه المرهف إلى موسيقى مويجاته في الليالي القاهرية المقمرة ، لعزف عن نشر الشعر وبقي لديه ركاماً من الأوراق ، وحزماً من البراعم سرعان ما تذبل ويجف نسغها ويغمرها النسيان. والمقدمة القصيرة التي صدر الشاعر بها ديوانه بعنوان«وفاء» غنية بالدلالة على تواضع الشاعر وإحساسه بالمسؤولية إزاء هذا الجنس الأدبي الصعب المراس . لذلك اعتبر شعره مجرد « براعم » لا غير ، ما زالت في حاجة إلى أن تنمو وتزدهر ويشتد عودها. وما هي إلا نتاج فتى كان في العشرين من عمره . وما نشره وهو في سن يتجاوز الأربعين ليس إلا وفاءً لذلك الفتى الذي كانه . وليس من حقه أن يحرم ذلك الفتى من نشر أعماله على الناس ، فهي في الحقيقة ملك لذلك الفتى ، وليست ملكا له . وحسناً فعل ، فلولا صنيعُه هذا لحرم شعرنا المغربي من متن شعري متفرد فيه تجريب لأشكال متعددة . ويبدو أن روح المسؤولية أمام الكلمة، والإحساس بالتهيب من هذا الفن الحارق ، والاحترام الشديد الذي كان يكنه الأديب المغربي لقرائه ومتلقيه ، كان يجعله يحس بكثير من الحرج قبل أن يذيع شيئاً من انتاجه بين الناس.
إن وفاء عبد المجيد بن جلون لشعره الذي يمثل مرحلة من مراحل تجربته الأدبية ، لم يجعله ينشر قصائده الطويلة المتنوعة الأشكال فقط ، بل إننا لنجده يثبت بيتين شعريين من البحر البسيط في زاوية من زوايا الديوان بعد فاصل بينهما وبين قصيدة «نوم» ، يقول فيهما :
الْكَوْنُ لَمْ يَزْدَهِرْ إلاَّ بِأَوْهَامـِــي
فَقَدْ بَرِمْتُ بِأَحْدَاثِي وَأَيَّامِــي
فَلَيْتَ أَنَّ حَيَاتِي أَصْبَحَتْ حُلُمِي
أَوْ لَيْتَنِي كُنْتُ أَحْيَا بَيْنَ أَحْلاَمِي
والملاحظ أنهما وردا بدون عنوان بخلاف كل قصائد الديوان التي وردت كلها مصدرة بعناوين.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى