د. عبدالجبار العلمي - عن التواصل بين المشرق والمغرب والتقدير المتبادل بين الكتاب والأدباء في هذين الجناحين من الوطن العربي

أرسل إلي الشاعر القاص أحمد بنميمون رسالة وصلت إليه من لدن الكاتب القاص المصري المعروف أحمد الخميسي ، يعرب فيها عن تلقيه الإيجابي لما يكتبه كتابنا وأدباؤنا ، وما يكنه الإخوة في مصر من تقدير لما يقرأونه من إبداع أو أبحاث ودراسات مغربية ، وذلك بعد قراءته قصته الجميلة " الحصاد الشائك " والقراءة المنشورة في الملحق الثقافي لجريدة " الوطن " التي تفضل بنشرها الصحافي الأديب الأستاذ وحيد تاجا ، وقد وددت بنشري الرسالة إرسال تحية حارة مفعمة بعبق المحبة ورحيق التقدير للكاتب القاص المبدع أحمد الخميسي .


* الرسالة

صباح الخير :
قرأ الكاتب أحمد الخميسي مقالتك عن الحصاد الشائك ، وكتب إلي برأيه التالي :
" أخي العزيز أستاذ أحمد بنميمون .. قرأت القصة أولا ، ثم قرأت مقال الأستاذ عبد الجبار في مجلة " اشرعة " ... لم أكن أتصور أنه مازال هناك نقاد يولون العمل الفني ، حتى إن كان قصة قصيرة واحدة ، كل ذلك الاهتمام وكل تلك الدقة في تفسير أبعاده المختلفة .. بل والقاء الضوء أيضا على موقف الكاتب العام وانحيازه للمهمشين.. هذا شيء رائع فعلا.. خالص التهنئة وخالص التقدير. أيضا بكل صدق للناقد أ. عبد الجبار العلمي. تحياتي واعزازي"
فما رأيك في قراءة ليست مجانية ، وإنما هي تعبير عن تقدير ؟
مع تحياتي الصادقة.


المقالة :
قراءة في قصة " الحصاد الشائك" للشاعر القاص المغربي أحمد بنميمون
من الجدير بالملاحظة أن الشاعر القاص أحمد بنميمون ، سواء في مجموعته القصصية الأولــى " حكايات ريف الأندلس " أو في مجموعته الثانية " شهود الساحة " ينحاز في العديد من قصصه إلى فئة الذين يعانون القهر والحرمان والتهميش في مجتمعنا. فهم شبيهون " بالأبطال المطحونين الذين يزخر بهم إنتاج غوغول وترجنيف وموباسان وتشخوف .. " ( 1 ) ، كما يزخر بأمثالهم الإنتاج القصصي المغربي المعاصر ، نذكر منه على سبيل التمثيل لا الحصر قصص محمد إبراهيم بوعلو وعبدالجبار السحيمي ومحمد زفزاف ومحمد بيدي وربيع مبارك وغيرهم ممن أصبحت أعمالهم القصصية مرآة للحياة المجتمعية في خصبها وتعقدها. ( 2 )
وقد جعلنا الكاتب نتعاطف مع أبطال قصصه وشخصياتها من هؤلاء المقهورين والمحرومين والمهمشين.
ولا تخرج قصة " الحصاد الشائك " التي كتبها مؤخراً عن هذا التوجه. وسيجد القارئ نفسه مسوقاً إلى التعاطف مع سكان " حومة الشوك " بصفة عامة ، ومع الشخصية الرئيسة " جنان " العاملة "برمانةً " في إحدى الحانات بصفة خاصة .

دلالة العنوان :
أول ما يصادف القارئ في هذا النص القصصي ، عتبة العنوان : " الحصاد الشائك " القائم على " العنونة الوصفية المعرَّفة " ( 3 ) ، فهو يتركب من اسم معرفة ( الحصاد ) وصفته ( الشائك ) . إنه يثير انتباه القارئ إلى أنه بصدد الولوج إلى عالم قصصي يكتنفه التناقض والغرابة ، وتسوده ألوان من المعاناة والآلام. فلفظ الحصاد يوحي بموسم الخصوبة وجني الغلال التي ينعم بها الناس ، ولكن لفظ الشائك صفة مناقضة لهذه الدلالة. ذلك أن عالم القصة ، عالم لا يحصد فيه الإنسان إلا غلال المعاناة والآلام والغربة وجراح الجسد والروح. ونجد في المتن القصصي ما يؤكد هذه الدلالة ، نمثل له بما يلي :
ـ " في حومة الشوك ، للجراح مذاق يومي " ـ " بناء حي غريب على الشوك " ـ " في إثرهم كانت سياط تهرول أحياناً بأسرع مما يهرولون. " ـ " حلم اللجوء إلى جوار بحر قد يهيئ لهجرة أبعد " ـ " هي تقف الآن حيث تلبي كل ما يطلب منها ، حتى ولو كان شديد الوخز ، لكنها وقد انحدرت من الشوك ، فقد تعودت جلدتها على قسوة الطعن ."

المتن القصصي :
تتألف القصة من سبع لوحات :
اللوحة الأولى : يصور فيها السارد ـ الشاهد " حومة الشوك " التي تقع في مرتفع يقطع الأنفاس لبلوغه ، فهي موطن البؤس والفقر وشظف العيش ، ولكنها رغم ذلك مرتع الذكريات لمن هاجرها بعيداً عن أحضان الأهل فيها.
اللوحة الثانية : نتلقى هذه اللوحة من خلال زاوية نظر " جنان " ، واللوحة تروي كيف تم بناء حي الشوك الغريب ، رغم مضايقة السلطات وملاحقتها من يريد أن يجد له مقراً حتى في حضن الشوك ، فيستقر بهذا الحضن بعض " المحظوظين " من اللاجئين إليه ، ولا يبقى لمن لم يتسن له الاستقرار في أحشائه إلا حلم ركوب البحر إلى الضفة الأخرى.
اللوحة الثالثة : يتم فيها التركيز على تصوير الفتاة الجميلة "جنان " وهي تعمل في البار ، تقدم لزبائنه المتحكمين ما يطيب لهم من شراب ، ونفسها تتقد حقداً على الشاربين ، وتمتلئ إحساساً بمرارة الذل والمهانة.
اللوحة الرابعة : محاورة بين " جنان " والسارد ـ المشارك الذي يبدو متعاطفاً معها . تقول له هامسةً : أنا من الشوك ، فيجيبها مواسياً : " جُنَّةُ الوردٍ شوكُه ". فترد معبرة عن تبرمها بواقعها : " ما أضيق هذه الحياة على كل من ولد أو كبر في حومة الشوك. " ثم تردف معلنة عن أملها في إيجاد حياة أفضل : " ألا ليتني أعرف طريقاً تسير بي إلى حيث أرى غصن ورد مورقاً ، أو حتى قبل أن يورق. "
اللوحة الخامسة : تقدم لنا حواراً داخلياً لجنان ، مشحوناً بالأسئلة المعبرة عن معاناتها وحيرتها إزاء ما يقع أمامها من أحداث ووقائع غير قابلة للفهم والتفسير ، تعكس وجه الواقع الظاهر على السطح المليء بالمساحيق الخادعة التي تخفي خلفها الحقيقة المريرة الفاجعة لأغوار الواقع الذي تمثله " حومة الشوك ".
اللوحة السادسة : يرصد فيها السارد الوضع الاجتماعي البائس الذي اضطر " جنان " الجميلة الناعمة الجلد إلى العمل المهين في البار الأمريكي الذي لم يشفع لها العمل فيه إلا جمالها ونعومة جلدها.
اللوحة السابعة : في هذه اللوحة الأخيرة من القصة يكشف لنا السارد عن البعد الإنساني في شخصية " جنان " التي رضيت بالعمل في مكان تمتهن فيه كرامتها ، وذلك من أجل إعالة أمها وإخوتها الصغار .

الفضاء القصصي :
من خلال اللوحات التي تعرضها قصة "الحصاد الشائك" ، يتبدى لنا فضاءان أساسيان :
أ ـ فضاء " حومة الشوك " ، وهو فضاء المعاناة والعذاب والفقر والحرمان . ولا يخفى أنه يلمح إلى أفضية مماثلة تنتشر في محيط العديد من

المدن المغربية.
ب ـ فضاء البار الذي تعمل فيه " جنان " تحت وطأة الحاجة والفقر ، ولا يخفى أيضاً أنه يشير إلى أفضية مماثلة ، يستغل فيها جهد الإنسان ، وتنتهك حقوقه المادية والمعنوية.
وكلا الفضاءين جارح ـ كالشوك ـ كرامةَ الكائن البشري ، وسالب بكل قسوة قيمتَه الإنسانية.
تعدد الضمائر وتعدد الرواة :
الملاحظة أن القصة تسرد من خلال عدة ضمائر :
ـ ضمير المتكلم : " بعد باب المحروق أمضي مباشرة إلى حومة الشوك " والضمير يعود على السارد ـ الشاهد . ( اللوحة الأولى )
ـ ضمير الغائب ـ المؤنث : " كانت ترى دائماً الشوكيين حين ينزلون من مرتفعات حومتهم ، وهم يتوزعون في طلب الرزق .. " ، والضمير هنا يعود على " جنان ". ( اللوحة الثانية )
ـ ضمير المخاطب : " تُشرف من أعالي الحي فلا ترى إلا الغبار والزحام وأشتاتاً من الناس ... " والخطاب موجه إلى المتلقي الذي يستقبل عملية الحكي . ( اللوحة الخامسة )
ومن خلال هذه الضمائر نلاحظ أن القصة تسرد من قبل عدة رواة : السارد ـ الشاهد على الأحداث ـ السارد ـ المشارك ـ السارد ـ الشخصية التي نتلقى الأحداث من زاوية نظرها.

رمزية الاسم :
ومما تجدر ملاحظته كذلك ، أن الكاتب لم يختر اسم بطلته بشكل اعتباطي ، بل وظفه توظيفاً فنياً له دلالته في سياق النص . فـ"جٍنان " تحيل إلى البساتين المليئة بالأشجار والثمار والأزهار والرياحين في حين أنها ابنة حومة الشوك تقول " أنا من الشوك "
إنها مفارقة لفظية ـ سخرية ( ironie ) ، فشتان بين دلالة الاسم وواقع صاحبته ، لكننا إذا عمدنا إلى حذف نقطة الجيم ، يصير الاسم حَنَان ، وهنا يحصل الانسجام بين الاسم وصاحبته ، فهي في القصة يمتلئ قلبها بالمحبة والحنو على أمها وإخوتها وحتى على سكان "حومة الشوك " التي كانت ترى معاناتهم اليومية. " فلا يزال في قلبها الكثير من المحبة لأمها ولأفراخ لم يشبوا بعد. " ، وهي تذكرنا في هذه الحالة بشخصية " نور " في رواية " اللص والكلاب " لنجيب محفوظ . ( اللوحة السابعة )
بقي أن نقول في ختام هذه القراءة لقصة "الحصاد الشائك " لأحمد بنميمون ، إنها طرحت قضايا ومشكلات اجتماعية ما زال يعاني منها المجتمع المغربي ، بكثير من الصدق والوضوح والواقعية.

عبدالجبار العلمي / كاتب وشاعر من المغرب



هوامش :

1 ـ أحمد اليبوري ، تطور القصة في المغرب / مرحلة التأسيس ، ط. 1 ، منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب ، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ ابن مسيك ، الدار البيضاء ، 2005 ، ص : 115.
2 ـ نفسه ، ص : 115 .
3 ـ انظر : بلاغة العنونة القصصية ، دراسة في القصة الأردنية ، جميلة عبدالله العبيدي ، مجلة أفكار ، عدد : 279 ، أبريل ، 2012 ، ص : 15 .







1634414267784.png




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى