إيمان فجر السيد - رؤية إنطباعية لنص (لعبة كل يوم) للقاص ياسر جمعة

(لعبة كل يوم)
ياسر جمعة

يوم أمس، في فترة ما قبل الظهر، بعد الاستيقاظ والاستحمام، وأنا أشربُ القهوةَ، وجدتُني في خيالِ إحداهنَّ.. كنتُ زوجها على ما أظنُّ، أو ما يُشبه ذلك، وكانت تودُّ أنْ تكتب لي/ له رسالةً، تطلبُ منه فيها الانفصال، فانقبضَ قلبي، للحظاتٍ، وشعرتُ أني كنتُ أحبُّها.. أني أحبُّها، أنها كلَّ حياتي، ولكنَّها كانت متوتِّرة جدًا ومُحتارة: تعتصرُ جبهتَها النَّاصعة بكفها، ترفعُ خُصلةً من شعرِها البُنيِّ، تتركُ القلم من يدها الأخرى، تقوم، تمشيْ إلى شُرْفة الصَّالون، تفتحُها، تُغلقُها، تدورُ حول نفسها، تجلسُ في كنبة الأنتريه وهي تقضمُ أظافرها، تنظرُ إلى ورقتِها بعينين لامعتَيْن، تقومُ إليها، تُمسكُ القلم، تتركُه، تُمسكهُ مرَّةً أخرى، تستندُ بأيسرها، وتكتبُ بخطٍّ واضحٍ كبير:
"أين أنت؟!
أنا
مشتاقة
إليك
جدًا."
ثم تعتدلُ وهي تطويْ الورقة، تُمسكها بين أناملِها وتدخلُ غرفةَ النَّوم على أطرافِ أصابعها، ودونَ أنْ تُضيءَ النُّورَ، تضعُها على الوسادةِ بجِوار رأسه/ رأسي وتخرجُ في هدوءٍ، فأبتسمُ وأنا أتنفَّسُ في راحةٍ.. راحةٍ عمَّقتْها في روحي رائحتُها التي بقيتْ معي.. فيَّ، حتى بعد عودتي لي.. لواقعي هذا، مساءً، وما إن استيقظتُ اليوم، وقبل أن أفتح عينيَّ، متكاسلاً، على أمل في العودة إليها مرة أخرى، وجدتُني صبيًا في خيال امرأةٍ لها ملامح عجوزٍ، كان قد فارق حضنها والطفولة منذ قليلٍ، وكان يفترش الأرض، مبتسمًا، بعدما ما كان يئن متألمًا على أثر رصاصةٍ استقرَّتْ في ظهره، دونَ أنْ ينتبه في البداية، وما إن لاحظ نزفه، المتزايد، حتى ثَقُلتْ خطواته، وتباعدتْ المسافات بينه وبين زملائه الفارِّين، بعد فشل محاولتهم في صدِّ الجنود الذين يواصلون الزحف على قراهم عقب سقوط المُدن الكبرى، فما كان منه إلا أن حاول النداء عليهم كي يغيثوه، ولكن لم يجد صوته، حاول مرَّةً أخرى، فلم يصدر عنه غير آهةٍ خافتة، سمعتها أمه، التي كانت تغزل ثوبًا لأخته الصغرى أمام باب منزلها الرّيفي، فوقعتْ كرة الخيط والرقعة التي غزلتْها من يدها، وقامتْ تتحسَّس صدرها وقد أحسَّتْ بالاختناق، وما إن سقط هو صرختْ:
"ولـــــــــــــدي."
فابتسم، وشعرتُ أنه يلفظ آخر أنفاسه، فحاولتُ العودة لي، حاولتُ العود لامرأة الرسالة، أو العودة لأي ممِّن كنت أعيش في خيالهم قبل ذلك، ولم أستطع.


-----------------------
رؤيتي الإنطباعية


يقول بورخيس :
(الخيال أعظم ما يمتلكه الإنسان)

وهنا في هذا النصّ نجد خيال القاص المتفرّد أ.ياسر جمعة يُعدّد الشخوص والأحداث والأزمنة والأمكنة في قصةٍ واحدةٍ وبتركيبةٍ عجيبةٍ وكأن كلّ ما ذكرتُه صلصالاً بين يديه يتفننُ بتشكيله كيفما يشاء!
دون أنْ يُقصيه عن الواقع بل يجعل من خياله الجامح مسرحاً لخميرة الواقع المتراكم في ذهنه حتى يحررَّه على الورق عبر مروره بأطوار عديدة نتج عنها هذا النص الفارق بأبعاده الحياتيّة المختلفة عاطفياً واجتماعياً وسياسياً مُكثِّفاً المشاهد على اختلاف سقفها الزمانيّ والمكانيّ والشخصيّ لرسم الكثير من الصور ومن زوايا عديدة راصداً بشكلٍ( مكثَّف) تعقيداتها وأطوار حياتها بحرفيَّةٍ تُهيَّأ الحدث ليصير مادةً فنيَّةً قادرةً -رغم تحوِّلها عبر الحلم والخيال- على توثيقه بمكوناتٍ واقعيَّةٍ سرديَّةٍ خلّاقة كانت أحداثها مخزونةً في ذاكرته فجعلنا نعيشها عبر ضمائر كل من شخوصه بنفَسٍ سرديٍَ واحد متين استطاع تضمينه في نصه عبر تقسيم وقائعه بشكلٍ فائق النُّدرة بعقليةٍ ناضجةٍ ساهمت في...
إشراك القارئ في انفعالات النص الداخلية وماهيّة السرد غير الاعتياديَّة بفضل الخيال المبدع الذي قفز على كل ما هو اعتياديٌّ لتحقيق غايته الفنيَّة (وهي توثيق الواقع بالخيال)

*نرى القاص في بداية النص....
في فترة ما "قبل الظهر" معشوقاً( في خيال إحداهنّ )وقد يكون زوجها أو ما يشبه ذلك!

*ولا يلبث في اليوم التالي أن يرى نفسه صبيَّاً في خيال( امرأةٍ عجوز) كان قد فارق حضنها والطفولة منذ قليل؛
ليقودنا عبر خياله وبرشاقة من( تلك المرأة )التي كتبت له رسالة شوق إلى خيال( امرأةٍ عجوز) ملتاعة لسماع خبر عن( ابنها العسكريّ) الذي يقف على الجبهات مدافعاً عن وطنه.

*من خلال خياله يرسم لنا بعض (مشاهد المعركة) التي يخوضها مع (رفقائه) حتى لنحسبه هو نفسه ذاك( الابن المحارب) الذي يعتلج القلق عليه صدر أمه فيكاد القارئ...
لا يعرف من هو الكاتب حقيقةً؟!
أهو الأم ؟
أم الابن المحارب؟
( أم رفقاء المعركة)؟!
الذين فرّوا دون أن يُسعفوه بعد إصابته وفشلهم في صدّ العدوان على المدن الكبرى...
أم هو (تلك المرأة العاشقة) التي أودعته رسالة شوقٍ تحت وسادته؟!
أم نفس الأمّ التي شعرتْ بإصابة ابنها البليغة ونزفه واحتضاره وهو يدافع عن مدينته؟!
وقد أجاد القاص بذكاء ربطه بين سقوط الابن المحارب على أرض المعركة و شعورها بالاختناق لدى سقوط كرة الصوف- التي كانت تنسج منها ثوباً (لاخته الصغرى)- من يدها أمام( منزلها الريفيّ)
ليختمَ نصّه بمحاولاته البائسة للعودة إلى كل الشخصيَّات التي بنى أحداث نصّه الفارق عليها دون أن يستطيعَ ذلك!
وكأنّه يقول لنا كنتُ هؤلاء جميعاً عشتُهم كلّهم في خيالي وكتبتُهم فما عدتُ أنا مذ تقمّصتُ شخصياتهم جميعاً!

نص فارق وأنموذج يُدرَّس
هكذا يكون الكاتب المبدع ببصمته المتفرّدة و المتمرّدة على كلّ ما هو متناوَلٌ وشائعٌ واعتيادي!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى