د. أيمن دراوشة - قصة وتعليق (شجرة الزيتون) للكاتب والمترجم سعيد حران

تعمد قصة شجرة الزيتون إلى رصد سيولة الفكر ، وملاحقة جريانه من خلال التداعي بفقدان الأرض والمنزل والشجرة ... وكأن الشخصية أشتات من المشاعر ، وفلذات من المواقف ، ومن ثم كان البتر الوصفي ضرورة فنية لتجسيد ما يناوش الفكر في دورانه الدائم ، وحركته المستمرة ، هذا يتطلب مهارة خاصة للقبض على تلك الموجات المتتالية ، والمنسابة في وعي الشخصية ، والتي تلمع كبرق خاطف حين تتداخل المشاعر والعواطف وتتلاصق فلذات من الأسى والتأسي ، حيث تطفو الحيرة على بطل القصة كأنها جدار داخلي ينتصب في دوران لاهث على محيط فقدان الشجرة والأرض ... قدرة القاص تتضح بصياغة الأحداث بتسلسل منطقي وترتيب محكم ، ليصوغه بكثافة لغوية مستبعدة نتوءات فكرية مملة ، بل برع القاص في الركض كالغزال الشارد في لهث الكلمات وتناسق تتبعها.

---------------------------

النص / شجرة الزيتون / بقلم / سعيد حران

يتملّك أيوبَ خوف كبير وهو يشاهد ذلك العدد الكبير من الحيات يقترب منه. يتجمد الدم في عروقه، ويحس أنه لا يربطه بالدنيا إلا أنفاس توشك أن تتوقف. تقترب منه الحيات أكثر وأكثر، وبكل ما أوتي من عزم وتصميم يقاوم، لأنّ قلبًا بين جوانحه يرفض الموت والاستسلام ويحب الحياة. ولكن في النهاية يجد نفسه عاجزًا تمام العجز، لا يقوى على تحريك أي عضو من أعضاء جسده، والأفاعي لا يفصلها عنه شيء. يوقن أنّ لحظة النهاية قد حلّت، وأنه أمام قدر محتّم لامهرب منه. في قلب هذا اليأس والانكسار يحس بصوتٍ غامض غريب يخبره بأنه سينجو، صوتٍ لا يملك إلا أن يثق بما يحمله إليه. يفتح عينيه فجأة ثم ينهض! الهدوء يسود المكان. ينظر حوله، فلا يجد غير زوجته وأولاده مستغرقين في نوم عميق، يسافر بهم بعيدًا عن هموم الدنيا ومتاعب النهار. الفجر يوشك أن يطلع. يتعوّذ بالله من الشيطان الرجيم. ثم يقوم بعد ذلك ويتوضّأ، ويذهب إلى المسجد.



تعلن شمس الصباح الجميلة عن حضورها، وتميط القرية الوادعة لثام الليل عن محياها. يعود إلى البيت، ويجد زوجته قد أعدت له طعام الإفطار، فيتناوله معها ومع الأولاد تحت ظل شجرة الزيتون، كما يفعلون دائمًا كل صباح. ينطلق بعد ذلك بعيدًا إلى مزرعته خارج القرية، ويعود عند غروب الشمس.

تمر الأيام والشهور، وتمضي الحياة مع أيوب وعائلته على وتيرة واحدة، تعزف لحن بساطة في العيش اعتادوها وأصبحت لهم وطنًا. تقرأ زوجته علامات أسى على وجهه. تتزايد هذه العلامات يومًا بعد يوم. لا تستغرب ذلك، فهي تعلم أنّ موعد سداد الدين لجابر يقترب. عندما اقترض أيوب المال من جابر ليبدأ تجارة كان يعلم أنّ هذا الرجل لا يفهم سوى لغة المال، وأنه لن يمهله يومًا واحدًا إذا حل موعد السداد. لكنه لم يكن يتصور أنّ تجارته ستفشل إلى هذا الحد وأنه سيخسر المال كله.

يذهب إلى جابر، علّه يفلح في إقناعه بتأجيل الموعد. يرفض جابر ذلك رفضًا قاطعًا، ويذكّره بأنّه سيلجأ إلى المحكمة ويقدم ما لديه من أوراق ضده. أيام قليلة تفصل أيوبًا عن ذلك الموعد. تتألم زوجته كثيرًا وهي تشاهده شاحبًا حزينًا لا يقدر على شيء. تحاول بكل ما أوتيت من كلمات إقناعه باللجوء إلى أقاربه وأصدقائه، لكنه يرفض، فهو يعلم تمامًا أنّ واحدًا منهم لن يقف إلى جانبه. تصرّ المرأة على ذهابه فيذهب، ويعود إليها بخيبة حملها معه قبل أن يذهب.

يمضي سريعًا ما تبقّى من أيام، وتضيق الدنيا بكل رحابتها بأيوب وأهله. يأتي إليه جابر ويعرض عليه حلًّا:

- يمكنك أن تتنازل لي عن هذا المنزل مقابل المال الذي اقترضته مني.

- إياك أن تعود للحديث في هذا الأمر مرة أخرى، فهذا البيت أغلى ما أملك.

- إنما أردت أن أجنّبك دخول السجن يا صديقي، ليس أكثر.

يطرق أيوب جميع الأبواب، لكنها توصد في وجهه. يبقى أمامه يوم واحد. جبال من الهموم تطبق على صدره، وتثقل كاهل قلب بين جوانحه لا يحمل سوى الرحمة والشفقة، وحب الخير لمن حوله. تشتد أنياب الكرب حدّة، وبكل ما في الدنيا من حزن وأسى يجد نفسه مجبرًا على قبول ما يعرضه عليه جابر.

تتهلل بشائر الرجل، وترتسم على وجهه ملامح فرح تزيد تقاسيمه بشاعة وجشعًا.

- حسنًا يا صديقي!

- لكن لي شرط واحد.

- ما هو؟

- شجرة الزيتون! سآخذها معي ولن أتركها لك.

شرط لا يتردد جابر لحظة واحدة في قبوله.

يحلّ يوم الرحيل، ويجلب معه على تلك الأسرة من الألم ألوانًا. يحمل أيوب فأسه ويبدأ بالحفر حول الشجرة، ويحرص كل الحرص على أن يقتلعها من جذورها، وألا يترك منها شيئًا. يحفر ويحفر ويحفر. يتجمع حوله الجيران. يواصل الحفر ولا يصل لشيء. ينال منه التعب الشديد، لكنه لا يتوقف. تمضي ساعات، ويأتي مزيد من الناس. وتبقى شجرة الزيتون منتصبة في مكانها، كأنما تقول بكل شموخ: "لا أحد يستطيع اجتثاثي من هذه الأرض!" يتابع أيوب عمله، لكنه يدرك أخيرًا أنه لن يقدر على اقتلاع هذه الشجرة المباركة، ويدرك أنها تلومه على انحنائه أمام عاصفة لن تدوم. ينظر إلى جابر، الذي تفتضح في وجهه معالم خيبة كبيرة، ويقول له:

- افعل ما بدا لك أيها الجشع، فإني لن أتنازل عن بيتي وأرضي ما حييت!

ينتشر خبر أيوب في القرية، فيقع في نفوس أهلها موقع الدهشة والألم. ويحس أقاربه وأصدقاؤه بالخزي والعار لتخليهم عنه في محنته وكربه الشديد، وتركهم إياه فريسة لأطماع جابر، فيجمعوا له ما يحتاج من مال ليرده إلى صاحبه.

يبقى أيوب وأهله في أحضان بيتهم الدافئ، وتبقى شجرة الزيتون منتصبة عالية، تزيّن المكان وتباركه. وتغدو رمزًا للثبات والأمل واجتماع القلوب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى