الأستاذ الدكتور محمد بكر البوجي - الفكر القومي في رواية "دماء على نهر التايمز" للروائي حاتم عبد الهادي السيد

أديبنا من مصر متعدد الطاقات، هو مبدع في الشعر والرواية والنقد والمقالة الصحفية، إنه أديب ذو خبرة عالية في الكتابة الموجهة نتيجة حياته المليئة بالقراءات واللقاءات والمشاهدات، وهذه الأخيرة هي التي بلورت شخصيته الوطنية وجعلته يحمل همًّا قوميًّا عربيًا، هذا القلق دفعه لأن يكتب إلى المتلقي العربي عمومًا في محاولة منه لإيصال أفكاره وهمومه، وأفكار تصيب فكره بالتوتر والقلق الدائمين.

إنه ابن شمال سيناء، مدينة العريش، شاهد كاتبنا بعينه الماسي الذي فعلها الاحتلال الإسرائيلي في مدينة العريش، كما أنه شاهد انتصار أكتوبر العظيم وانسحاب جيش الاحتلال من العريش عام ١٩٨٢م.
إذن صاحبنا يكتب عن وعي قومي عروبي صادق، لا يريد للوطن العربي أن يقع تحت ويلات الاحتلال الصهيوني، إنه القلق الذي ينتاب الأديب العربي الحر، ويكتب بأدوات تسمح له بتوصيل قلقه وخوفه بفن أدبي جاد.
الموضوع:
يبدو للوهلة الأولى أننا أمام موضوع مطروح ومعروف، وهو علاقة الشباب العربي بالحضارة الأوربية أثناء سفره وإقامته هناك لسبب الدراسة أو الهروب من جحيم الحرب الاستعمارية، ناقشت الرواية العريية هذا الموضوع وأفاضوا فيه ابتداء من الشيخ رفاعة الطهطاوي الذي انبهر بما راه في فرنسا فأرسل إلى الخديوي رسائل تحولت إلى كتاب بعنوان"تخليص الابريز في تلخيص باريز"، وهو الكتاب الأول الذي ناقش هذه القضية وإن كنا نرى أن أول من ناقش هذا الموضوع هو الشيخ عبد الرحمن الجبرتي في كتابه "تاريخ الجبرتي." يكتب فيها رؤية المصريين وإندهاشهم حينما يشاهدون جنديًا فرنسيًا يتأبط فرنسية يسيران وسط القاهرة بإزياء تبدو غير لائقة، ثم كتب توفيق الحكيم"عصفور من الشرق"، وتوالت بعد ذلك الروايات مثل رواية" الحي اللاتيني" للسوري سهيل إدريس و"قنديل أم هاشم" للكاتب المصري يحيى حقي ثم رائعة السوداني الطيب صالح "موسم الهجرة الى الشمال" وأخيرًا رواية الفلسطيني عبد الكريم السبعاوي "الترياق في بلاد واق الواق".
كثيرة هي الروايات التي عالجت موضوع اغتراب الشباب واصطدامهم بالحضارة الغربية، إذن هو موضوع شرق وغرب، قد تصل إلى أكثر من مائة رواية بعد الحروب الدامية التي خطط لها الأمريكان والصهاينة في الوطن العربي ورحيل الشبان نحو الهجرة شمالًا.
هنا تختلف رواية أديبنا الراقي "حاتم عبد الهادي" بعنوان "دماء على جسر التايمز" العنوان يشيء بالكثير من الايحاءات، منها: ان الاحداث تدور في بريطانيا التي يمر فيها نهر التايمز في لندن، وما تشتهر به من جسور على هذا النهر، خاصة جسر التايمز الأشهر، إذن نحن امام زيارات وأحداث في هذه المنطقة . أما كلمة دماء فهي تشي بطاقة غير إيجابية، إما دماء قتل أو دماء جنسية من صلب الإنسان، نحن أمام أحداث فيها سهرات ليلية قد تؤدي إلى مجرى الدم سواء دم صلب الرجل أو الدم الأحمر نتيجة أعمال عنف، وكلمة الجسر تمنح طاقة بين جانبين، اي بين فريقين، فريق هنا وآخر هناك، فريقان يتصارعان حول شيء ما بطريقة قد تكون دموية. مفردة التايمز التي هي إنجليزية تعني الأوقات بالعربية، وتوحي بتحدي الوقت والإنجاز السريع، واتخاذ القرارات في الوقت المناسب، وهذه سمة الرواية البوليسية التي قد نجد لها خيوطًا سواء أراد الكاتب ذلك أم جاءت دون إرادته. إذن مناخ هذه الرواية مغاير تمامًا للمألوف في الروايات العربية التي ذكرناها، الموضوع يبدو جديدًا، غارقًا في الملذات وتسابق الزمن نحو صراع بين طرفي الوادي، مما زاد الأمر إشكالا هو الإهداء، إلى العرب في كل مكان علهم يستيقظون، يفهم المتلقي أن الأحداث قد تدور بين شخصيات عربية وأخرى أجنبية. عبارة "في كل مكان." تمنح طاقة تخييلية، إن العرب حتى داخل أوروبا هم جزء من موضوع الصراع، هم ضمن الطرف العربي الذي يواجه طرفًا آخرًا في مجرى نهر الحياة، نهر شرق وغرب، وعبارة علهم يستيقظون، توحي بأن مؤامرة كبرى تصاغ ضد الأمة العربية في كل مكان غير أن العرب لا يشعرون بخطورة ما يدور حولهم، لكن هناك شخصيات عربية داخل الرواية تستطيع نقل ما يدور وإلا كيف تصلنا تفاصيل المؤامرة. ربما تكون شخصيات من أقطار عربية مختلفة وليست من قطر عربي واحد هذا ما نستشعره من العنوان والإهداء.
دوافع الكتابة:
أديبنا الكاتب حاتم عبد الهادي، ابن سيناء، ابن مدينة العريش، عاش تحت الإحتلال الصهيوني لسيناء فترة صباه وبداية شبابه، ذاق مع عائلته ويلات الاحتلال وعذاباته، ترسبت في نفسه آثار العدوان ثم فرحة الانتصار والانسحاب الصهيوني من مدينة العريش عام 1982م. كان كاتبنا على وعي بما يدور حوله، ثم عمل في الصحافة وشارك الوطن العربي همومه وقلقه في مراحل تقلباته الأخيرة، كان يراقب ويرصد ويقرأ ويكتب في الصحافة العريية، إنه على دراية ببعض أساليب الدول الاستعمارية والتخطيط لتدمير المنطقة العربية والسيطرة على مقدراتها خاصة بعد سقوط غزة بيد "الإخوانجية" عام 2007 وسقوط بغداد بيد أمريكا وأوروبا عام 2003 ، أراد كاتبنا أن يبرق برسائله إلى الأمة العربية أن الخطر لا زال قائمًا وأنهم يخططون لمزيد من الانهيارات في كل الوطن العربي، إذن القلق القومي والوجودي العربي القوي هو ما يسيطر على فكر الكاتب وقلمه خوفًا من تقسيم المقسم، هذا هو الدافع الأساس لكاتبنا نحو الكتابة التحذيرية.
التجنيس:
وصف اللقاءات بطريقة راقية جدًا، كاتبنا يقيم في منطقة صحراوية شمالي شرق العريش، لكنه وللدهشة أجاد وصف اللقاءات الحميمية وكأنه يعيش هناك، كان لطيفًا وراقيًا في الوصف دون ابتذال لا في الألفاظ ولا في التشخيص، هنا يستمتع المتلقي ويحاول إعادة القراءة أكثر من مرة لمشاهد ماتعة ومثيرة، فلنقرأ جملًا مما كتب: الآن دخل محراب دانيت ص٨، سحبت مياه القوة من صخوره العاتية ص١٠، ويفترش جسدها كخلية نحل تمتص فراشته الملونةص ٢٥، وصفة سردية يختلط فيه بيئة الكاتب كلمة محراب وكأننا أمام عمل مقدس في سبيل الوطن، وكلمة سحبت مأخوذة من بيئة الكاتب عندما كان يسحب الماء من البئر في طفولته، كما أنه وصف مخلوط بوجع بيروت وفلسطين والعراق ومدرسة بحر البقر، وقتل زوجته وحبيبته الأولى "جولييت" في لبنان، إنه مخلوط بالثأر. في المقابل أجاد وصف الدماء التي تنزف في الوطن العربي جراء القصف الصهيوني الأمريكي في بيروت.
نحن هنا أمام رواية قريبة جدًا من الرواية البوليسية بحبكاتها وتسارع أحداثها وغموض شخوصها، في روايتنا توجد شخصية المخبر السري الذي يمتاز بالذكاء وسرعة العمل والمفاجئات، كذلك يتمتع الكاتب هنا بالإلتزام والانضباط الصارم ببعض التقييدات مثل الحبكات السريعة المتوالية، وتكامل المشاهد وترابطها مع بعضها بصورة مقنعة، كذلك بداية السرد كان جاذبًا بحيث يندمج المتلقي بسرعة مع السرد غير المتوقع، المبني على المفاجئات، مع الغموض والتشويق وكشف الأسرار التي كانت مختبئة ومحل شكوك، وقد أظهر حقيقة المجرمين الصهاينة بطريقة مقنعة بل ضبطهم متلبسين بالحديث المباشر عن جرائمهم في الوطن العربي، مثل: تهريب السلاح والمال وصناعة خليفة للمسلمين وعناصر إرهابية، كذلك يوضح النص بجلاء دافعية هؤلاء الاجرامية، إنها دوافع صهيونية متعصبة ضد الوطن العربي أن يكون قويًا، وقد مولت العناصر الإرهابية واقنعتها بدافع إسلامي وأفكار وهمية، لتدمير الحكومات والمجتمعات العربية الكافرة، كما يرى وكما أوهموه، وخطوط الصراع واضحة بين العناصر الصهيونية معها عناصر أوربية وبين الرجل العربي اللبناني ومعه عناصر أمنية من الوطن العربي، هنا نستطيع القول إن روايتنا هنا قريبة جدًا من الرواية البوليسية فهي تحمل معظم سماتها المعروفة عند النقاد.
الشخصيات:
الشخصية المحورية الرئيسية التي نفهم النص من خلالها، هي شخصية "مايكل" العربي اللبناني، رجل غامض لا نعرف عنه الكثير سوى أن حبيبته الأولى العربية اللبنانية" جولييت" قد استشهدت بقصف للطيران الصهيوني الأمريكي على لبنان عام 2006 م. يعيش مايكل حياة باذخة في لندن، ولا نعرف طبيعة عمله الذي أوصله إلى هذا الثراء، تتبادله النساء في كل مرحلة لكنه دومًا يعود بذاكرته إلى مقتل زوجته جولييت، وكيف قتلوها، وكيف سال دمها على جسر لبنان، تبدأ الأحداث الروائية مع فتاة ليل التي ترتب له مواعيد مع نساء يراهن في البار ، موعد مع الفجر مع دانييت في فيلا يملكها وسيارة فاخرة، ثم يتذكر الفتاة السورية "مروة" التي احبته بجنون وشاركته حياته في الفيلا فترة طويلة، تستحضر ذاكرته بين الفينة والأخرى زوجته الأولى، كيف ماتت وهي تبتسم والدم ينزف من جسدها، وصوت الطائرات الأمريكية المرعب في سماء لبنان، إنها مجزرة قانا الرهيبة بعدها قرر الرحيل إلى مدينة الضباب لندن. الفتاة "سالي" تأتيه كل ليلة وأباحت له بسرها إنها تعمل من أجل توفير علاج لأمها المصابة بالسرطان، إنها من عاصمة الرشيد بغداد، حيث شردها العدوان الأمريكي الأوربي على العراق، مايكل يعشق فريد الأطرش عندما يغني للأمة العربية ويعشق أخته المطربة أسمهان، نديمته الجديدة "دانيت" بريطانية شقراء تحب الكتابة، أخذته إلى الكتاب والنقاد، ذاع صيت مايكل في لندن، لهذا أحب دانيت، وكان يذهب الى نهر التايمز ليكتب شعرًا، إنه سحر شعري، لكن ذكريات جولييت كانت تسيطر على ذهنه، ما يكل نفهم إنه مصاب بعقدة نفسية، حرمان الغربة والضياع وذكرى زوجته، يحاول أن يثأر لها الآن في نساء لندن، هنا نتذكر الكاتب السوداني الطيب صالح في رائعته "موسم الهجرة الى الشمال"حيث كان بطل الرواية "مصطفى سعيد" يعاني العقدة نفسها ويستخدم الأسلوب نفسه للثأر، سمع في الأخبار ان الإنجليز يعيثون فسادًا في السودان، أراد أن يثار لذلك في نساء لندن، هنا تبدو أن النفسية واحدة في الروايتين وطريقة الثأر واحدة، يقول مايكل ص١٢ ( كل يوم أود الخروج والثأر من أولئك الأشرار) إنها الغربة الحارقة، يقول أيضًا ص١٣ ( نحن هنا الأمل الضائع غرباء على جسر العالم ) في الأصل كان يحب السلام العالمي، لماذا لا تسيطر على العالم روح المحبة والسلام، ما ذنب جولييت وما ذنب كل العرب الذين يموتون ص ١٣، نحن نحمل الحب والصدق والسلام لكل البشر، كان والد مايكل سفير المحبة والسلام العالمي، إنه سفير الفقراء، يدخلنا مايكل في كيفية صناعة الإرهاب ضد الوطن العربي وكيف تثير جماعة الإخوانجية العالم ضد مصر في قضية مصطنعة وهي اضطهاد المسيحيين في مصر، يتعرف مايكل على شخصية شادي، ذهبًا معًا إلى كثير من عواصم العالم وانخرطًا مع السياسة ورجال المخابرات ورجال المافيا، هؤلاء يتكلمون مع شادي بالمليارات للجماعة مقابل عملهم في الوطن العربي، يتعرف مايكل على الشابة "سيمون" وهي ابنة الملياردير البريطاني" مسيو برنارد" يهودي متعصب للصهيونية يكره العرب والفلسطينيين بالذات" سيمون" التصقت أكثر مع مايكل برضى والدها الذي كان ينوي تجنيده، ذهب مايكل إلى قصر "والد سيمون" هناك رأى شخصًا يتم تدريبه ليكون خليفة للمسلمين. ويتحدثون عن امداده بالسلاح والمال، ثم تعرف إلى شخص عربي، يجلب خرائط عسكرية من بلاده مقابل المال والنساء، مايكل وافق على صداقة سيمون رغبة منه في الانتقام منها ومن والدها الذي كان ضابطًا في جيش الاحتلال الإسرائيلي، يريد أن ينتقم لزوجته جولييت ولأطفال بيروت، إنه ينتقم من نساء لندن حتى صار مشهورا بالقوة، إنه مجذوب القرية بقوة أربعين رجلًا، يشعر أنه لا يمارس الخطيئة بل يتطهر من أوجاع الحياة ليجدد محراثه الصغير للحصاد الجديد، إنه القوي الرائع في نظر نساء لندن، كما هو عند مصطفى سعيد "في موسم الهجرة إلى الشمال" حين اطلقوا عليه لقب الماتور، أي المولد الذي لا ينتهي فوقع في عشقه معظم نساء لندن، إنه شاب أسمر طويل، قوي مثل المولد لا يتعب، من الثأر في نساء لندن، مايكل كان يلقبونه في لبنان بالرجل القومي أو الليبرالي أو الملحد، إنها دانيت يهودية الأصل، فتاة جديدة ذات ليلة تجرب مايكل، تموت فيه عشقًا وقوة، طلبت يده للزواج، إنها ملكة جمال لندن، وافق فورًا ونقلها إلى قصره، عرف منها إنها ابنة يهودي متطرف يعمل في الأمن الصهيوني، مايكل ترك سيمون وارتبط بها، إنها فرصة أكبر للانتقام، إنها تعشقه وتشتهيه كل ليلة لأنه قوة خارقة لكنها أنجبت منه عكس مصطفى سعيد بطل موسم الهجرة إلى الشمال، لا ينجب من اي امراة بريطانية حتى من أحبته وتزوجته، هنا أنجب مايكل من اليهودية ولدًا بلون أمه لكن عيناه تشبهان رمال لبنان، السؤال المطروح في الروايتين، لماذا لم ينجب مصطفى بينما انجب مايكل.
سؤال تطرحه الروايتان، نقول:
رمزية موسم الهجرة تقوم على أن الثقاقات المغايرة لا يصح لها أن تنجب طفلًا مشوهًا، ولن تنجب غير ذلك، ولم يكن مصطفى سعيد بحاجة إلى أولاد أو استقرار عائلي رغم أن زوجته أحبته، وكان يغار عليها فقتها شكًا بسلوكها، غادر لندن إلى السودان وعاش هناك ثم لم يستطع التأقلم فانتحر، بينما مايكل في روايتنا تزوج الفتاة التي عشقته وشعر أن لحظة الانتقام الحقيقية قد اقتربت، حتى يربطها أكثر كان الإنجاب، مما زاد تمسك دانيت به، دفع هذا الأب المتعصب صهيونيًا أن يوافق على زواجهما، كل هذا من أجل أن يتمكن مايكل من الحصول على الوثائق والخرائط، وكان له ما أراد.
سؤال آخر يراود المتلقي، من صلب النص، لماذا اختار كاتبنا جنسية بطل روايته من القطر العربي اللبناني، للإجابة على ذلك نعود إلى الإهداء الموجه إلى الأمة العربية حتى تدرك ما يحيط بها من مؤامرات، لبنان جزء في الوطن العربي، ذاق ويلات الحروب والقصف بالطائرات الأمريكية الصهيونية، إنها علاقة سيلان الدم مع العدو الصهيوني، يريد كاتبنا القول إنه لا فرق في الحرب بين مصر ولبنان وأي قطر عربي، إنها رؤية وحدوية لأحداث الأمة العربية. أيضًا جاء بشخصيات من سورية والعراق، شخصيات هاربة من قسوة الحرب التي تشنها أمريكا وأوروبا الصهيونية على الأمة العربية، فالمرأة العربية أصابها الهوان والذل نتيجة لهذه الاعتداءات، ينبغي على الأمة العربية أن تتوحد في وجه الخطر الخارجي.
ذهب مايكل مع زوجته الى قصر والدها، وجد على جدران القصر علامات الكراهية والحقد الصهيوني، سمع مكالمة بينه وبين والد سيمون، يتحاوران حول كيفية انقضاض الإخوانجية في مصر على الثورة الشعبية بمساعدة وكالات الاستخبارات لعدد من دول أوروبا وأمريكا وإسرائيل، لقد استطاعوا تحنيد بعض العاطلين والفقراء عبر منصات التواصل الالكتروني، كذلك تحدثوا عن تجنيد رجال في سورية للقضاء على الجيش العربي السوري والعراقي أيضًا، كانوا يعتقدون أن مايكل لا يشكل أي خطر عليهم لأنه يفكر بالجنس والخمر فقط، وهذا ما يبرر كثرة المشاهد الحميمية في السرد، شعر مايكل أن دانيت تعشقه حد الجنون، إذن ينبغي توظيفها لصالحي بأن تحضر من خزائن والدها وثائق وخرائط تمزيق الوطن العربي حسب رسومات الأجهزة الأمنية المعادية، دون طويل نقاش وافقت كيف لا توافق وهو بقوة أربعين رجلًا؟! أداء مذهل، فعلًا استجابت وأحضرت له كل ما يريد من وثائق ومواقع عسكرية وأسلحة حديثة ستذهب إلى إسرائيل، وثائق تفيد كيفية تدمير الاقتصاد المصري والدول العربية، في الجانب الآخر أرسل مايكل كل ما وصله إلى جهاز الأمن المصري، عن طريق ضابط كان يتابعه وينسق معه دومًا، إنه الضابط "جورج" الذي استلم كل شيء وعاد إلى مصر، بعد فترة قصيرة ينكشف أمر سرقة الوثائق، يأمر الأمن المصري مايكل بالهروب فورًا، يغادر لندن إلى أنقرة ثم القاهرة دون زوجته وابنه، هناك في المطار يجد زوجته وابنه بانتظاره.
طرق السرد:
استخدم كاتبنا عدة طرق للسرد منها: التذكر ( فلاش باك ) والأحلام وقصة قصيرة داخل الرواية، استخدم في السرد غالبًا الفعل المضارع بكثرة لأنه يزيد من حركة سرعة الأحداث وحيويتها كذلك استخدم صيغة التفاعل المتصارعة المتشابكة المتزاحمة. وهي صيغة معروفة في السرد العربي، على وزن ( المفاعلة ) لأنها مفردات توحي بالاشتباك الدائم مع الطرف الآخر، استخدم أسلوب التذكر عندما بواعد زوجته جولييت ويتذكر كيف قصفها الطيران الحربي الإسرائيلي، والدم يسيل من جسدها الظاهر عند جسر لبنان، هنا يعرض الكاتب ذكرياته أثناء سرده أحداث النص، السرد أكثر من العرض، وهذا طبيعي في أية رواية، كان للأحلام نصيب وافر من طرق السرد، أحلام تراوده في استقبال أكثر من امراة جميلة ينتقم منها على فراش الدم، الشيء الملفت هنا هو استخدام قصة واحدة داخل الرواية وعندما انتهى من قصته، كتب كلمة " انتهى" ص ٢٤ وهي قصة موسيقا "السيكو سيكو". وفيها قصته مع الفاتنة دانيت التي صارت زوجته وأم ابنه وقد اقتنعت بعدالة القضايا العربية وإجرام والدها، كذلك وظف الشعر في أحايين كثيرة، أكثر من أربعة قصائد من إنشائه، وبعض من أبيات الشعر لشعراء قدامى يستشهد بها في لحظة موقف معين في النص، ما جاء من معان للشعر يسهم في دفع الحدث الى الأمام، ليس رقعة نشاز داخل النص، بل هو جزء من حركة احداث النص وديمومة حركته السريعة. ربما كان الشعر في لحظة تذكر زوجته الشهيدة كما في ص ١٦، أو إعجابًا بزوجته اللندنية الجديدة كما في ص ١٦، أو حين يتذكر رحلته إلى مصر فيقول شعرا كما في ص ٢٩.
عندما نقول إن خطأ بوليسيًا في الرواية هو دليل على أن كاتبنا قد قرأ في شبابه روايات بوليسية بالذات" أجاتا كريستي" وهي أهم كاتبة للقصة البوليسية،وللعلم كانت تقيم في أسوان فترات طويلة تستاجر مركبا وتقيم فيه على ضفاف نيل اسوان وتكتب ما تريد خاصة اوقات البرد والتجمد الأوربي، استقرار شكل الرواية البوليسية في نفسية اديبنا، انعكس بشكل واضح على نسبة الغموض العالية في الرواية، سواء على مستوى غموض الشخصيات والأحداث، ثم تنكشف فيما بعد، ليس هناك حبكة كبرى واحدة إنما مجموعة حبكات صغيرة تتشكل من مجموعها لتقوم وتعتمد عليها الرواية" كل فصل له حبكة" بل قل كل حودتة له حبكته الخاصة، مع كل سيدة له حبكة، مع كل شخصية يلتقيها مايكل له حبكة، مما منح النص طاقات متواصلة وحيوية تدفق سريعة، كما النهر الجاري الذي يحمل وردًا على صفحاته، إنها رواية تستحق القراءة ليس لأن كاتبها اجاد وصف اللقاءات الخاصة بدقة وكأنه يعيش اللحظة بشخصه، لكن أعتقد أن الخيال الشرقي القارىء للرواية والخيال القادر على صنع حياة خاصة ماتعة داخل النص، هنيئا لكاتبنا هذا السرد الراقي والتميز في مضمونه.
تمتاز روايتنا بعناصر التشويق حيث يغوص المتلقي في عالم مليء بالإثارة والوصف الحسي للمرأة، ثم يوهم النتلقي إنه يعمل من أجل الوطن، فقد استطاع كاتبنا إدارة الأحداث عن بعد بطريقة سحرية جذابة، انتقل بنا الى عدة فضاءات في أغلبها ضيقة، رغم أن العنوان يوحي بالرحابة والوساع من خلال الوادي،لكن الجسر ضيق فتضيق الأحداث، والوادي أصلًا، محدود في ضفتيه وفي مجراه، بخلاف فضاء الخلاء والسماء والبحار، لهذا معظم الأحداث جاءت في فضاء ضيق، أضيق من الجسر ومن الوادي، إنها غرف وصالات، وهي أماكن تضيق بساكنيها، لكن الذهن يقوم بعملية توسيع الفضاء لما فيها من ملصقات ومعلقات تذهب بالعقل بعيدًا إلى آفاق رحبة وأوسع، خاصة قصر اليهودي الذي يعلق على جدران قصره رموزًا صهيونية، يعود بنا الخيال داخل الغرف المغلقة الضيقة إلى الوراء بالذاكرة والأحلام والتخيلات، إنه مكان ضيق رحب في توظيفه، مما جعل للرواية ثقلًا ووزنًا بخلاف الرواية البوليسية الخفيفة الهشة، هنا يبعدنا كاتبنا عن سمات الرواية البوليسية.
السرد المتنوع بالخيال يصنع من الضيق آفاقًا يتجول في أقطار الوطن العربي، كلها آفاق جعلت الرواية عربية عروبية بامتياز، إنه فن إدارة الحوار وفن إدارة الأحداث، وهي فنون تحتاج إلى كاتب متمكن، قلما يتقنه اديعب في الرواية العربية.

ملاحظة: اعتمدنا في درسنا على نسخة رقمية أرسلها لنا الكاتب.



1637689630470.png





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى