صابر رشدي - ديالكتيك

- إنه الخوف.
= لكنه يزول مع مرور الوقت.
- إنه الفقر.
= لا يهم مادام مصحوبًا بالستر.
- إنه الطاعون.
= لا داء بلا دواء.
- إنه القهر.
= رحمته وسعت كل شيء.
- لن أدعه يتجرع كل هذه العذابات وحده.
= أنت لا تقرأ الغيب.
كان الحوار يتنامى حول هذه المعاني بين رجل وامرأة، يتدثران بملابس عادية، ملامحهما المرهقة تتوجع تحت ثقل ذكريات أليمة.
المرأة. تحمل طفلًا صغيرًا، تدافع بقوة عن وجوده. الرجل. يحاول اقتلاعه من بين يديها، راجيًا ألا تمانعه، فالأشياء من وجهة نظره فقدت طابعها الطيب.
كانا يتجادلان وسط غيمة كبيرة، في مسائل جوهرية، على نحو فلسفي عميق. المرأة تتحلى بالصبر، وتمتلك اليقين. الرجل ميال إلى الشك والعدم، بدا ذلك واضحًا مع تصاعد الحوار، ودخوله مناطق أخرى، أكثر صعوبة وأقرب إلى الإبهام، أفكار كانت تتجاوز حدود عقلي وقدرتي على الفهم. حتى أخذ الطفل يبكي مغطيًا بصراخه هذا الديالوج العسير، بكاء أيقظني من نومي العميق، وأنا أحاول تذكر الكلمات الأخيرة المتناثرة من هذا النقاش الرفيع، ظل الطفل يبكي، كان بكاؤه قادمًا من الشارع في هذه المرة. صوتًا حقيقيًّا، خارج حلمي، استطعت التقاطه بسهولة، وهو يتصاعد بإلحاح متواصل يجوس في سكون الليل، مقتحمًا وعيي الذي بدأ في الإفاقة في هذه اللحظات، فاقتربت من النافذة بحذر، ربما كنت واهمًا، أو مستغرقًا في بقايا يقظة خاملة، نظرت جيدًا، وجدتهما، المرأة والرجل، قادمين من بعيد، يدبان فوق الأرض بخطوات بطيئة ومتمهلة، على هذا الإيقاع الباكي.
وفي استكمال واقعي للحلم، بعيدًا عن الهذيان، راحت الأمور تتضح وهما يقتربان. كانت المرأة تنتحب في صمت، والرجل يتطلع إلى الطريق بنظرة متشائمة، لم يكن أمامي سوى حبس أنفاسي أثناء مرورهما تحت نافذتي؛ حتى لا يشعرا بي، وتفسد الرؤية بأكملها. كان السكون شاملًا، لا يجرحه إلا صوت الطفل الذي صار خفيضًا، مجهدًا. كنت أراقبهما متسائلًا: أين ستقودهما تلك الخطى؟
فكرت في النزول، واقتفاء أثرهما، خوفًا من المصير المظلم الذي أراده الرجل، مستحضرًا بعضًا من هذه المناظرة، حيث كنت أحاول الاحتفاظ بها حية في ذاكرتي، فقد كانت تدور في نسق غير عادي يقوم على الدحض القوي والآراء المذهلة.
بلا نية للتراجع، كانا يواصلان السير في إصرار قدري، حتى توقَّفا أمام أحد البيوت المجاورة، أشار الرجل بعدها إلى الباب، فاستجابت المرأة ووضعت الطفل وفق رغبته، ثم واصلا السير مرة أخرى، لا يلويان على شيء.
بدأت الشكوك تساورني. عدت مرة أخرى إلى المحاورة. لم أجد ما يثبت أن هناك علاقة عابرة، وأن ملامحهما لم تكن موسومة بعلامات الخطيئة، رغم البؤس البادي عليهما. لكني توقفت عن التماس الأعذار لهما، عندما فوجئت بظهور عدد من الكائنات الشائهة واحتلالها المكان في لمح البصر. شعرت بالغضب وأنا أراها تقترب من الطفل، وندمت على عدم نزولي لإنقاذه من بين أيديهما قبل أن يتركاه لهذا المصير، وتملكني شعور بأني شريك فيما يحدث.
كانت هذه المخلوقات تقترب، خطوة بعد أخرى، ثم تتراجع عند نقطة معينة، لا تستطيع تجاوزها قيد أنملة. بدأ ذلك واضحًا في اهتياجها المرعب، وعجزها حيال هذا الحاجز اللامرئي، المحيط بالولد.
كنت أتابع ما يدور، آملًا في انبعاث معجزة، فالطريق مقفر، وفكرة النزول وحدي تعد مجازفة، تسمرت عاجزًا، أشاهد هذا الصراع الضاري، المثير للفزع، وتمنيت في هذه اللحظات امتلاك قوة خارقة، ربما أمدتني بالشجاعة اللازمة، فأنا أعرف نفسي جيدًا، أعرف أني سأظل رهين حالة من الشعور بالذنب والإحساس المرير بالندم.
كنت مكتوف اليدين، معذبًا بهذا التخاذل، أود لو أستغيث بالعالم، وأصرخ عاليًا، أوقظ كل البشر، انعقد لساني، ولم أعد قادرًا على النطق، فقدت القدرة على الفعل وأنا أنظر من النافذة، مضطربًا، كشاهد إثبات على عجزي المهين، لا أدري ما العمل.
كانت لحظات عصيبة، تمر ببطء، لا تريد أن تنقضي. أحبطني فيها عدم عودة المرأة والرجل، لقد مضيا، مختفيين عن العالم بأكمله، كنت أنتظر عودتهما، طوافهما حول المكان مرة أخرى، كمجرمين يريدان الاطمئنان على دقة عملهما، ومراقبة ما يحدث، لكن لا شيء، لا أثر، فقط، صراع ضاري، يجرى على مقربة مني، حتى توقف ذهني عن إيجاد حل للخروج من هذا الكابوس.
لم يكن هناك جديد حتى أضيف إلى المشهد عنصر آخر، ولاحت نقطة ضوء في الظهور، احتل الأبيض موقعه في مواجهة الأسود، ظهر رجل بملابس بيضاء، لم يثر ظهوره أية بادرة لدى هذه المخلوقات، لم تشعر به، ولم تره أيضًا وهو يلتقط الولد ويخلع عنه ملابسه، ملقيًا بها فوق الأرض، ليستره بعدها بثياب أخرى ناصعة، كانت لا تبصر شيئًا، لا ترى انسحاب الطفل من المشهد، واختفاءه مع الرجل. كان ديالكتيك آخر، مخالفًا، مواصلة خفية لخلود الجدل بمعناه القديم. لم يبق على الأرض سوى أردية مهلهلة، كانت ملقاة فارغة، لا شيء داخلها. فانقضت هذه الوحوش عليها، وجعلت تنهشها وهى ثائرة. وتحت سطوة هذا الاهتياج القاتل والشعور بالخديعة، استدارت تلتهم بعضها بعضًا، بشراسة مروعة، عبر صراع مشروط بالتلاشي، والإبادة الكاملة، باستثناء كائن وحيد ظل واقفًا بعد هذه المعركة، لم ينصرف من مكانه، حتى يهضم ما التهمه، ويراقب أشياء لم أكن أراها جيدًا، أشياء تحوم في المجهول والعتمة الكاملة.
بعد اطمئناني على الصغير، وارتياحي لما حدث، فكرت في غلق النافذة، ولكني فوجئت، مرة أخرى، بالمرأة والرجل، ودهشت لعودتهما في هذه اللحظات التي لم أكن مهيَّأً فيها لأى مفاجأة، فقد كان ذهني شاردًا، وفقدت قدرتي على المتابعة، فقررت العودة إلى النوم، والدخول مجددًا في ثنايا الحلم، لاستكمال ما سيحدث، بهدوء، وبأعصاب غير متوترة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى